هل حقًا يكتفي محمد سعيد الريحاني برواية ما جرى بين الكلاب، أم تراه يرمز للبعيد وقد اختار لفظة كلاب للتعبير عن صفة وليس عن حقيقة. يبدأ الكاتب مقاله باستشهاد من زيغ زيغلر Zig Ziglar يذكر فيه العض وهو أيضًا من صفات الكلاب، يقول: "لا تدع النقد يعكر صفو تفكيرك. وتذكر أن المذاق الوحيد للنجاح عند بعض الناس هو طعم تلك العضة التي ينالونها منك" ليس لديه ما يُسرق: لا أثاث ولا أواني ولا أطفال ولا امرأة... ليس له غير لباسه. ومع ذلك فهو يغدق الخبز على كلاب ضالة لتحرس باب بيته المتداعي في هذا الحي من طوق الفقر الصفيحي حول المدينة. كلاب جوعى مثل هذه لا يمكنها حراسة أحد أو حمايته من المعتدين ولكنها قد تدرك أن عليها رد الجميل لمن يفتت لها الخبز كل صباح بنبحة أو نبحتين ليلا إذا ما حاول متطفل أو معتد الاقتراب من الباب.
الصباح ضبابي وقارس البرودة. يخرج الرجل من بيته يجلس على العتبة. تقترب منه الكلاب في فئات متباينة، اثنان يقتربان منه أكثر يلحسان يديه وحذائه، والخمسة الباقون يقفون بعيدًا.البرد قارس. الرجل والكلبان ينفثان دخانهما على بعضهم البعض، يتبادلون الأنفاس.
انسحب الرجل إلى داخل البيت ثم عاد بحُجْر قميصه مملوءً خبزًا، قطع يابسة طغى على أغلبها صوف أخضر نتن. شرع يفتتها للكلبين اللذين يصفقان بذيلهما فرحا ويلهثان من انفتاح الشهية ويلتفتان بين الفينة والأخرى للتأكد من احترام باقي الكلاب الخمسة للمسافة الفاصلة بينهما.
ينتهي الرجل من تفتيت الخبز للكلاب، يمرر يديه على عنقيهما رضا واستحسانا، يغلق باب البيت ثم ينصرف مبتعدا عن طوق الفقر باتجاه مركز المدينة طلبًا ل " طرف الخبز".
الكلبان الآن، يفترسان فتات الخبز على الأرض في شخير مبالغ فيه لتنبيه الكلاب الخمسة في الخلفية القريبة وردعهم عن كل تفكير في الاقتراب والمضايقة.
تفهم الكلاب الرسالة : ترقد على الأرض تتفرج وتنتظر. الكلبان يأكلان الخبز المفتت بشراهة ويشخران بجنون ويلتفتان كل دقيقة صوب الكلاب الخمسة الهزيلة ليجددان التحذير بمنع الاقتراب منهما.
الكلب الذكر يريد الانصراف لكنه يفكر في مصير الخبز. ينظر إلى الكلاب الراقدة قربه وقد اصطنعت لامبالاة زائفة ثم ينظر إلى الخبز المتبقى على الأرض. يتروى قليلا ثم ينحني، يأكل مع الكلبة الأنثى بتأن. يرفع رأسه ليبتلع ما بين فكيه. يبتلع الخبز بصعوبة ظاهرة من خلال عينيه الجاحظتين من فرط التكلف. ينظر إلى الكلاب الخمسة وراءه. يكشر عن أنيابه. يزمجر.
الكلاب أوفياء لدور اللامبالي الذي رسموه لأنفسهم: مستلقون على بطونهم، يتنفسون بهدوء وهم يرمشون...
يعود الكلب للأكل. القطعة الأخيرة من الخبز استعصت على الهضم. لكنه واصل المحاولة تلو المحاولة حتى انهار أرضا وبدأ يسعل ويشخر ويركل الأرض حوله في محاولة لدفع قطعة الخبز اليابس الذي تخنقه إلى داخل معدته. يسعل ويشخر ويركل ويدور على الأرض كعقارب ساعة مجنونة. يركل ويدور، يركل ويدور. الأرض تحته صارت أنظف تحت النفخ والسعال والشخير والركل والتمرغ.
في الخلفية القريبة، الكلاب الخمسة، دائما راقدون في إقليمهم الآمن غير آبهين بالكلب المحتضر، يتفرجون فقط على الكلبة الأنثى وهي تأكل وتزمجر وتلتفت إليهم بين الفينة والاخرى غير واثقة من لامبالاتهم.
يطالها التعب والتخمة. تستريح أمام الخبز التي يركلها قربها الكلب المحتضر. تشم القطع المتبقية قطعة قطعة. تقف ثم تجمع منها ما استطاعت جمعه بين فكيها. تلتفت إلى الكلاب الخمسة: الكلاب في أماكنها تنظر وترمش في لا اكتراث مقتن. تزمجر زمجرة تحول دون قوتها كثرة الخبز بين فكيها. الذباب يفترسها. تحاول نفض أذنيها فتسقط الخبز من فكيها. تنحني لجمعها كلها في فمها، تجمعها، تبعد متباطئة تحت ثقل الخبز في أمعائها وبين فكيها. تبتعد ملتفتة بين الفينة والأخرى صوب باقي الكلاب وباقي قطع الخبز المفتتة على الأرض. تنعطف ويغيب أثرها لبرهة من الزمن.
تقف الكلاب الخمسة، فجأة. يتروون في وقوفهم. يتقدمون بحذر بالغ نحو قطع الخبز قرب جثة الكلب الميت. ينظرون وراءهم إلى المنعطف حيث اختفت الكلبة. ينقضون على الفتات. يفترسونه وهم يلتفتون دوريا إلى الوراء درءً للمفاجأة والعقاب. يفترسون الفتات بأضراسهم ويروحون عن خوفهم بأذيالهم.
أخيرا، تظهر الكلبة مسرعة. ثدياها تتأرٍجحان بين أرجلها وتلامسان نتوءات الأرض. ينتبه الكلاب الخمسة لحضورها. يثبون. يغادرون المكان. يفرون بجنون دون التفاتة إلى الخلف. تقترب الكلبة من مكان الخبز: لا شيء. تنظر إلى الكلاب المغيرة وقد صارت خمسة نقط في البعيد لا زالت تركض وترسم في جريها مستقيمات متوازية ومتقاطعة ومتعامدة ولكنها لا تتوقف عن الجري بعد امتلاء مختلس ونجاة صعبة من أنياب كلاب تؤثر الموت من التخمة على اقتسام الفتات.