المسألةُ الآن لم تعد تحتمل كثيراً من الاختلاف حولها لا سيَّما وقد بدتْ واضحة في ثوبها الأخير كرمشِِ العينِ أو أقربْ...!، فبرنامج "خليك بالبيت" للزميل الشاعر والإعلامي زاهي وهبة ليلة الثلاثاء 3 يناير العام 2006 قد وضعنا في البيت فعلاً، طبعاً ليسَ البيت"المنفي" والذي لا علاقة له بأيٍّ من المدن التي سأل عنها زميلنا وهبة شاعرنا محمود درويش الذي بدا في هذه الحلقة محاميَ إدانة أكثر منه محاميَ دفاع ٍ وقد فتح له زاهي المجالَ واسعاً لتقديم دفوعه عن جملة ما أثير حولَ مسلكه الشعري مؤخراً في الناحية الأكثر خطراً معَ اقترانها باسمه ردحاً من الزمن ألا وهي مسألة المقاومة !
هناك قضايا كثيرة سأل عنها زاهي ونقرُّ لهُ أنه استخدمَ دماثةً وحنكةً ليست بغريبةٍ عنه على أيِّ حال وحاولَ أن يضعَ أمامَ درويش فرصاً واضحةً لكي يقولَ وينهي جلبةً عاليةً من حولهِ وهي ذات شعب وأهمها وما يعنينا في مشروع القصيدة المقاومة التي حمل درويش مع غيرهِ شرفَ لقبها طويلاً بما وضعهُ من أثرٍ فيها، ولا شكَّ أن زاهي أيضاً ضمن حساباتهِ كانَ أن يفسحَ المجالَ أمام محمود لتسويق كتابهِ الأخير "كزهرِ اللوزِ أو أبعد" وهذا مما لا غبارَ عليهِ ولن نعلِّقَ كثيراً حولَ معظمِ ما جاءَ في هذا الحوارِ الذي قادهُ زاهي مع درويش بحنكة حيثُ بدا الأخيرُ مهزوزاً عندَ الضغطِ على نقاطٍ معيّنة أثناء الحوارِ دارت حولَ شبهةِ العلاقة بينَ نصِّ درويش وبينَ الطلاقِ مع قصيدة المقاومة.
يحقُّ لزاهي الذي شعرتُ فلسطينيتهِ في هذه الحلقة ربما أكثر مما لدى صاحبنا درويش ليقدمهُ عنها أن يستقدمَ شهاداتٍ حولَ درويش من المطران خضر إلى طلال سلمان إلى الروائي خوري إلى الزميلة الشاعرة الدمثة جمانة حداد ومن شاءَ ولكن عندما أرادَ أن يسألَ في أهمِّ محاورِ هذا اللقاء قرأ واقتبسَ عن مقالٍ للزميل غسان مطر وكنتُ أحسبُ أنَّ زاهي لم يرد كثيراً أن يستقدمَ ملاحظاتٍ هامة في هذا الشأن كتبَ بعضها مؤخراً عدد من الباحثين في بيروت نفسها مثلاً: الزميلة غادا السمّان وفي فلسطين "الجليل" منها الزميل أحمد أشقر في كتابه الأخير "التوراتيات في شعر محمود درويش " والذي قدّم له الصديق بشّار إبراهيم من دمشق وأثارَ عاصفةً مدوية، ولكنَّ زاهي اكتفى بإشارة على أمل أن تنهي جلسة درويش هذه كومة الأسئلة التي كانت لدى هؤلاء لو ُسألوا عمّا لديهم.
