لاشك أننا نعيش الآن لحظات فارقة بين عصرين من عصور النشر، هما النشر الورقي والنشر الإلكتروني، تمامًا مثلما عاشت البشرية تلك اللحظات الفاصلة عندما اخترع يوهان جوتنبرج حروف الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، فتحقق لعالم النشر قفزةٌ نوعيةٌ هائلة وصفها مارتن لوثر ـ مؤسس المذهب البروتستانتي ـ بأنها "أسمى فضائل الرب على عباده"، واستفاد منها المجتمع الإنساني طوال القرون السابقة، ولا يزال يستفيد.
أيتها الطباعة كم عكرتِ صفو البشرية
وقد حاول بعض المؤرخين ـ كما جاء في كتاب "تاريخ الوسائط من جوتنبرغ إلى الإنترنت" ـ إلصاق تهمة مقاومة الطباعة، بالعالم الإسلامي، الذي ظلت فيه هذه المقاومة قوية على امتداد أوائل العصر الحديث، حتى أن الدول الإسلامية كانت العائق أمام انتقال الطباعة من الصين إلى الغرب (وقد لاحظتُ خلو الكتاب من دعم هذا الرأي بالأسانيد والأدلة)، وأن الأتراك كانوا يرون أن طباعة القرآن (الكريم) شيء محرم، (في الوقت نفسه رأت الكنيسة في ترجمة الكتاب المقدس خطرًا كبيرًا) وأن السلطان سليم الأول أصدر مرسوما يقضي بتنفيذ عقوبة الإعدام فيمن يمارس الطباعة، وأن تاريخ الطباعة المتقلَّب في الإمبراطورية العثمانية يكشف عن قوة العوائق التي حالت دون انتشار هذا الشكل من أشكال الاتصال، وهو نفسه ما حدث مع الصورة البصرية.
وفي العالم المسيحي كان يثار التساؤل عما إذا كان الضرر الذي لحق بهذا العالم من جراء اختراع الطباعة يفوق ما أحدثته من فوائد؟ فيكتب الشاعر الإنجليزي أندروا مارفيل (1621 ـ 1678) مخاطبا الطباعة قائلا: "أيتها الطباعة كم عكرتِ صفو البشرية ؟".
شكوى من كثرة الكتب في عام 1550
وفي عام 1550 يشكو كاتب إيطالي من أن الكتب أصبحت من الكثرة بحيث إن الوقت لا يكفي حتى لقراءة عناوينها (فما بالنا الآن، بعد أكثر من أربعمائة وخمسين عاما)، ويذهب آخر إلى أن الكتب أصبحت غابة يتوه فيها القراء، لذا ظهرت منذ منتصف القرن السادس عشر الببلوغرافيات المطبوعة مشتملة على معلومات عما كُتب. ولكن مع زيادة حجم المؤلفات أصبحت ببليوغرافيات الموضوع ضرورة ملحة. ومنذ أواخر القرن السابع عشر ظهرت مراجعات المنشورات الجديدة، أو مراجعات الكتب.
ونتيجة لانتشار الطباعة، تأثر فن المحادثة الشفهية، إن لم يكن قد تغير كلية، وكثر الكلام حول أن المعرفة بالقراءة والكتابة والطباعة تدمر حتما الثقافة الشفهية، بل تحدث أحد اللوردات عن "موت" التقاليد الشفهية.
تغير أساليب القراءة وتشطينها
أما عن القراءة، فقد تساءل كتاب "تاريخ الوسائط" قائلا: بأي معنى يمكن القول إن القراءة تغيرت مع الزمن؟ ويخلص المؤرخون إلى أن تغيرًا في أساليب القراءة، قد حدث بين العامين 1500 و1800، وأن هناك خمسة أنواع من القراءة تستحق اهتماما خاصا هي: القراءة الناقدة، والقراءة الخاصة، والبعض ذهب إلى أن هذا النوع من القراءة ـ أي الخاصة ـ يعتبر نشاطًا شيطانيًا يمكن تسميته "تشطين القراءة"، وقد أدانت محكمة التفتيش أحد عمال الحرير لأنه كان "يقرأ طوال الوقت"، وهناك القراءة الإبداعية، والقراءة الكثيفة، والقراءة المتخصصة، فضلا عن القراءة الصامتة، والقراءة المسموعة، وكل هذا ساعد على خلق مجتمع للقراء.
