لا أدري لماذا تذكرت وأنا أستمع إلى أغنية (المعلم) للمغني البريطاني المسلم سامي يوسف التي يتحدث فيها عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، لا أدري لماذا تذكرت رواية الكاتب الكبير علي أحمد باكثير رحمه الله (ليلة النهر). وعلي أحمد باكثير (1910-1969) الذي تمر ذكرى وفاته في شهر (نوفمبر) هو صاحب رواية (وا إسلاماه) الذائعة الصيت التي كانت مقررة على الطلاب ضمن المناهج الدراسية في كثير من الأقطار العربية، وهو صاحب المسرحيات الرائعة مثل (مسمار جحا) و(سر الحاكم بأمر الله) و(سر شهرزاد) و(إخناتون ونفرتيتي) وتعد مسرحيته الطويلة التي أسماها (ملحمة عمر) والتي تتكون من 19 جزءاً تعد ثاني أطول عمل درامي في تاريخ المسرح العالمي بعد مسرحية (الحكام) للكاتب البريطاني توماس هيردي.

أما رواية (ليلة النهر) فهي ثالث عمل روائي لباكثير، بعد (سلامة القس) و(وا إسلاماه)، وقد نشرها عام (1946). ولنترك باكثير نفسه يحدثنا – في المقدمة- عن محتوى هذه الرواية، يقول باكثير:
"في وسعك أيها القارئ الكريم أن تشهد في هذا الكتاب ما يشوقك من حياة الموسيقار المصري العظيم المرحوم الأستاذ فؤاد حلمي. وقد استقيت حوادث هذه القصة وأخبارها من كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة بصاحب السيرة، غير أن معظمها تلقيته عن صديقه الحميم الأستاذ مراد السعيد الذي تفضل فأعارني مذكراته عن تلميذه الكبير ولم يضن علي بشيء أردت الإطلاع عليه من شؤونه وأحواله إلا ما يراه من قبيل السر الذي لا يذاع. وقد وجدته –حفظه الله- منهمكاً في إعداد الكتب التي ينوي إخراجها عن الفقيد العظيم يجمع في أحدها جميع نوتاته الموسيقية ويجمع في ثانيها قصائده الشعرية وخصص الثالث لدراسة حياته العاطفية والظواهر النفسية التي انبثقت عنها وتفسيرها على ضوء علم النفس الحديث. هذا إلى بحثه العظيم الذي اشتغل به من قديم لإحياء الموسيقى العربية وحل رموزها وضبطها على نحو ما تضبط به الموسيقى الحديثة. فسح الله له في أجله حتى ينجز آثاره العظيمة ويبلغ من خدمة الموسيقى العربية المصرية ما يريد."

وقد استطاع باكثير بهذه المقدمة أن يوهمنا بأن بطل روايته هو شخصية من الواقع. والحق أن باكثير قد (خلق) هذه الشخصية ليوصل إلينا وجهة نظره في موضوع الغناء والفن عموماً، الذي انقسم المسلمون فيه بين رافض له إطلاقاً، وبين متقبل له على علاته. ففرق باكثير في هذه الرواية -من خلال بطلها المطرب فؤاد حلمي- بين الفن والغناء باعتباره وسيلة من وسائل التعبير عن لواعج النفس وأشواق الروح، وبين ما يتصل بالغناء ويرتبط به من منكرات وموبقات تنسب إلى الفن والفن منها براء مثل الرقص الخليع وتعاطي المسكرات والوقوع في الفواحش كالزنا وغيره.

فالمطرب فؤاد حلمي –بطل الرواية- فنان عظيم يجمع في برديه بين الشاعر والملحن. فهو يضع اللحن ثم يصوغ أبياتاً عليه، وقد طبقت شهرته البلاد وأخذت الإذاعة تنقل حفلاته نقلاً مباشراً، ولكنه ظل رغم هذه الشهرة وهذه المنزلة التي بلغها، شاباً خجولاً باراً بأمه، مستقيماً لا يعاقر الخمر ولا ينغمس –شأن غيره من أهل هذا الفن- في المجون والخلاعة، أحب فتاة حباً عذرياً عفيفاً ولكنها تزوجت من غيره فعاش على حبها وذكراها. وهو يرفض الغناء في الكازينات لأنها –في رأي أستاذه مراد السعيد- "مباءات للفساد تقتل الأخلاق والفن معاً وعلى الحكومة أن تقفل أبوابها صوناً لأخلاق الشبان والفتيات وحفظاً لسمعة البلاد وكرامتها"( ) وهي إنما "تتخذ من دعوى الفن ستاراً تخدع به الجمهور الساذج".

وبطل الرواية المطرب فؤاد حلمي يمقت الرقص الخليع ولا يشرب الخمر كبقية المطربين، وننقل هذه الفقرة من حوار بين فؤاد والراقصة فتحية تبين رأيه في الرقص والخمر:
"وجاء النادل بزجاجة الشمبانيا فدهشت إذ عرضت عليه كأساً فأباها.
- أتريد صنفاً آخر؟
- كلا، لا أشرب الخمر مطلقاً
- أما تشرب الخمر وأنت فنان عظيم؟
- إنها حرام ولا أميل إليها
- ولكن الفنانين يشربونها ويرون أن نشوتها تفتق أذهانهم وتساعدهم في فنهم
- هم كاذبون أو مخدوعون بهذا الوهم. إن للفن نشوةً لا تجتمع مع نشوة الخمر. والناس يا فتحية قد أساءوا إلى الفن فأدخلوا فيه ما ليس منه. ألا ترين أنهم يعتبرون التعري وهز البطون فناً.