حسناً، لا يهمُّ التفصيلُ كثيراً ولسنا في معرضِ الحديثِ عن البرنامجِ ولا آلياته التي يرتضيها ولا في مجالِ تقييم عمل الزميل الشاعر وهبة وكلُّ ذلكَ جميلٌ وبصمةٌ مميزة على أيِّ حال، ولكنَّ المفزعَ المفجعَ هو ما وردَ على لسان صديقنا الشاعر محمود درويش في هذه الجلسة الحوارية وهذه المرة لا يقولنَّ لم أقلْ...أو انتزعت من السياق ..أو وجاءت خطأً في الترجمة..أو جاءت عبر وسيط...!، فالجملُ لم تكن ملتبسة وكانت واضحة إلى أبعد الحدود ولا تحتاجنَّ لكثير من الإضافات تالياً من حولها فالقصّة أصبحت جليةً بلسان صديقنا درويش الذي تمنينا فعلاً أن لا يقولَ ما قالَ وليتهُ سكتْ، وكنا نأملُ حقيقةً أن يضعَ حداً لمزيدٍ من الأسئلة حولَ ما هو ذاهبٌ إليهِ في مشروعه الشعريِّ وعنوانهِ الأبرز الذي كانَ مكرّساً للنهوضِ بهِ من حيثُ تعلم ومن حيث لا تعلم!
دعونا نكونُ واضحينَ تماماً في مسألة الناحية الفنية الشعرية عندَ درويش فهذه مما لا تحتملُ أولاً الإنكارَ ولا التقليلَ من شأن هذه التجربة الغنية ولا هي في ذات الوقت بمنأىً عن النقد الفني الخالص في درس النقد الأدبي من غيرِ تهويلٍ في مكانةِ هذا المنجز باتجاه التصنيم ولا في تقليلٍ من شأنهِ باتجاهِ الإنكار وغبنِ الرجلِ في حقِّه بما أنجز، وهذه على كلِّ حال ليست مجال حديثنا هنا معَ ملاحظةٍ جانبية ٍ أسجِّلُها لدرويش بأنّا من الذينَ كانوا يعدونهُ شعرياً رقماً مميزاً ويعجبونَ بمنجزهِ الشعري على كلِّ حال، وأستطيعُ أن أفرِّقَ بينَ النظرةِ الفنية المحض في هذا الإعجابِ وبينَ النظرةِ العامةِ التي تتقدّمُ فيها مشروعية وقداسة القضية التي تحدَّثَ عنها هذا النصُّ ولا أنكرُ أني من الذين لا يحفلونَ كثيراً بنصٍّّ مهما كان بليغاً وجميلاً ومتقناً إذا تراجعَ أو توارى فيهِ الغرضُ إلى مراتبَ دنيا تستهوي بعضهم في تنميقها بشعارِ الفنِّ للفنِّ أو حسبَ زاهي في حوارهِِ زبدة الشعر "البلدية"! جماليات أيّ فن بالدنيا ليست مقدمة على القضية ولا هيَ تساوي
درويش ردَّ على ما جاءَ في مقال الزميل غسان مطر والذي تلا بعضَ سطورها عليه زاهي بأنه لا... لم يكتب في هذا الاتجاهِ الآن أو مؤخراً كما فهمَ خطأ ربّما غسان مطر وآخرونَ، بل في الواقع هو كتبَ القصيدة صاحبة مشروع "أنسنة العدوَِّ" منذ عام 1967 بالجنديِّ الذي يحلمُ بالزنابقِ البيضاء..!! ولذلكَ فمن وجهة نظر السيد درويش فإن هذه الحملة عليه مؤخراً مجحفةً بحقهِ، فهو لم يتغيّر مؤخراً في نصوصه الأخيرة التي وصفها زاهي مثلاً بالذهاب إلى النثرية والسردية والخفوتِ في لغتها الشعرية ذات النكهة الواضحة في مسارِ المقاومة، وأوضحَ أنهُ صاحبُ مشروع "أنسنة العدوِّ" الذي امتدحهُ عليه الزميل طلال في شهادتهِ، الدفوع التي قدّمها درويش الذي بدا مرتبكاً ومهزوزاً في هذه المسألة تحديداً باعتبارها مربط الفرسِ هي دفوع مضحكة ومبكية في آن..!!
