هذه رواية صعبة، تحتاج إلى أكثر من قراءة، ومن أسباب صعوبتها: طريقة معالجة موضوعها الرئيسي، وهو محاولة "ريحان" ـ الشخصية الرئيسية في الرواية ـ تبني طفل لم يولد بعد، وبعد أن وُلِدَ، أخذته أمه الحقيقية وفرت هاربة، فضلا عن لغة الرواية التي جاءت مفردات كثيرة منها بالعامية التونسية، المطعمة بالأغاني والأمثال الشعبية التي قد يصعب قراءتها بطريقة صحيحة، ومعرفة مغزاها، لقارئ عربي مثلي لا يعيش في تونس الخضراء.
الرواية بعنوان "حافية الروح" للكاتبة التونسية فتحية الهاشمي، صدرت في تونس عام 2005، وانتهت الكاتبة من كتابتها (يوم الأربعاء 28 من جانفي 2004) وفيها قدر كبير من المغامرة الفنية، والجرأة الإبداعية، وأساليب فن السرد الحديثة، من اللعب بالضمائر (خاصة ضميري: المتكلم والغائب) وتداخلها على نحو قد يربك القارئ غير المتمرس على قراءة هذه النوعية من الروايات التي تتداخل في الأزمنة أيضا، ولا نستطيع تحديد مكان بعينه تدور فيه الأحداث، مع تشييد عالم من الرموز والكوابيس والأحلام والهلاووس والاستبطان الذاتي، واستخدام تيار الوعي أو اللاوعي، والمناجاة، والمعادل الموضوعي، والتناص، والفلاش باك (العودة إلى الوراء) والفانتازيا واللامعقول، وشعرية السرد، وغيرها.
وقد ساعد الروائية كثيرا في هندسة عالم الرواية، وارتفاع مستوى اللغة والحوار (الذي قد يجئ في بعض الأحيان بالعامية التونسية)، كون الشخصية الرئيسية، وهي "ريحان"، فنانة تشكيلية مثقفة تهوى الرسم، وتحب الشعر والفلكلور وأغاني أم كلثوم وفيروز وبعض الأغاني اللبنانية والفلسطينية والفرنسية، وتشارك في الندوات الثقافية، وأنها تقع في حب شخص آخر غير زوجها (الذي تحترمه كثيرا). وقد يكون هذا الشخص رمزا للوطن الذي تريد أن تمتلكه بين يديها، فلا تحس بالغربة عنه، وبالتالي مثل هذه الشخصية تكون أكثر قربا من الكاتبة المثقفة فتحية الهاشمي التي التقيتُ بها أثناء زيارتي لتونس في مارس / آذار من عام 2004 للمشاركة في مهرجان علي بن غذاهم الشعري في دورته التاسعة بمدينة جدليان، وقد وجدت إشارة إلى اسم هذا المجاهد التونسي في صفحة 80 في سياق استعراض ريحان للأبطال العرب الحقيقيين الذين تنحني لهم وتصلي أمامهم.
نجحت الكاتبة في مزج العام جدا بالخاص جدا، في نسيج الرواية التي جاءت في كثير من صفحاتها ـ التي بلغت 160 صفحة ـ تعبيرا عن رأي المثقفين في الأزمات الكبيرة التي تمر بها أمتنا العربية، وخاصة في العراق وفلسطين.
ومما يكسب الرواية حيويتها ـ رغم صعوبتها ـ أنها جاءت مرآة لمشاعر المثقف العربي ليلة سقوط بغداد في التاسع من أبريل / نيسان عام 2003، وتصادف احتفال تونس بعيد استقلالها في اليوم نفسه.
يقول السارد أو الساردة أو الراوي أو الرواية، في بداية الرواية ص 14: "لملمتْ ما تناثر من جرحها، إنه اليوم التاسع من أفريل، وقد قررت ركوب حزنها والاحتفال باستقلال تونس، و .. سقوط (غرنداد) .. عانقه الكل، بينما كانت تحتضن الخواء وترمقه في ذهول، لم تمتلك الشجاعة (لتعزيته) لتعرية اللحظة الدامعة .. اقترب منها أو اقتربت منه، لم تعد تدري، ولكنها كانت تدفن رأسها الصغير في صدره العريض .. تضغط خدها على ضلوعه، وكانت تفوح منه رائحة العراق".
هذا الحبيب الذي تلجأ إليه "ريحان" في أزمتها وأزمتنا، هو الوطن العربي الكبير، الذي قد يكون في شغل شاغل عنا، وعن أحزاننا، فقد يتلهى بنا الوطن حينا، ويبتعد عنا أحيانا (وكل لقاء بينهما / بيننا / ينذر بالقطيعة) لكننا في جميع الأحيان نرتاح على صدره الذي يفوح منه رائحة العراق، وفلسطين، وسوريا، ومصر، وغيرها من بلاد عروبتنا، ونحزن كثيرا لسبابته المقطوعة في حرب الواحد والتسعين، ولزمن ضاع فيه الدم باسم الصداقة.