ويصف باكثير الرقص بطريقة منفرة: "بدت الراقصة في هلاهيلها كاسية كعارية وطفقت تتثنى وتتخلع في حركاتها وتغمز بعينيها ذات اليمين وذات الشمال، والحضور يرفعون إليها آيات إعجابهم ورضاهم عنها بكلمات بذيئة مندية فيدفعها ذلك إلى المبالغة في تغنجها وتخلعها وهي تتثنى وتهز أعطافها وأردافها وعكنها في ثوب لا يسترها –إن هو سترها- إلا ريثما ينفرج عن مفاتن جسدها ومكامن الشهوة فيها، كأنما وقفت لتعرض بضاعتها على الشارين" . وقد جعل باكثير بطله فؤاداً يعرض على الراقصة فتحية أن تترك الرقص وتجلس في بيتها على أن يتكفل هو بنفقتها حتى يأتيها زوج مناسب.

ويؤكد المؤلف على الخوف من الله واجتناب ما حرمه، فيجعل الشاعر يمنع صديقه المطرب من الانتحار – حين تزوجت محبوبته من غيره- حتى لا يخلد في النار:
- "ألست تحبني؟ أما تحب أن أستريح؟
- بلى يا فؤاد
- فما حملك على ما صنعت؟
- خشيتي أن يغضب الله عليك وتخلد في العذاب!".
وفؤاد وصديقه الشاعر كانا –كما أراد لهما باكثير- عفيفين في حبهما، لم يدنساه بريب، ويذكّر باكثير بالأثر (من عشق فعف فكتم فمات مات شهيداً) فيقول على لسان الشاعر: "حتى يأذن الله ببعثي فأحشر في زمرة الشهداء فقد عففت في حبي ولم أدنسه بسوء".

وهكذا جعل باكثير من بطل روايته إنساناً كامل الإنسانية، ومؤمناً كامل الإيمان، فهو خجول رقيق محب للناس، بار بأمه، على خلق عالٍ، عاشق عفيف، لم يتدنس بما يغضب الله مما قل أن يسلم منه من يتعاطى هذا الفن. وهو أيضا على ثقافة عالية ليس في الغناء فقط بل في فنون الأدب وغيره من الفنون. يقول باكثير عن بطل روايته –على لسان أستاذه مراد السعيد- : "أفاد فؤاد في المدرسة القائمة في بيته هو من الثقافة الأدبية والفنية المتنوعة فضلاً عن تكوينه الفني ما لم يكن ليقدر على تحصيل بعضه في المدارس التي تنقله من فرقة إلى فرقة وتعطيه في النهاية الشهادات" . وكأني بباكثير –في الفقرة السابقة- يعرِّض بمدارس الفن والموسيقى في زمنه، ويرى أنها ينبغي أن تركز على تثقيف طلابها في مختلف فنون الأدب والثقافة العامة، وأن لا تقتصر على نقلهم من فرقة إلى أخرى وإعطائهم الشهادات في النهاية. وهو أيضاً يجيد اللغة الإنجليزية "من كثرة ما قرأ فيها من الكتب التي كان يعيرها له من مكتبته".

وعندما صدرت هذه الرواية كتب عنها الناقد والصحفي الكبير وديع فلسطين –مد الله في عمره- مقالاً في مجلة الرسالة جاء فيه: "وقد يحسب البعض أن في هذا (الإعتدال) الذي اتصف به بطل الرواية تكلفاً وخروجاً علىالمألوف، ولكن الناقد المنصف لا يسعه إلا أن يحمد للمؤلف هذا الإتجاه. والمؤلف بعد ذلك وقبله، خلاق يخلق أبطال روايته كما يشتهي، ويجيد الخلق متى أخرج لنا شيئاً جديداً ليس لنا به من قبل عهد".
ويفهم من مقال الأستاذ وديع فلسطين أن هذه الصورة التي (خلق) باكثير عليها بطل روايته كانت غريبة على العصر الذي كتبت فيه، وأنها كانت "شيئاً جديداً ليس لنا به عهد من قبل". ولكن هذه الصورة المتكلفة –كما وصفها الأستاذ وديع- أصبحت –بفضل الله- واقعاً في أيامنا هذه، ولعل هذا هو سر تذكري لهذه الرواية وأنا استمع إلى المطرب سامي يوسف. أما لماذا سامي يوسف وليس غيره من المنشدين –على كثرتهم ولله الحمد- فهو أنه يمكن أن يطلق عليه أنه مطرب لاستخدامه الآلات الموسيقية، وإصداره مجموعات وأشرطة تتداول تداول الأغاني بين الشبان والفتيات. وإن كان هناك من المنشدين -كما علمت- من بدأ باستخدام الآلات الموسيقية في الأناشيد، ولكن لعل سامي يوسف أشهرهم ولذا استحق التنويه. على أن باكثير لم يقصد أن (يخلق) منشداً ينشد الأناشيد الدينية كبديل (إسلامي) عن الغناء، بل أراد أن يقول –ولنا أن نتفق أو نختلف معه- أنه لا بأس في الغناء ولا في استخدام الآلات الموسيقية، ولكن على أن لا يصاحب ذلك ما يغضب الله من فحش وفجور وشرب مسكرات ورقص خليع. ولا بأس أن تعبر الأغاني عن العواطف الإنسانية السامية كالحب العفيف والأشواق الروحية، ويبدو ذلك من خلال القصائد الخمس التي كتبها باكثير للرواية، والتي عبَّرت عن مواقف وتجارب إنسانية في حياة بطلها، وهي: ليلة النهر، والانتظار، والطواف، والطفل أو الحلم الضائع، ونجوى النيل.