مع مرور الزمن اتضح أن ثمة توازٍ واضح بين الجدل حول منطق الكتابة والجدل حول منطق الطباعة، كما تبين أن الوسائط القديمة مثل الاتصال الشفهي والمخطوطات، تعايشت وتفاعلت مع وسيط الطباعة الجديد في أوربا أوائل العصر الحديث.
الآن يعيش إنسان هذا العصر نقلة نوعية أخرى على مستوى الوسيلة التي ربما تؤثر في المضمون، وفي شكل طريقة الكتابة أيضا.
ولكن هل لنا قبل الاستطراد، أن نعرِّف عملية النشر؟.
يقول المعجم الوسيط. َنشرَ الكتاب أو الصحيفة: أي أخرجه مطبوعا. والناشر: من يحترف نشرَ الكتب وبيعَها. والنشر: طبعُ الكتب والصحف وبيُعها.
هذا هو تعريف عملية النشر التقليدية (الورقية). فماذا عن النشر الإلكتروني؟
تعريف النشر الإلكتروني
النشر الإلكتروني ـ كما يقول صادق طاهر: هو استخدام الأجهزة الإلكترونية في مختلف مجالات الإنتاج والإدارة والتوزيع للبيانات والمعلومات وتسخيرها للمستفيدين (وهو يماثل تماماً النشر بالوسائل والأساليب التقليدية) فيما عدا أن ما ينشر من مواد معلوماتية لا يتم إخراجه ورقياً لأغراض التوزيع، بل يتم توزيعه على وسائط إلكترونية، كالأقراص المرنة أو الأقراص المدمجة، أو من خلال الشبكات الإلكترونية كالإنترنت، ولأن طبيعة النشر هذه تستخدم أجهزة كمبيوتر إلكترونية في مرحلة ـ أو في جميع مراحل ـ الإعداد للنشر أو للإطلاع على ما ينشر من مواد ومعلومات، فقد جازت عليها تسمية النشر الإلكتروني.
ويعد النشر الإلكتروني أحد إفرازات البرامج التطبيقية application programs التي تنتمي إلى عالم البرمجيات أو الـ software.
وقد استفاد الناشرون من تقنيات العصر، ومن وسائل الاتصال والمعلومات، ومن عالم البرمجيات، فاقتحموا فضاء المعلوماتية، وحلقوا في سماء الصفحات الإلكترونية والشرائح الممغنطة، وأقراص الليزر، ووضعوا مكتنزاتهم ومجلداتهم على تلك الشرائح الرقيقة وطرحوها في الأسواق، أو عبر الأثير من خلال شبكة الإنترنت، فحدث تضخم هائل وغير مسبوق، بل يعجز العقل البشري عن التوصل إلى تقدير حجمه الآن، ولعل هذا يرجع إلى أن المعلومات "تعد المورد الإنساني الوحيد الذي لا يتناقص بل ينمو مع زيادة استهلاكه"، على حد تعبير الدكتور نبيل علي في كتابه "الثقافة العربية وعصر المعلومات، ص 48".
يقول الدكتور سليمان العسكري في عدد يناير 2001 من مجلة العربي إن "السنوات الراهنة ستشهد تطورا متسارعا تكون إحدى ثماره المباشرة اتساع رقعة النشر الإلكتروني على حساب حجم النشر الورقي على مستوى الدول المتقدمة في السنوات العشر القادمة، أما في الدول التي يطلق عليها العالم الثالث، فتحتاج من عشرين إلى ثلاثين عاما حتى يصبح لها نصيب يعتد به في هذا المجال". ويُضيف أنه مع حلول العقد الثاني من القرن سوف تفقد وسائل الإعلام المطبوعة والإصدارات الورقية بوجه عام جانبا كبيرا من أهميتها ودورها نتيجة التطورات الهائلة في مجالي الاتصال والمعلومات".