كنت أودُّ سؤال صديقي الشاعر درويش من الذي قالَ بأن مهمة قصيدة المقاومة هي "أنسنة العدوِّ "؟! أو حتى الشعر عموماً عليهِ أن يبدأ من حيثُ الاستراتيجيا ؟ وإذا كانت أقسام الدراسات الاستراتيجية والإعلامية والأبحاث السوسيولوجية القائمة أو التي من المفترض أنها قامت في هذا العالم العربي لم تبدأ من أنسنة هذا العدوِّ فمن أينَ ابتدأت إذاً ؟ وهل وظيفة قصيدة المقاومة هي أنسنة العدوِّ لنعرفَ من نحاربُ ومن نصالحُ !؟ ومن قالَ أن أنسنة العدو- "الشرِّ المطلقِ" كما استعارها زاهي عن الإمام الصدر في محاولةٍ لجعل درويش يصحو من غفوته – هيَ مهمة عاجلة للشعر العربي والشعر الفلسطيني بخاصة في ضوء مجازر هذا العدوِّ الأخيرة ومشاهد الانتفاضة والجدار والعنصرية والتهويد ؟ هل صمت درويش طيلة الانتفاضة لأنهُ كانَ مشغولاً باستكمال مشروع "أنسنة العدو"؟...عليكَ أن تعذرهُ يا إبراهيم طوقان ويا عبدالرحيم محمود ويا أبا سلمى ويا راشد حسين ويا غسان كنفاني ويا كمال ناصر ويا فرج فودة ويا ناجي العلي ويا ماجد أبو شرار، فصديقنا درويش اكتشف ما لم تكتشفوهُ بدمائكم..لقد اكتشف أنا بحاجة لأنسنة العدوِّ حتى نفهمَ نوع قاتليكم فهم لم يكونوا من الفضاء الخارجي !؟
مشروع أنسنة العدوِّ في شعر درويش بدا قديماً ولم ننتبه لهُ كثيراً واليوم محمود ينبهنا إليهِ وعلينا أن نعود ونقرأ ما كتبهُ محمود درويش ضمن هذا الإطار أولاً فهو مشروعه الذي أخفاه وميض فلاشات الكاميرات ولعبت بعضُ القوى في الثورةِ الفلسطينية دوراً في استخدام هذا المشروع المقنّع في هذه القصيدة ليوم ما تدارُ فيه معركةُ المساومة بدءً من الاقتراب من أكذوبة "اليسار الصهيوني" التي وظّفت عدداً من الأدوات للقيام بها ويبدو أن أداة محمود درويش الشعرية كانت ضمن هذه الأدوات، هذه مفاجئة من النوع الذي يحسن تسميته بمفاجئة اللامفاجئة ولو كانت من عيارٍ ثقيل.
لماذا ؟! لأّنا في الواقع كنا من الذين رفضوا أن يُصدِّقوا عملية انتزاع عناصر مفاجئيتها تلكَ مبكراً ومنها التي قادتها كتابات الصديقة غادا السمان والصديق أحمد أشقر وغيرهم، يبدو أن عليَّ أن أسجِّلَ أولاً اعتذاري للصديقة السمان عن جملة المراسلات التي دارت بيننا منذ نحو أربعة أعوام دفاعاً عن درويش ومنجزه الشعري الذي كان متهماً ظنناهُ بريئاً فأدانهُ اليومَ صاحبهُ بنفسهِ، فاعذرينا أيتها الصديقة وليتك تفعلينْ!
إذاً يا عزيزي محمود علينا أن نقرأ ريتا من جديد على أنها تحت مشروعكَ أنسنة العدوِّ وكذا الجندي النابغة الذي يحلمُ بالزنابقِ من فوق مجنزرتهِ وهو يطيحُ برؤوس شهدائنا! ويسفكُ دماءَ أطفالنا ويقتلعنا من أرضِ الزنابقِ ؟ وما نشره أخيرأً بعضُ المهتمينَ حولَ نصِّ محادثةٍ هاتفيةٍ بين الشهيد ناجي العلي وبينَ درويش لا يخرجُ عن سياقِ مشروع الدرويشية المؤنسنة للعدوِّ والمقتربة من لعب دورِ السمسرة في قصّة اليسار التي فضحها الشهيد النبيل الفنان ناجي العليّ ! وكذا علينا فعلاً أن نقرأ سجّل أنا عربي على اعتبار أنها اعتراف بمصطلحات العدوِّ المؤنسن عندك! فهي لم تكن للعروبة بقدر ما كانت للابتعاد عن سجّلْ أنا فلسطيني..!!! على كلٍّ تبقى النصوص الخالية من مشروعكَ هذا إن وجدت ملكاً لجدارنا الثقافي الفلسطيني وسنبقيها في هذا الإطار ولكن سنقرأ بتدقيق وتمحيص وعلينا أن نفعل، أترك قضية البيت المنفى والمنفى البيت وأحسب أن "رأيت رام الله" قد سبقت هذه المقاربة أكثر نضجاً بكثير مما وردَ على لسانكَ يا صديقي درويش وليتكَ استعرتها للإجابة عن هذا السؤال.