وقد صاغ باكثير روايته بطريقة مشوقة حيث بناها على فكرة أن فؤاداً يتصل اتصالاً روحياً بشاعر قديم قد هلك في الدهر الأول ولكن روحه ما زالت تهيم حول قبره الموجود في خرابة تعرف بخرابة الشاعر، وسبب ذلك أنه حين أدركته الوفاة حرق جميع قصائده التي قالها في تصوير عشقه لابنة عمه التي زُوجت لغيره، وأمر بذر رماد هذه القصائد في النهر، فأصبح يتعذب في قبره كل ليلة، لأن الأزمات النفسية مرت بقلبه في حياته فنفسها عنه بأشعاره قد عادت فاحتبست في صدره جملة واحدة فبقي إصرها ينقض ظهره ويقض مضجعه فما ينعم براحة ولا قرار( )، حتى قيض الله له فؤاداً فأصبح الشاعر يملي على قلب فؤاد قصيدة من قصائده في كل مرة على لحن يصوغه فؤاد ليعبر به عن موقف أو تجربة مرت به، فيقصد خرابة الشاعربعد الساعة الحادية عشرة مساء ويدندن بلحنه الجديد، فيسمع صوت الشاعر يتابعه بأبيات تتفق مع اللحن وتعبر عن التجربة التي مر بها فؤاد، فيظل فؤاد يرددها معه حتى يحفظها. وهكذا حتى إذا فرغ الشاعر من إملاء جميع قصائده والتنفيس عما كان يعتمل في صدره، ودع فؤاداً بعد أن أملى عليه القصيدة الأخيرة على لحن (الوداع) الذي صاغه فؤاد حين فجع بزواج محبوبته من غيره، ورغب في الانتحار، ودَّعه شاكراً له على مساعدته إياه، وطلب منه الصبر على محنته حتى يلقاه في دار الحق. وحين سأله فؤاد كيف يستطيع أن يحصل على أبيات لألحانه الجديدة بعد ذلك قال له أنه لو حاول معالجة الشعر الآن لاستقام له، وحدث ذلك بالفعل، فقد استطاع فؤاد كتابة أبيات للحن جديد بمفرده، وكان قد حاول كتابة الشعر من قبل فلم يقدر عليه.

على أن باكثير لم يكن يذكر هذه الأحداث على أنها حقيقة واقعة بل يرويها على لسان فؤاد، أو بعبارات مبهمة مثل (سمع أو توهم أنه سمع)، ثم يفسرها لنا تفسيراً علمياً على ضوء علم النفس الحديث من خلال تحليل الأستاذ مراد وتفسيره لهذه الأحداث. ولكن باكثير لا يقطع لنا أنها أحداث حقيقية كما لا يقطع لنا أنها من وحي خيال فؤاد وتهيؤاته، فنجد مراداً يعجز أحياناً عن تفسير بعض الأحداث على ضوء علم النفس الحديث فيدونها كما يرويها فؤاد على أن يعود إليها لاحقاً. ولعل هذا هو سر تصدير باكثير لروايته –على عادته بتصدير كل عمل له بآية قرآنية- بقوله تبارك وتعالى (ويسألونك عن الروحِ قل الروحُ من أمرِ ربي وما أوتيتم من العلمِ إلا قليلاً.
شاعر وكاتب وباحث إماراتي
عبد الحكيم عبد الله عيسى الزُبيدي. حاصل على الدكتوراه في الإدارة من جامعة أبردين بالمملكة المتحدة 2006م والماجستير في اللغة العربية وآدابها من جامعة الشارقة-الإمارات 2011م. حاصل على جائزة الشيخ راشد بن حميد النعيمي للثقافة والعلوم (في الشعر)- 1995، وجائزة سلطان بن زايد لأفضل بحث عن دولة الإمارات– 2011، وجائزة الشارقة للتأليف المسرحي، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2013. له 15 مؤلَّفا، منها: اعترافات متأخرة، اليهود في مسرح علي أحمد باكثير، التناص في الشعر المعاصر في الإمارات (دراسة)، النكوص الإبداعي في أدب علي أحمد باكثير، وغيرها.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية