ذهبتُ إلى الكويت للمشاركة في الإعداد لطقوس حفل افتتاح مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي، لصاحبها ومؤسسها الشاعر عبد العزيز سعود البابطين، والتي كان مقررا لها أن تفتتح صباح السبت 21/1/2006، ولكن وفاة الشيخ جابر، أجلت حفل الافتتاح، ومن ثم كان لابد لي من العودة ثانية إلى الإسكندرية، لحين تحديد ميعاد آخر لهذا الافتتاح. وهذه هي المرة الثانية التي أزور فيها الكويت، فقد كانت المرة الأولى للمشاركة في مهرجان الكويت الأول للشعر العراقي بالكويت خلال شهر مايو / آيار 2005، الذي نظمته مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، ولم تكن هناك فرصة للتطواف بالكويت والذهاب إلى شط الخليج العربي، والجلوس على الكورنيش، أو التجوال في الشوارع ودخول المساجد والمحلات والمطاعم والأسواق، خاصة الأسواق الشعبية، وسوق السمك (أو شبرة السمك، كما يسمى هناك) والتفاعل اليومي مع الحياة الكويتية، وركوب الأتوبيسات (أو الباصات) والتأمل في وجوه الناس والبشر والفاترينات، وما إلى ذلك.
غير أن كل هذا قد تحقق لي في الزيارة الثانية، نظرا لطولها من ناحية، وحضوري بعض الفعاليات الثقافية من ناحية أخرى، مثل "ندوة تكريم جمعة الماجد" التي أقيمت ضمن فعاليات مهرجان القرين الثقافي لعام 2005، واطلاعي يوميا على الجرائد الكويتية الخمس: القبس، والسياسة، والأنباء، والوطن، والرأي العام.
كما شاركت ـ مع بعض العاملين في مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي، ومنهم: عبد المنعم سالم، وأيمن البادي، وأحمد السيد، وعمرو وزوجته فاطمة وزياد وهاني ـ في المسيرة الخاصة بتوديع أمير الكويت الشيخ جابر التي شاركت فيها أيضا السيدة سعاد عبد الله العتيقي ـ مديرة المكتبة، ضمن وفد يضم أعضاء الجمعية الكويتية للمكتبات والمعلومات، فسرنا وسط جموع المواطنين والمقيمين على ساحل الخليج العربي من أول الساحة الخضراء حتى قصر دسمان بمنطقة شرق بالعاصمة الكويتية التي تحتضن أبراج الكويت المشهورة.
كان الصديق الشاعر عبد المنعم سالم الذي سبقني للعمل أخصائيا للمخطوطات بالمكتبة، والمحاسب أيمن البادي، في استقبالي لحظة وصولي لمطار الكويت الدولي ظهر الخميس 8/12/2005 وعلى الفور توجهنا إلى محافظة الفروانية، القريبة من مطار الكويت، حيث مكان الإقامة مع مجموعة من الشباب المصري: سعد، وأحمد العويضي، وأكرم زويتة، وهاني صالح، الذين رحبوا بوجودي بينهم، فلم أشعر بأية غربة على الإطلاق. ومرت الأيام معهم وكأنني لم أغادر مصر، وفي الجمعة الأخيرة قبل مغادرة الكويت، أصروا على إقامة مؤدبة غداء سمكية، يتوسطها الجمبري (الروبيان) وأرز الصيادية، وأنواع أخرى من الأسماك، وخجلت أن أسألهم: أين الاستاكوزا، التي لمحتها في شبرة السمك المجاورة لقصر السيف؟
كان عليَّ أن أزور المكتبة لأتعرف عليها عن قرب، وأتجول فيها، خاصة بعد اكتمال المبنى وتجهيزه وإعداده للافتتاح الرسمي، وأدخل كل حجرة وقاعة ومكان وزاوية، انطلاقا من السرداب، وبه المسرح الذي يتسع لحوالي أربعمائة شخص، ومجهز بأحدث التقنيات، والقبو الذي يشتمل على مسطح واسع لسيارات العاملين، ومرورا بالدور الأرضي وبه القاعة الرئيسية وغرفة الوسائل السمعية والبصرية، وقاعة الإنترنت، ومركز التصوير، والديوانية، والمقهى، والمصلى، ثم الدور الأول، وبه مجموعات كبيرة من كتب الشعر العربي والرسائل الجامعية وركن القراءة ومكتب الخدمة المرجعية، والدور الثاني وبه مكتبة عبد الكريم البابطين، وقسم الدوريات وقسم المخطوطات والكتب النادرة وركن خاص بمكتبة "النجاة الأهلية" وركن القراءة، ومكتب الخدمة المرجعية، أما الدور الثالث والأخير ففيه مكاتب الإدارة والموظفين. أيضا عاينت الأقسام الفنية بالمكتبة ذات المداخل الخاصة والتي تتم فيها عمليات التزويد والفهرسة الآلية.