أتركُ أمرَ مشروعِ "أنسنة العدوِّ" هذا تحت وابلِ الأسئلة التي يجب أن تثار منذ الآن إلى مشروع لازمة أقوى هذه المرة لهذا المشروع وهي لازمة استخدام التوراتيات ضمن سياق طويل فيما يبدو على حساب هذا المشروع، فهيَ بعدَ الأنسنة ستضفي بعداً أخلاقياً من نوعٍ ما على هذا المؤَنْسَنِ حيثُ هو ينتمي إلى هذه التوراة التي تصيحُ مستخدمةً إياها الحركة الصهيونية كقناع منذ بدأت ونحنُ نجهدُ أنفسنا في التفريقِ بينَ هذين النقيضين فعلياً كما تجهدُ مثلاً حركة "ناطوري كارتا" نفسها في القولِ بعكسه، والمفجع في دفوع درويش الساذجة بلغت ذروتها في ردِّهِ على استفسارالزميل زاهي بأن المسلم لا يكونُ مسلماً إن لم يؤمن بالتوراة فهي كالقرآنِ وطالما نقتبسُ ونضمِّنُ من القرآنِ فلمَ لا نفعلُ من التوراة؟! هذه لا يقولُها من لديهِ ثقافة إسلامية بدرجة "مؤلّفة قلوبهم" ومجيئها على هذه الصفة في هذا الحديث أحدثت ارتجاجاً لديَّ في زاوية رؤية هذا الرجل حقاً، يبدو أن درويش لم يسمع بحديث عمر بن الخطاب الشهير مع رسول الله محمد بن عبد الله يوم لقيهُ وفي يديهِ صحيفة من التوراة فاحمرَّ غضباً وألقاها من يدهِ وقالَ لهُ: "يا عمر والله لو أنَّ موسى بن عمرانَ بيننا لما وسعهُ إلا أن يتَّبِعني" !، أسوق هذا في معرض القيمة المعرفية التي تحملُها هذه التوراة حتى لو كانت صحيحة فما بالكَ وهيَ على ما هوَ مثبتٌ من تحريفها أو تزويرها؟!ّ
قضيةُ الإيمانٍِ بالتوراةِ والإنجيل من حيثُ هو ابتداء الرسالة السماوية جزء من عقيدة المسلم لا شكَّ في ذلكَ، وقضيةُ الإيمانِ بالرسالةِ التي نزلت واسمها الإنجيلُ والتوراةُ - بل وأزيدُ درويشَ علماً زبور داود وصحف إبراهيم- هيَ من صلبِ العقيدة الإسلامية، وهنا مسألتان: الأولى أن الإيمان هو إيمانُ توكيد وقبول والثانية: أن الإيمان بالصحة في المنقول المعرفي هو إيمانٌ قائم على الأصل القديم النازلِ قبلَ التحريفِ وعلى ما نسخَ فيهِ تالياً بالقرآن، هذا من الناحية الشرعية التي أملتُ أن يكونَ درويش لديه إطلاع ما حولَها، أم أن يتحوَّل إلى مفتي الديار المؤنسنة للعدوِّ بشعاراتٍ يبدو أنهُ اعتادَ عليها جاءت بحيثُ أكّدت ليَ ما أوردتهُ الصديقةُ غادا في إحدى رسائلها لي وهيَ تنقلُ عن درويش التالية " السيدة شيرلي هوفمان أميريكية - إسرائيلية، تعيش في مدينة القدس. التقيت بها في مهرجان الشعر العالمي في روتردام. قرأتُ شعرا عن أزقّة القدس، وهي قرأت شعرا عن حجارة القدس. قرأتُ عن تيهنا الجديد، وهي قرأت عن تيهها القديم. ولكنّها عرفت ْ ما لم أعرف، قالت: إن أسباب الحروب الدائمة في الشرق الاْوسط هي غيرة النساء، الغيرة التي اندلعت نارها بين جدتهم سارة، وجدتنا هاجر.. ضحك الجمور طويلا.!!! مع الاحتفاظ للصديقة غادا بملاحظتها عن تسخيف الصراع إلى حد وصفه بهذه الصورة الساذجة أنه كيد نساء ومساواة الضحية بالجلاد بل تقديم الجلّاد في الأسبقية حقوقاً، لا أستبعدُ إذاً أن سفيرَ الأنسنة للعدوِّ كانَ أيضاً سفيرَ التوراتيةِ في شعرِ المقاومةِ استكمالاً لهذا المشروع.