هكذا يرتفع مستوى الرمز في رواية "حافية الروح"، ليكون أكثر شفافية كلما انهالت علينا المصائب والأحزان. ولنقرأ هذه الجملة الدالة ص 21، 22:
"أشم رائحة دمي في (عبايتك) أم تراه أتاني الوطن على حين غرة يوم التقيتك في ذلك المكان الطيب. إنني ما شعرت يوما بانتمائي إلى رقعة محددة من الوطن العربي. أنا أحس بانتمائي إلى التاريخ .. إلى الأشخاص .. إلى الوطن ككل .. أنت ترى أنني مازلت ألهث باحثة عني، وأنا أعلم أنه (لن أجدني) أبدا، وسأظل (كالخنساء) (أعتنق) وطنا ضيعني وضيعته ذات شتات، وسأظل أتنسم ريحه في وجوه سمر وأكف تنهمر بكاء".
وتلجأ ريحان إلى فرشاتها وألوانها ولوحاتها لترسم ملامحها تارة، وملامح الوطن تارة أخرى، فتغمس الفرشاة في الألوان الصارخة، ومن بينها تتشكل ملامح الطفولة، وملامح المستقبل الوليد، وأثناء ذلك تعود لتتذكر ملامح طفولتها وهي في سن الخامسة من عمرها، وملامح والدها، وتطفو على السطح بعض هذه المشاهد الطفولية، التي تقوي من عزيمة "ريحان" على أن تكون أما، ولما تأخر حملها كثيرا، تذهب إلى أحد مراكز الحمل في محاولة الحصول على طفل تتبناه، ينشأ ويترعرع بين أحضانها، وتعلمه معنى الوطن.
هنا نكون أمام أشد حالات التمازج بين الخاص والعام، وننتقل من أزمة الوطن الكبير، لنعيش دقائق أزمة "ريحان" في محاولة تبني طفلة، ولكن ترفض الأم الفقيرة الصغيرة التي تحمل دون زواج شرعي، ويغدر بها حبيبها، ويرفض الاعتراف بأبوته إلا بعد تحليل عينات الدم وإثبات أنه والد الطفلة ـ معمليا ـ ويقول: "إذا ثبت التحليل الجيني أبوتي للطفل، لن أتخلى عنكما".
وتوافق خالة الأم الصغيرة على مسألة أن تأخذ ريحان الطفلة بعد ولادتها، خشية من الفضيحة. وتصر الأم على موقفها رغم فقرها المدقع.
وما بين الشد والجذب، تتعالى في الرواية أحاسيس الأمومة عند كل من ريحان والأم الصغيرة، ويتصاعد الجانب النفسي بكل توتراته واضطراباته وخوف كل شخصية على هذا الوليد الجديد في الحياة. ريحان التي أعطت الحق لنفسها لأن تتبنى الطفلة، لدرجة أن حليب الرضاعة بدأ يجري في ثدييها (اللون الأبيض يزهر فجأة والمادة اللزجة تتقاطر رذاذًا كالبَرَد، وتغمر المكان وتفيض على الكراسي والكلمات، فيعلق المثقفون منها). إنها تحس بأمومتها لكل المثقفين العرب حتى العجائز منهم، ولكن (الوجه الكالح يطفو على السطح) لنلتقي برمز آخر في الرواية، قد يكون وجه الغاصب أو المحتل أو وجه السلطة المتجهم، أو وجه الوطن نفسه في أشد حالات القسوة على بنيه.
وينشط خيال ريحان فتفكر في مستقبل تلك الطفلة، ولكن الأم الصغيرة والدة الطفلة الحقيقية التي تخاف ـ بغريزة الأمومة ـ على طفلتها، ترفض بشدة أخذ رضيعتها، مهما كانت ظروف فقرها والفضيحة التي من الممكن أن تحدث بعد عودتها إلى قريتها ومعها طفلة مجهولة الأب والنسب.
هنا أيضا يتصاعد رمز آخر ويحلق في أجواء الرواية، فهذا المولود الجديد بالنسبة لريحان هو الأمل الذي يأتي ولا يأتي، أو هو المستقبل الضبابي الذي تريد أن تتبناه، فيتأبى عليها ذلك (كان نداء الأمومة يعلو في صدرها المختنق، وهي تحضن الخواء).
