كانت شمس المغيب قد رست على الأفق وبسطت، للتواصل مع الشاطئ، جسرًا بلوريًا يتلألأ على صفحة البحر الذي يداعب بأمواجه الخفيفة قدمي الطفل الحافيتين: يدفعهما بلطف حين يتقدم نحو الصخور ويسحبهما معه حين يتراجع إلى زرقته، يدفعهما ويسحبهما، يدفعهما ويسحبهما... سأل الطفل أباه مشيرا إلى البحر:
- أبي، إذن هنا تعيش القروش؟
فأجاب الأب مطمئنًا:
- نعم، ياعزيزي، ولكن بعيدا من هنا، هي تفضل المياه الدافئة في أعالي البحار.
- هي قوية!
- نعم، يا بني: القرش هو ملك البحر ...
- وهنا في البر، من ملك البر ؟
- السبع، يا ولدي. السبع هو ملك البر والغاب.
- ومن الأقوى، السبع أم القرش؟
كان الطفل يبدو متحمسًا للموضوع. ربما كان يتصور، أمام عينيه، كل سؤال وكل جواب قصة مصورة وينتصر لأحد شخوص الحكاية.
انتبه الأب للأمر فأجاب على السؤال بسؤال آخر:
- وكيف لأحدهما أن يتفوق على الآخر وكل يعيش في مملكته؟ السبع في الغاب والقرش في البحر. وحتى إذا ما حاول الواحد منهما أن يغير على الآخر مات اختناقا إما على التراب، إذا كان قرشًا، أو داخل الماء، إذا كان سبعا.
-
ابتسم الطفل راضيا وظل ينظر إلى البحر بإكبار وسأل:
- وماذا هناك في البحر؟
- الحياة.
لم يفهم الطفل قصد أبيه فاستدرك الأب الموقف:
- يوجد في البحر نفس ما تراه على البر حولك، يا ولدي: الجبال والهضاب والوديان والأغوار والأشجار والأحجار والنباتات والضياء والظلام... إن الحياة هنا، في البر، تقابلها حياة موازية في البحر. وحيوانات البر تقابلها كذلك أسماك في البحر.
- وهل تتسع كل هذه التضاريس والأحياء والأشياء داخل البحر؟
- ما يوجد في البحر أكبر حجما وأكثر تنوعا مما يوجد في البر.
ضيق الطفل عينيه وهو ينظر بعيدا إلى الأفق:
- ولكن سطح البحر سطح هادئ بلا نتوءات ولا رؤوس تطل ولا ذيول تخبط في الماء!!!
- لايغرنك السطح، ياولدي.
رفع الأب بكفه وجه طفله الصغير إلى الأعلى وقال له:
- هل ترى تلك القبة الزرقاء الهادئة؟
- السماء، يا أبي؟
- تلك سماؤنا وسماء السباع. أما سطح البحر فهو سماء الأسماك والقروش.
ثم بعد فترة، أضاف:
- إذا خرج البحريون عن سطح البحر، سمائهم، اختنقوا وماتوا. وإذا نحن البريون أطللنا برؤوسنا خارج سماءنا، احترقنا ومتنا!
ثم استطرد:
- لكل، يا ولدي، سماؤه. هناك أشكال من العوالم وأشكال من المخلوقات وأشكال من طرق التفكير وأشكال من سبل العيش... هناك اختلافات لانهائية في هذه الحياة. وهذه الاختلافات هي سر الحياة الكبير ونبع غناها الأكبر. ولولاها ما كنا لنستمتع بهذه اللحظة وبهذه الوقفة على هذا الجمال الذي سيجعلنا نعود للبيت أكثر تجددا وأكثر سعادة.
كانت الشمس قد بدأت تسحب بساطها المضيء عن سطح البحر وتختفي رويدا رويدا في الأفق بين السماءين حين شعت السعادة في جوارح الطفل وهو يعلن من وحي اللحظة الملهمة:
- الحياة رائعة، يا أبي!
قالها وهو يضم يده إلى يد أبيه: الأب ينظر إلى السماء والطفل إلى البحر.