وفي خبر نشرته جريدة الأهرام المصرية جاء فيه: "قريبا وبالتحديد في عام 2006 ستختفي الصحف الورقية والأكشاك التي تبيعها من الشوارع، وتحل محلها أكشاكٌ إلكترونية، يمكن للقارئ أن يشحن منها جهازا إلكترونيا خاصا بالصحيفة أو المجلة التي يريدها، ثم يقرأها فيما بعد عن طريق شاشة إلكترونية خاصة".
ولعل هذا الخبر به تفاؤل أكثر من اللازم، فنحن على مرمى على حجر من العام 2006، ولم تظهر أية بوادر لاختفاء الصحف الورقية، بل المراقبون يرون أن الصحف الورقية تزداد في مصر الآن.
وتقول شركة مايكروسوفت لقطاع التطوير التكنولوجي إنه بحلول عام 2010 ستصبح هذه الأجهزة خفيفة، ولها شاشة مرنة وتزود ببطاريات تعمل لمدة 24 ساعة. وأضافت أنه في عام 2018 ستنقرض الصحف الورقية تماما، لأن الإلكترونيات هي المستقبل، أما الورق فهو الماضي.
ويقول بيل جيتس ـ مؤسس شركة مايكروسوفت ـ في كتابه "المعلوماتية بعد الإنترنت ـ طريق المستقبل": ـ ترجمة عبد السلام رضوان ـ إن الطريق السريع للمعلومات سوف يحول ثقافتنا بالقدر ذاته من العمق واتساع المدى الذي اتسم به التحول الذي أحدثته مطبعة جوتنبرج في العصر الوسيط. ويضيف: أن الأشياء تتحرك بدرجة من السرعة يصبح من العسير معها إمضاء الكثير من الوقت في النظر إلى الوراء. وأن التكنولوجيا لن تنتظر حتى يصبح الناس متهيئين لها، على الرغم من أنها هي الخادم وليست السيد. وعلى الرغم من ذلك فإن الناس يريدون أن يفهموا كيف ستجعل هذه التكنولوجيا المستقبل مختلفا، وهل ستجعل حياتنا أفضل أم أسوأ؟ غير أن إيقاع التغير التكنولوجي هو من السرعة بحيث يبدو في بعض الأحيان أن العالَم سيكون مختلفا تماما من يوم لآخر. وأن التكنولوجيا هي التي ستمكن المجتمع من اتخاذ قرار سياسي، لذا فإن الأمر يستحق بذل الجهد من أجل تأسيس علاقة ألفة مع أجهزة الكمبيوتر".
برنامج الناشر الإلكتروني
وقد بدأت تظهر في آفاق عالمنا العربي برامج للنشر الإلكتروني من أهمها وأشهرها برنامج الناشر الإلكتروني الذي هيأته شركة صخر للحاسبات الآلية، وهو يمثل بيئة متكاملة لبناء قرص مدمج من المعلومات مع إمكانية تحديثها من الإنترنت في أي وقت مما يوفر الوقت والجهد والتكلفة. ويتضمن نظام النشر الإلكتروني كذلك أحدث نسخة من ناشر نت، باعتباره ـ على حد قول صخر ـ الحل الأمثل لنشر اللغة العربية على الإنترنت، والمتصفح سندباد الذي يتيح استعراض المواقع العربية، وتصفح صفحاتها بمنتهى الدقة واليسر.
وقد طورت صخرُ الناشرَ الإلكتروني ليكون خيرَ مُعين لدور النشر والصحف والمجلات والمؤسسات التي لديها كميات ضخمة من المعلومات والبيانات يراد نشرها وجعلها قابلة للبحث لتسهيل الحصول على أية معلومة منها في أقصر وقت ممكن.
ومن خلال تأمل واقع النشر الإلكتروني وقضاياه في عالمنا العربي الآن، يتضح أن هناك مجالين لهذا النوع من النشر هما: النشر عن طريق الأقراص المرنة وأقراص الليزر، والنشر عن طريق شبكة الإنترنت، أو النشر على صفحات الويب (الشبكة العنكبوتية world wide web = www.).
