الشيء المهم الذي يحسب لرواية "عمارة يعقوبيان" لمؤلفها علاء الأسواني، هو نجاحه في تجسيد شخوص الرواية، وكأنهم يمرون ـ من لحم ودم ـ أمام أعيننا، فنراهم في شوارع القاهرة، وفي شارع طلعت حرب على وجه الخصوص. فإذا سار المرء في هذا الشارع الآن (أي بعد قراءة الرواية، وربما بعد مشاهدة الفيلم)، فإنه يحملق في الأشخاص الذين يسيرون في هذا الشارع، وكأنهم خارجون من صفحات هذه الرواية، أو من شاشة العرض السينمائي، على الرغم من أن معظمهم يحملون سلبيات كثيرة، أو صورا غير ما نود أن تظهر عليه الشخصية المصرية، التي لم أجد معدنها الأصيل سوى في شخصية بثينة أثناء رجوعها عن خطة توقيع زكي الدسوقي، في لحظة من لحظات سكره وغيبوبته، على عقد شقته في العمارة لصالح الفراش أبسخرون وأخيه ملاك.
لقد صحا ضمير بثينة في تلك اللحظة، وأحست بالإشفاق على الرجل الذي لم يقدم لها سوى الحب والمال، فينتشلها من الفقر والحاجة، بعد أن عملت سكرتيرة له، وفي نهاية الرواية يتزوجها بعد أن تأكد من حبها له. ولعل هذا الزواج هو الشيء المبهج الوحيد في الرواية.
عدا ذلك نقابل الكثير من الشخصيات المريضة أو الانتهازية أو العنيفة أو الخائنة أو الشاذة أو الساقطة .. الخ، الأمر الذي يشكل توليفة مجتمعية غريبة على مصر، وإن كانت موجودة بالفعل، ونقرأ عن أمثالها في صفحات الحوادث، وأخبار المال والمجتمع، بل أخبار السياسة أيضا.
لقد لخَّص الكاتب رؤيته لهذا المجتمع عبر 348 صفحة، هي صفحات "عمارة يعقوبيان" التي جرت فيها معظم أحداث الرواية. وهي عمارة حقيقية ـ وليست متخيلة ـ بناها عام 1934 المليونير هاجوب يعقوبيان، عميد العائلة الأرمينية في مصر آنذاك، وأخذت الرقم 34 في شارع سليمان باشا (طلعت حرب حاليا) وتتكون من عشرة أطباق شاهقة، في كل طابق خمسة شقق (مع ملاحظة أن الشقة الواحدة لا يوجد فيها سوى حمَّام واحد، وليس حمامان كعادة الشقق القديمة الكبيرة)، وعلى السطح تم بناء خمسين غرفة صغيرة بعدد شقق العمارة.
وسينقسم الناس في تلك العمارة بعد ذلك إلى صنفين أو طبقتين: طبقة تسكن الشقق الواسعة، وطبقة تسكن السطوح. ولكل طبقة سلوكياتها ونماذجها البشرية المختلفة، إما من صفوة المجتمع (أجانب وباشوات أو بكوات، ثم ضباط ثورة، ورجال أعمال)، أو من طبقاته المتواضعة والفقيرة جدا.
من هذا التضاد تنشأ بنية الرواية، وفلسفتها التحتية، ومن ثم نكون أمام نماذجها المتعددة الممثلة لبعض شرائح المجتمع المصري (وليس كل شرائحه بطبيعة الحال).
وأعتقد أن علاء الأسواني لو ظل يكتب، وظل يستلهم ما في واقع المجتمع المصري، على هذه الشاكلة في "عمارة يعقوبيان"، لما كفاه ثلاثية مثل ثلاثية نجيب محفوظ، أو رباعية مثل "رباعية الإسكندرية" للورانس درايل، أو "رباعية بحري" لمحمد جبريل.
وعلى الرغم من أنه قال كل شيء تقريبا، وأن رسالته ـ الاجتماعية والسياسية ـ وصلت إلى قرَّاء الرواية، أو مشاهدي الفيلم، إلا أن هناك الكثير الذي لم يقله أيضا.