وفي كل هذه الأدوار كان للتكنولوجيا اليد العليا، سواء أجهزة الكمبيوتر المتصلة بشبكة الإنترنت، أو الوسائل السمعية والبصرية الأخرى، وخاصة ما يتعلق منها بضعاف البصر والمكفوفين.
استقبلتني مديرة المكتبة السيدة سعاد العتيقي بعد وصولها إلى مكتبها صباح السبت 10/12/2005، ورحبت بي، وعرضت أفكارها بشأن التعاون في بعض الإنجازات الإعلامية، وعرضتُ أفكاري، وتلاقت أفكارنا، ثم عرفتني على فتاة كويتية هي أسماء جمال ـ الحاصلة على ليسانس الآداب ـ قسم اللغة الإنجليزية، وماجستير في علوم المكتبات والمعلومات، والتي سوف تشاركني ـ أو أشاركها ـ في إنجاز بعض الأعمال الخاصة بحفل الافتتاح، والأعمال الخاصة بموقع المكتبة على شبكة الإنترنت، وتجهيز وطباعة الكتيب الخاص بالمكتبة الذي سيوزع على ضيوف حفل الافتتاح.
ودارت الأيام دورتها في الكويت، والتقيت بالكاتب المسرحي المبدع عبد العزيز السريّع ـ أمين عام مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود للإبداع الشعري، والأصدقاء: عدنان فرزات الذي كنت ألتقى به يوميا تقريبا، وعبد العزيز جمعة، وجمال البيلي، وأحمد الشمري، والشاعر الموريتاني سيدي ولد الأمجاد، ومحمد هلال، وأحمد متولي، وغيرهم.
ودخل علينا عيد الأضحى المبارك، وبعد صلاة العيد كنت وعبد المنعم سالم، على موعد مع أخصائي المخطوطات التركي أحمد دورماز، الذي اصطحبنا إلى منزل أحد أصدقائه الأتراك، لنتناول طعام إفطار أول أيام العيد وسط جمع من الرجال الكبار والشباب والأولاد الذين أضفوا بهجة وطقوسا إسلامية جميلة للعيد، وكان معظم الرجال من أعضاء هيئة التدريس بجامعة الكويت، ومن الدبلوماسيين بالسفارة التركية، وبعض العاملين في مهن أخرى، تحدثنا مع بعضهم بالعربية والإنجليزية، وكان أحمد دورماز أحيانا يترجم لهم من العربية إلى التركية، أو من الإنجليزية إلى التركية. قلت في نفسي لقد كان الأتراك موجودين في مصر قبل ثورة يوليو 1952 وكان هناك حاجز ما بينهم وبين عموم الشعب المصري، ولكن في الكويت أزيل هذا الحاجز، وها نحن عبد المنعم وأنا نمثل مصر في هذا الاحتفال الصباحي بقدوم العيد، وها نحن نتفاعل مع الأتراك على أرض كويتية. (سبحان الله الذي يغير ولا يتغير).
تناولنا ما لذ وطاب من المأكولات التركية والمشروبات، وانقضى الوقت سريعا، وألمح إلينا دورماز أن السيدات يجتمعن في مكان آخر، أو في شقة أخرى، والرجال يجتمعون هنا، وفي كل عيد يتغير المكان من بيت إلى آخر.
مساءً ذهبنا إلى شاطئ الخليج العربي بحي السالمية، لنجد زحمة العيد في انتظارنا، ووجدنا صعوبة في وجود مكان تصطف فيها السيارة التي كانت تقلنا، وبعد وقت وجدناه أمام أحد (المولات) الكبيرة. تذكرت زحمة مصر، أو بالتحديد زحمة كورنيش الإسكندرية، وقت الصيف، هكذا كان شاطئ الخليج العربي والكافتيريات التي تطل عليه، ولعل سر هذا الازدحام أيضا يعود إلى أن الجو كان معتدلا، بل كان بديعا أيام عيد الأضحى المبارك مما شجع الناس على الخروج إلى الأماكن الفسيحة أو المتسعة التي بدأت تضيق بهم. في هذه المرة لم يكن هناك أماكن للرجال والشباب على حدة، وأماكن للسيدات والفتيات على حدة، ولكن شهد الزحام وجود الفريقين معا.