أما عن شبكة الإنترنت، فهي تعد الإسهام الرئيس للقرن العشرين، وقيل عنها إنها سبورة المستقبل، حيث ظهرت الحاجة إلى رقمنة digitalization كل أشكال محتوى الوسائط، غير أنه ظهرت مقولات مضادة مثل "إننا في عصر المعلومات، ومع ذلك فلا أحد يعرف أي شيء"، ومن ناحية أخرى هناك من كتب تحت عنوان "وداعا غوتنبرج" مشيرا إلى انتهاء زمان الطباعة على الورق، وأقر البعض أن العالم الرقمي عالم جديد، وليس مجرد إضافة للعالم القديم، خاصة بعد أن ابتكر الإنجليزي تيم بيرنزر ما أسماه "الشبكة العنكبوتية العالمية" (www) world wid web في عام 1989. فحدث تطوير للارتباطات التشعبية Hyper -links التي تركز الانتباه على كلمات أو رموز معينة في الوثائق عن طريق النقر عليها، والإبحار داخل الشبكة.
لقد حدثت انطلاقة الإنترنت بين سبتمبر 1993 ومارس 1994 عندما أصبحت شبكة الشبكات متاحة للجميع، فطورت سيكولوجيتها، وطورت ما أصبح يسمى إيكولوجيا (بيئة) الإنترنت، فأي حاسب يمكنه أن يدخل إلى الشبكة من أي مكان، مع "تشريح" المعلومات التي يتم تبادلها في الحال إلى "رزم"، إذ كان نظام الإرسال يحلل المعلومات إلى أجزاء مشفرة ويقوم نظام الاستقبال بتجميعها ثانية بعد أن تصل إلى مقصدها النهائي، فكان ذلك أول نظام رزم بيانات في التاريخ، وأفاد ذلك في عملية التعلم طوال الحياة، وظهرت جامعات بلا جدران.
ولعلنا نحتاج الآن إلى ضرب أمثلة عملية، ليتضح الفرق أكثر بين عالم النشر الورقي وعالم النشر الإلكتروني أو الرقمي، وسوف أتحدث هنا عن "الفضاءات الشعرية العربية بين الورقية والرقمية".
الفضاءات الشعرية الورقية
عرف وطننا العربي المجلات الثقافية العامة منذ القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وحققت مجلات مثل "الرسالة" و"الثقافة" اللتين كانتا تصدران في مصر، انتشارا كبيرا على مستوى الوطن العربي، وتأثر بما كان يُنشر فيها معظم الأدباء والمثقفين العرب في الأجيال الماضية.
ثم بدأ التفكير في إصدار مجلات أدبية متخصصة، فصدرت في أوائل الستينيات مجلة "شعر" في لبنان، وكان يشرف على تحريرها الشاعر يوسف الخال، فحملت لواء قصيدة النثر، وهي مجلة كانت منظمة الحرية الثقافية الأمريكية تشتري منها 1500 نسخة، ومن ثم حامت الشبهات حول مصادر تمويلها، وعلاقتها بجهاز المخابرات الأمريكية ((CIA، وهو الأمر الذي تحدثت عنه باستفاضة الكاتبة الإنجليزية فرانسيس ستونر سوندرز في كتابها المهم "الحرب الباردة الثقافية" أو "من يدفع للزمار؟"، ترجمة طلعت الشايب، وإصدار المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة.
لم تستمر مجلة "شعر" التي احتضنت شعراء من أمثال أدونيس، طويلا. ليصدر من مصر في يناير من عام 1964، مجلة شهرية للشعر العربي، تصدرها وزارة الثقافة والإرشاد القومي، ويرأس تحريرها د. عبد القادر القط (وكانت تباع بخمسة قروش) ثم شارك في الإشراف على تحريرها اعتبارا من عدد فبراير 1965، الشاعر محمود حسن إسماعيل.
وكانت السمة الغالبة على مجلة "الشعر" في ذلك الوقت غلبة تيار الشعر التفعيلي، على تيار القصيدة العمودية، وقلة الأبحاث والدراسات والترجمات الشعرية.