وإذا كان نجيب محفوظ اعترف لعبد العال الحمامصي (في كتاب "هكذا تكلم نجيب محفوظ")، بأن السياسة جزء من حياته، ولكنه لا يلزم الأدباء بها، فإن علاء الأسواني قد سار على نهج نجيب محفوظ، وغيره من كبار الكتاب والروائيين، في الاهتمام بالسياسة، أو تسيس "عمارة يعقوبيان" في فصول كثيرة من الرواية، وخاصة في علاقة الحاج عزام بكمال الفولي الذي وعده بأن يصبح عضوا في مجلس الشعب، نائبا عن دائرة قصر النيل (وهي الدائرة التي تقع العمارة فيها)، وبالفعل ينجح الحاج عزام في هذه اللعبة الانتخابية بعد أن دفع مليون جنيه للفولي.
إن رواية مثل "عمارة يعقوبيان" ذات السرد التقليدي، والتقاطعات أو النقلات الزمنية المتعددة، والانتقال من شخصية إلى أخرى، ثم العودة إلى شخصية معينة، ثم القطع عليها، والكتابة عن أخرى، وغير ذلك من مثل هذه الألاعيب الفنية، من الممكن أن تتحول إلى رواية نهرية، تهدف إلى فضح سلوكيات المجتمع في جرأة سياسية واضحة تحسب لكاتبها.
لقد كتب كثيرون من النقاد عن الرواية، وطبقت شهرتها الآفاق، خاصة بعد تحويلها إلى عمل درامي سينمائي ذي إنتاج ضخم، يلعب بطولته عدد كبير من نجوم السينما المصرية الآن. وأظنني لن أضيف جديدا على ما قيل، أو على ما يشاهده المتفرج.
وكان في يقيني أن الرواية أخذت حقها وزيادة، لذا كنت أعزف عن قراءتها، إلى أن وقعت في يدي مؤخرا، فشدتني إليها، وشوقتني لمعرفة عوالمها ومناخاتها، فأنجزتُ قراءتها في ساعات عدة، وأعجبتني جرأة كاتبها، ووصوله مباشرة إلى هدفه، دون لف ودوران، ودون إلغاز أو تعمية أو رموز فنية مغلقة، فكل رموزها ـ على قلتها ـ واضحة وساطعة، ويستطيع القارئ أن يشير بإصبعه إليها، أو إلى بعضها.
صدمتني الرواية في بعض مناطقها، مثلما صدمني بعض شخصياتها، مثل المرأة الفقيرة التي ترتدي أكياس الإسمنت الفارغة كملابس داخلية، وبعض التفصيلات الخاصة بالشواذ الذين يتعرفون على بعضهم البعض من حركات الأصابع عند المصافحة، وغيرها.
ولعل أكياس الإسمنت ـ وليس أكياس الدقيق، أو أكياس البلاستيك، مثلا ـ ترمز إلى جمود
العلاقة العاطفية وتصلبها أو تحجرها بين طبقات المجتمع المختلفة، وخاصة بين الطبقة الفقيرة المعدمة التي لا تملك شيئا، والطبقة الثرية التي تمتلك كل شيء. يقول السارد عن زكي بك الدسوقي ص 13: "التقطها ذات ليلة وهو سكران في سيارته البويك، واصطحبها إلى شقته في ممر بهلر، وعندما دخل بها إلى الحمام ليغسل جسدها بنفسه، اكتشف أنها لفقرها قد صنعت ملابسها الداخلية من أكياس الإسمنت الفارغة، ولا زال يذكر بمزيج من الحنان والأسى، ارتباك المرأة وهي تخلع لباسها المكتوب عليه بحروف كبيرة "إسمنت بورتلاند طره".
هكذا في جملة واحدة سريعة وواصفة، تنهض المفارقة، وتعقد المقارنة، بين عالمين متناقضين في المجتمع.
وإذا كان الكاتب قد نجح في إيهامنا أنه أجاد وصف عالم الشذوذ الجنسي (بين الكاتب الصحفي حاتم رشيد، وجندي الأمن المركزي عبده) فإنه من ناحية أخرى نجح أيضا في إيهامنا أنه أجاد وصف عالم الجماعات الإسلامية، وخاصة جماعة التكفير والهجرة التي صبغت المسلمين ـ وليس الإسلام ـ بصبغة القتل والإرهاب، من خلال شخصية طه محمد الشاذلي. وكأن الكاتب أو السارد بالفعل كان عضوا في هذه الجماعة.