انقضت أيام العيد، وعدنا إلى المكتبة، لنستعد لحفل الافتتاح الكبير الذي سيحضره، ويقص شريطه، رئيس مجلس الوزراء (آنذاك) الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، مع جمع غفير من ضيوف المكتبة، وضيوف الكويت، من داخل الوطن العربي وخارجه، ومرت الأيام في تحدٍّ صعب حيث هطلت الأمطار بشدة وأفسدت بعض الواجهات التي كانت قد تجملت ليوم العرس الكبير الذي ينتظره جموع الشعراء والأدباء والمثقفين والإعلاميين، واستطاعت الإدارة، وعمال البناء، أن يزيلوا آثار الأمطار والمياه ومخلفاتها، في سرعة قياسية، وبعدها سمعنا خبر وفاة أمير البلاد.
كنا نتأهب للخروج إلى المكتبة، صباح يوم الأحد 15 يناير / كانون الثاني، حينما رنَّ محمول أحد زملائنا، ليخبره المتحدث بخبر الوفاة، وأنه ربما تُعطل دوائر العمل في هذا اليوم، ظننا في البداية أنها مزحة من أحد الأصدقاء، ليعطلنا عن الخروج بعض الشيء، فلجأنا إلى التلفزيون الذي أكدت محطاته الأرضية والفضائية جميعا خبر الوفاة. وبدأنا نجري اتصالاتنا، لم يكن هناك رد: هل نذهب إلى العمل أم لا نذهب؟ ولكن في جميع الأحوال كان علينا الخروج من المسكن لنرى ماذا سنفعل، فليس من اللائق أن نظل هكذا قابعين بين الجدران. توجهنا إلى المكتبة ليعزي بعضنا بعضا، ثم يصدر القرار بوقف العمل حدادا على رحيل أمير البلاد. فعدنا نتابع محطات التلفزيون، ونرسل عبارات التعازي عبر رسائل المحمول إلى إحدى المحطات الفضائية، ثم نقرأ عباراتنا بالشريط السفلى المار على الشاشة، ثم نتابع ما تبثه المحطات من أخبار وصول الرؤساء والملوك والأمراء أو من ينيبون عنهم، الأمر الذي دل على محبة الجميع للأمير الراحل، وتابعنا مشاهد الجنازة خطوة بخطوة، إلى أن وارى الثري جثمان الجابر، الذي أطلق عليه أبناء الكويت، أمير القلوب.
أيام لا تنسى في الكويت، ذلك البلد الذي يحمل طموحا لا حدود له، ورغبة في استعادة الزمن الذي سرقه غزو صدام حسين للبلاد صبيحة الخميس الثاني من أغسطس 1990، كنت ساعتها أعمل في مدينة الرياض، ولم أصدق الخبر، ولم أكن أتصور في يوم من الأيام أن تلجأ دولة عربية لاحتلال دولة عربية أخرى، وكتبت ساعتها عدة مقالات في جريدة الجزيرة السعودية، وشاركت في أمسية شعرية بالنادي الأدبي بالرياض، نقلها التلفزيون السعودي ونشرت في الجرائد والمجلات السعودية، كان عنوان القصيدة "أعد ما سرقت وإلا ..".
وأحمد الله أن الأيام العصيبة التي عاشتها الكويت، حكومة وشعبا، قد انقضت، وأن الكابوس انزاح من على صدرها أو كاهلها، لتنطلق إلى آفاق التنمية والتعمير والمشاركة الفاعلة في جميع المنتديات الثقافية والاقتصادية والرياضية والفنية العربية، بقوة واقتدار.
وتأتي مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي لتكون جزءا مهما من هذه المشاركة أو هذه المنظومة الثقافية الفاعلة التي تنطلق من الكويت لتخدم مسيرة الأدب العربي، وتقدم العون للدراسين والباحثين والشعراء على مختلف اتجاهاتهم ومدارسهم.