لا يعنيني كثيراً من أمر إجابات درويش الأخرى حولَ فلسطين الوطن بأنه لا يطربهُ أن يكونَ فلسطينياً ولكنهُ يشعرُ بالفخرِ لأنه فلسطيني طالما لفلسطين قضيّة عادلة وأن فلسطين وطن حملناهُ بالحنين وهيَ ليست الفردوس المفقود !، ولا مسألة كلُّ المدنِ سواسية لديهِ من رام الله إلى باريسَ ولا يجدُ بينَ أيٍّ منهنَّ ونفسهِ رابطاً !، ولا مسألة البيت المنفى ولا مسألة الحرية والسلام معاً ولو تحقَّق ذلكَ وفلسطين التاريخيةُ ناقصة طالما أن هناكَ واقعاً تاريخياً –لا نحبهُ نعم- ولكنهُ قد حدثَ اسمهُ "إسرائيل" وعلينا الاعتراف به !، ولا إجاباته حولَ تشبيه علاقته بعرفات مع علاقة المتنبي بسيف الدولة والشعر بالسياسة وأيٌّ من السلطتين أقوى، ولا أيضاً مسألة أن يُترجمَ ويقرأ أو يكونَ لهُ معارفَ من الشعراء "الصهاينة" يحرجونهُ بكلامهم عن المكان وسوقهم الأدلة على امتلاكهم هذا المكان بلغة شعرية مفحمة ! ولا موضوعة أن ينهضَ إلى مشروع شعريٍّ جديدٍ تختفي فيه الغنائية "الحماسية" والتحريضية وتظهرُ فيه أجواء أخرى ! ولا مسألة أن يتحرر من فلسطين التي تأسرهُ طالما بقيت محتلة – طبعا ولو من الضفة وأريحا- ولا يعني لنا كثيراً عدد من المسائل الأخرى أمام مسألة بالغة الخطورة هي أمُّ الكبائر هنا، مسألة إدانة قصيدة المقاومة من داخلها والانقلاب عليها باسمها.