لقد انقلب طه الشاذلي من فتى متفوق في دراسته، استطاع أن يلتحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بعد فشله في الالتحاق بكلية الشرطة بسبب وظيفة أبيه "حارس العمارة"، إلى فتى ينتمي إلى تلك الجماعة التي تكفِّر المجتمع والنظام الحاكم، خاصة بعد أن اعتقل بتهمة هو براء منها، ولكن كم التعذيب والإهانات والاعتداءات البدنية التي لحقته في المعتقل، جعلته ينقلب من فتى مسالم منكسر، إلى وحش يريد أن ينتقم من المجتمع ومن كل من عذبه في السجن، وتستثمر قيادة الجماعة أو أميرها، هذا الشرخ النفسي الكبير الذي حدث لطه، لينفذ أكبر عملياتها بقتل الضابط الذي توهم أنه أصدر أوامر تعذيبه، أمام منزله وهو يتجه إلى ركوب السيارة التي تقف في انتظاره صباحا.
إن علاء الأسواني تغلغل في وصف هذين العالمين المتناقضين، وقدمهما للقارئ بأدق التفاصيل التي يجهلها كثيرون، فوضع يده بذلك على مكمن الداء في هذا وذاك.
وعلى ذلك نستطيع الإشارة إلى أهم الشخصيات الرئيسية والمؤثرة في الرواية والمحركة لأهم أحداثها: زكي الدسوقي، حاتم رشيد، طه الشاذلي، الحاج عزام.
ودون ذلك عشرات الشخصيات المؤثرة أيضا، ولكن تجئ في مرتبة ثانية لهذه الشخصيات الأربعة التي تعد الأعمدة التي قام عليها البناء الروائي.
ومن شخصيات المرتبة الثانية: بثينة (حبيبة طه الشاذلي، ثم حبيبة وعروس زكي الدسوقي)، ودولت (أخت زكي التي تطرده من شقة العائلة، وترفع عليها قضية حجر) وكريستينا اليونانية (صاحبة البار وإحدى الصديقات المخلصات لزكي الدسوقي) وكمال الفولي (رجل السياسة الذي يبيع مقاعد مجلس الشعب لمن يدفع أكثر، ولديه القدرة على اللعب والتزوير في العملية الانتخابية) وسعاد جابر (المرأة الإسكندرانية التي تزوجها الحاج عزام وفق اشترطات معينة، أهمها: الزواج في سرية، وعدم الإنجاب، وعندما بدأ الحمل يظهر عليها، يطلقها الحاج بعد علقة ساخنة من ذويه وأتباعه تؤدي إلى إجهاضها، وعودتها خالية الوفاض إلى الإسكندرية).
وعلى ذكر الإسكندرية، لم تخرج كاميرا الأسواني، أو السارد، الفنية، بعيدا عن القاهرة، إلا للذهاب إلى حي العصافرة قبلي بالإسكندرية، حيث تسكن سعاد جابر، وإلى حي سيدي بشر حيث تسكن عائلتها لإتمام صفقة الزواج، وهو في ذلك يذكرنا بكاميرا نجيب محفوظ التي لم تخرج أيضا من القاهرة وأحيائها الشهيرة، إلا للذهاب إلى الإسكندرية وخاصة في "ميرامار، والسمان والخريف".
وإذا كان معظم أحداث رواية "عمارة يعقوبيان" تدور في تلك العمارة التي اكتسبتها شهرتها من هذا العمل الروائي الكبير، فإننا في النهاية نذكِّر أيضا برواية أخرى ـ صدرت متزامنة مع "عمارة يعقوبيان"، وعن دار النشر نفسها التي أصدرت الطبعة الأولى من رواية الأسواني ـ ولكنها لم تأخذ نفس شهرتها، ويدور معظم أحداثها في برج سكني ضخم، في أحد الأحياء الراقية بمدينة القاهرة، وجاءت في 364 صفحة.
وقد يرجع السبب إلى عنوان الرواية نفسه، الذي أرى أن مؤلفها ظلمها باختيار هذا العنوان الذي لا يوحي بأن ثمة رواية مهمة موجودة في سوق الرواية العربية، هي رواية "طفل شقي اسمه عنتر" لكاتبها الدبلوماسي محمد توفيق، وهي رواية تُعرِّي أيضا الفسادَ والعفنَ الضاربَ بأطنابِهِ في المجتمع المعاصر، وأرشحها لفيلم سينمائي قد يكون موازيا، وفي أهمية، "عمارة يعقوبيان".