ففي عدد أكتوبر 1964 (العدد العاشر) ـ على سبيل المثال ـ نشرت المجلة خمسا وعشرين قصيدة، في مقابل أربع دراسات وأبحاث ومقالات. وفي عدد فبراير 1965 (العدد الرابع عشر) نشرت المجلة أيضا خمسا وعشرين قصيدة، في مقابل خمس دراسات وأبحاث وترجمات.
غير أنه لم تلبث أن توقفت مجلة الشعر، مثلما توقفت مجلات أخرى كثيرة في مصر، عقب هزيمة 1967، ثم صدرت مجلة أخرى فصلية بالاسم نفسه "الشعر" مع مطلع عام 1976، وصدرت عن دار مجلة الإذاعة والتلفزيون، أو عن اتحاد الإذاعة والتلفزيون، وليس عن وزارة الثقافة أو هيئة الكتاب، ورأس تحريرها الشاعر د. عبده بدوي. وكتب يوسف السباعي وزير الثقافة آنذاك افتتاحيتها فقال: "ها نحن ـ من واقع مصر المنتصرة ـ نزف مجلة "الشعر" للعرب تأكيدا للفكرة المتواترة التي تقول: من أحيا الشعر فقد أحيا العرب، ومن قتل الشعر فقد قتل العرب!".
وفي العدد الثاني من المجلة، يكتب أيضا يوسف السباعي قائلا: "قد راودنا الشك في استقبال القراء (للمجلة) إلا أن خطاب "توزيع الأخبار" قد أثبت بما لا يدع للشك مجالا أن لهذه الأمة صلة حميمة بتاريخها العريق العاشق للشعر".
وترتفع في هذه المجلة نسبة الدراسات والأبحاث، وتنخفض نسبة القصائد، مقارنة بمجلة الشعر القديمة أو التي كان يرأسها د. عبد القادر القط، وقد احتوى العدد الأول منها ـ على سبيل المثال ـ على سبع عشرة قصيدة، في مقابل خمس عشرة دراسة وبحث ومقال وترجمة. بينما احتوى العدد الثاني على ست عشرة قصيدة، في مقابل ست عشرة دراسة وبحث ومقال وترجمة. وقد فتحت المجلة في سنواتها الأخيرة الباب لنشر قصيدة النثر.
ولا تزال هذه المجلة تصدر حتى الآن عن اتحاد الإذاعة والتلفزيون، ويشرف على تحريرها حاليا الروائي المعروف خيري شلبي، وقد صدر منها حتى يوليو 2005، 119 عددا.
ومع الاهتمام بالنشر الإقليمي في محافظات مصر المختلفة من خلال الهيئة العامة لقصور الثقافة، بدأ الأدباء يفكرون في إصدار مجلات إقليمية متخصصة في لون أدبي معين، وكانت الإسكندرية سباقة في هذا المجال، فصدرت على سبيل المثال مجلة متخصصة في الشعر ونقده، هي مجلة "فاروس" التي صدرت عن فرع ثقافة الإسكندرية، وشرفتُُُ برئاسة تحريرها، مع كل من الشعراء: أحمد محمود مبارك، وعاطف الحداد، ومحمد مصطفى أبو شوارب، ونشرت هذه المجلة قصائد لشعراء العامية، إلى جانب قصائد الفصحى والدراسات الشعرية والأبحاث، واستحدثتْ بابا جديدا بعنوان "شعراء وشوارع" وفيه يُلقى الضوء على خريطة الشارع الذي سمي باسم شاعر ما من شعرائنا القدامى والمعاصرين، مثل شارع أحمد شوقي، وشارع جلال الدين الرومي، وشارع مرسي جميل عزيز، وشارع عباس محمود العقاد، وغيرهم.
ثم توقفت هذه المجلة بعد صدور خمسة أعداد فقط، مع توقف مشروع النشر الإقليمي بعامة في محافظات مصر المختلفة بحجة الدراسة والتطوير.