مشروع القصيدة الفلسطينية المقاومة ليسَ أنسنة العدو بل تعريفه كما هو شيطان من أكثر الشياطينِ خبثاً ودهاءً وطغياناً وسفالةً، مشروع القصيدة الفلسطينية المقاومة تعرية أقنعة هذا العدوِّ وبدءً من يسارهِ المدّعى والذي إن كانَ حقاً يسارياً فلماذا يقبل أن يقيمَ ظلماً وعدواناً مكاني صاحب البيت، فلماذا لا يرحل ويثبت هذه اليسارية أو الطيبة التي وصفها "درويش" ؟، مشروع القصيدة الفلسطينية المقاومة أن تتحدّث عن فلسطين كلّها وتطلبها كلَّها حتى لو تمت عملية تسوية ما لردِّ جزء من المنهوب المغصوب فهذا عملُ سياسة لا نشاط ثقافة ووعي ووجدان، مشروع القصيدة الفلسطينية المقاومة أن تروي التاريخ كما هوَ وأن تفحصَ الحاضرَ كما يجبُ أن يردفَ بشدِّ العزائم وشحذ الهمم وأن ترى المستقبلَ من نافذة الانتصار ونافذة الحرية الحقيقية وليسَ المسوّقة في مشروع "أنسنة" درويش وغيره، وجماليات الشعر وزبدته ليسَ في سكن اللغة المجرَّدة بل في حملِ اللغة المستعدة للانتقال إلى مسرحِ الفعل كما أثبتها أصحابها من عبدالرحيم محمود قائل "سأحمل روحي على راحتي " إلى ناجي العلي صاحب لوحة "محمود خيبتنا الأخيرة"، مشروع القصيدة الفلسطينية المقاومة هو مشروع المشي مع أرجل الصبية الصّغار قاذفي الأحجار ومع أغصانِ اللوزِ وهيَ تأنُّ تحت هدير الجرافات وليسَ أبعدَ من زهرها الذي لم تدعهُ جرافات العدوِّ يزهر أصلاً اللهمَّ إلأا أن يكونَ زهركَ اللوزيُّ هذا في بورتوريكو؟! هذا هو مشروع القصيدة الفلسطينية المقاومة ومن عندهُ لها ذبالٌ فليضيءَ به وإلا فليصمتْ.
على درويش ومن يطربُ لما يقولُ أن يفهم تماماً أن شعرَ المقاومة وشاعر المقاومة هي قضية لا تحتملُ البراغماتيات والفذلكات الحزبية والمشاريع الجوائزية الصغيرة، وعيه أن يتذكّرَ كثيراً أن مبتدأ قدميهِ كانَ بفضلِ شعرِ المقاومة لا العكس، وأنَّ جدارنا الثقافي الفلسطيني ليسَ قائماً على رواياتٍ شخصية لأيٍّ من حجارته الصغيرةِ أو من أعمدته –حتى وقت احتسابها كذلكَ - مهما كانت صفتهُ والطريقةُ التي أصبحَ يعدُّ هكذا عليها، وأنَّ مشروعَ أنسنة العدوِّ وتمريرَ توراتياتهِ وحججهِ للعنصرية والبهتان والطغيان والعدوان في قصيدة تحمل اسم فلسطين وما تبقّى من غطاء المقاومة الذي نكثهُ درويش هو خيانة ثقافية وطنية مزدوجة ليس لشعرية القصيدة فقط حيثُ هذه المواضيع تحديداً هيَ منَ السخفِ بمكان أن تشغلَ حيِّزاً في الفضاء الشعري سيما وهذه الشعرية أداة الإدهاش التي يبدو أنها استخدمت في هذا المشروع الموبوء، وليسَ لدماء الشهداء وبالذات من أبناء الحركة الثقافية الفلسطينية من غسان كنفاني إلى ناجي العلي وفودة الذي كانت أمنية درويش يوم خرج من فلسطين أن يرى الشهيد فودة، بل هيَ سقوط من النوع القاتل – إن استمرأ الإصرارَ عليهِ- والذي يستلزمُ أن نعودَ لما ثبتناهُ عنهُ فنزيلهُ بأنفسنا بحقِّ البحثِ الجادِّ والنظرِ المستفيقِ منَ الطربِ الطاريء، نحنُ لم نسلِّم يوماً بالصنمية على أيِّ حال في المسألة الثقافية والأدبية منها لأحد ولا دعونا لذلكَ وإن كنا سنذهبُ لهذه القداسة فلتكن للشهداء أولاً وأخيراً في ضمير الحركة الثقافية الوطنية الفلسطينية.
محمود درويش لا أصدِّق ما تقول حولَ نوبل وأخواتها، محمود درويش أنت منذ اليوم عندي على الأقل لست كما كنا نحسبكَ من مقدمي فرسان شعرالمقاومة إنما أنت الآن بما قلتَ وحتى إشعارٍ آخر شاعرجائزة!