خارج مصر، صدرت أيضا مجلات شعرية متخصصة، نذكر منها على سبيل المثال، مجلة "مجلة الشعر" في تونس، وهي مجلة فصلية صدرت عام 1983 عن وحدة المجلات بوزارة الشؤون الثقافية، ورأس تحريرها الشاعر نور الدين صمود، وكان أمين تحريرها يوسف رزوقة، وإلى جانب الدراسات والقصائد، هناك انفتاح على شعراء من العالم من خلال الترجمة. يقول نور الدين صمود في افتتاحية العدد الثالث (شتاء 1983) على سبيل المثال: "هذا هو العدد الثالث من "مجلة الشعر" بين يديك، وإذا ألقيت نظرة فاحصة على "محتواه" فإنك ستجد أنه، مثل العددين السابقين: نافذة على الشعر العربي، قديمه وحديثه، وتونس جزء من العرب، وعلى الشعر العالمي، والعرب جزء من العالم الفسيح، ولئن شطت المسافات، واختلفت اللغات، فإننا نتمثل ـ إزاء هذه النماذج الشعرية المعربة ـ بقول المتنبي: "فَما تُفهِمُ الحُدّاثَ إِلا التَراجِمُ".
أما في افتتاحية العدد العاشر (في عام 1985) فيقول: "مجلة الشعر مازالت منذ عددها الأول تؤمن بأنها حديقة يجب أن تتفتح فيها جميع أنواع الزهور. وللزهور ألوان وروائح مختلفة، ولنترك الحرية للناس في اختيار ما يشاؤون. وإن صلة مجلة الشعر ستظل متينة بالشعر العالمي، لأنها تؤمن بوجوب التلاقح والتواصل ومد الجسور، كما أنها ستكون لها ملفات في كل ما له صلة بالشعر، كما كان لها في السابق ملف عن الشعر السوفياتي، وملف عن الشعر الإسباني، والبقية تأتي".
وقد توقفت هذه المجلة عن الصدور بعد ذلك، ففي زيارة لي إلى تونس عام 2003 سألت عنها، فقيل لي إنها لم تعد تصدر.
إلى جانب ذلك كانت هناك بعض المجلات الثقافية أو الأدبية العامة، تخصص بعض أعدادها للشعر، كما أن هناك بعض الدوريات التي تصدر بصفة غير منتظمة خُصصتْ للشعر، ومثال على ذلك دورية "الشعر" التي أصدرها نادي الطائف الأدبي بالمملكة العربية السعودية ـ على سبيل المثال ـ تحت شعار "كتاب دوري يحوي نماذج من الشعر العربي السعودي الحديث"، وأعده وأشرف عليه: علي حسن العبادي، ومحمد المنصور الشقحاء. وصدر الكتاب الأول في ربيع الأول عام 1399 هـ، أي في عام 1979 م تقريبا. ولم يحتو إلا على قصائد للشعراء السعوديين فحسب، ولم نقرأ فيه دراسات أو أبحاث عن الشعر والشعراء.
خارج الوطن العربي، اهتم بعض الأدباء المهاجرين، بإصدار مجلات شعرية متخصصة أيضا، نذكر منها على سبيل المثال مجلة "الحركة الشعرية" التي يصدرها د. قيصر عفيف في المكسيك، ويعاونه محمد شريح، وهي مجلة ـ كما جاء في شعارها ـ تُعنى بالشعر الحديث. ويغلب عليها نشر القصائد بجميع أشكالها: التفعيلية، والنثرية، وقليل من العمودية، لعدد كبير من الشعراء العرب، من داخل الوطن العربي وخارجه، إلى جانب اهتمامها أيضا بالمقالات والترجمات. ونظرا لأن المجلة لم تكتب رقم أعدادها على الغلاف، وإنما تكتب التاريخ فقط، فلم نعرف متى كان صدورها، غير أنني لم أسمع عنها سوى في السنتين الأخيرتين فحسب، من الصديق الشاعر العراقي المقيم في ليبيا عذاب الركابي.
هذه بعض الأمثلة من المجلات المتخصصة في نشر الشعر العربي والمترجم، والدراسات الشعرية والنقدية عنه سواء داخل الوطن العربي أو خارجه.
ومن خلال عرضنا السابق، نصل إلى حقيقة أن مجلة "الشعر" المصرية، ومجلة "الحركة الشعرية" التي تصدر بالعربية في المكسيك، هما المجلتان الوحيدتان الورقيتان اللتان تصدران حاليا.