وفي معمعة أزمتها النفسية وفي الرابع عشر من ديسمبر من العام 2003 يتناهى إليها خبر القبض على الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، فيسقطها الخبر من الطابق الألف، ولم تصدق ما سمعته، وتنخرط وصديقتها "ٍسراب" في البكاء، ولاسم "سراب" ـ التي كانت تعيش خارج الوطن ـ أيضا دلالته الرامزة.
وعندما تعود ريحان إلى المنزل ينتصب زوجها أمامها ووجهه بلون الموت. (ألقت بنفسها في حضنه وانخرطا في البكاء).
ومن مأساة العراق إلى مأساة فلسطين التي تكثفها الكاتبة في زوجة مروان البرغوثي: (المحامية التي تقف شامخة أمام حاجز إسمنتي يبلغ الكيلومترات، ويرتفع أمتارا، ويشج وجه فلسطينها إلى نصفين، وتتأبط شجاعتها في مواجهة فرق التفتيش، وتترقب رؤية زوجها خلف تلك الأسلاك الشائكة، وخلف تلك الجدران العالية وتحت حراسة أعدائه).
ومع بداية عام جديد، هو العام 2004 تكون ريحان على موعد آخر مع الصعود إلى هاوية الوطن، فتستعرض تواريخ الحروب والهزائم العربية (ثمانية وأربعون، سبعة وستون، تسعون، واحد وتسعون، ألفان وثلاثة) وما من إشارة إلى (ثلاثة وسبعين) ربما لأنه عام نصر، وريحان تستعرض أعوام وأرقام الهزائم فقط.
وإلى جانب الأرقام تتأمل ريحان الحروف العربية، مثل الألف (المنتصب في خاصرة الكتاب، وبقية الحروف تحوم حوله، تباركه) والميم (ميم المذلة، ميم المزايدة، ميم الموقف، ميم المجاز، ميم المجاورة، الميم موال طويل من المحيط إلى الخليج) والتاء، والسين (من سيناء إلى سامراء) وترى أن حرف السين مرتبط بالهزائم العربية، فبينهما أواصر لا تنقطع أبدا.
إلى جانب ذلك تفسح الرواية مكانا للقضايا البشرية العامة، وخاصة المرتبطة بالموت، فتشير في بعض صفحاتها إلى أمراض جنون البقر، والحمَّى القلاعية، وأنفلونزا الطيور، لتعلن بذلك عن مواكبتها لأزمات الإنسان المعاصر وهلعه وخوفه على مصيره من الحروب والأمراض الفتَّاكة التي زرعها أو صنعها بنفسه، ثم يدفع ثمن كل ذلك (الدجاج يتناول المسكنات وينام تحت الأغطية الصوفية أو التبن حتى يعرق .. فتاة تقاوم .. فتاة في السادسة عشر من عمرها، تموت نتيجة أصابتها (بالإيدز).
إن الإنسان في رواية "حافية الروح" محاصر بالعقم (وفي لحظة الميلاد كانت الابنة مجهولة النسب والهوية) ومحاصر بالموت في كل لحظة، حتى الطبيعة (بأمطارها وبحرها وحشراتها وهوامها) لم تعد ترحم هذا الإنسان الذي لم يلبث أن يفتك بها أيضا، فالمطر الذي قد يرمز إلى الرحمة والخير والإغاثة لم يكن رحيما ومغيثا في ص 132: "المطر يأتي على الأخضر واليابس. يأخذ الإسمنت، يقتلع الأشجار، والبحر الذي لا تعرفه هذه الأجساد المنهكة، التي يمتص (الناموس) ما تبقى من دمها، يأتيها فاتحا ذراعيه، تفوح منه رائحة العفن والموت".
وعلى الرغم من الحوارات والمشاهد الحسية المتعددة بالرواية، مثل هذا الحوار الذي دار بين ريحان وحبيبها، عندما ضبطته متلبسا مع أخرى:
ريحان: لعلمك ! مثل هذه لا تثير غيرتي البتة! أنا لا أغار إلا من الأنثى!
ـ هذا أعجب من العجب، يبدو كان معايا راجل وأنا ما في باليش!
ـ أفظع ! أنت كان معاك وعاء جنسي!
ـ ماذا ..؟
قال جملته وانتصب واقفا أمامها:
ـ أوضحي!
ـ أنت لم تملك منذ دقائق، سوى ..
خجلت أن تتم جملتها.
ـ كنت أغار منها قبلا، لكن صدقني ما رأيته منها منذ حين، جعلني أشفق عليها، عليكما معا ..
على الرغم من مثل هذا الحوار والمشهد الحسي، فإن هناك جوانب روحية أو دينية، تشكل حالة من التوازن في الرواية، مثل لجوء ريحان إلى جامع الزيتونة (على عتبات جامع الزيتونة، جلست، هزتها الآيات من أعماقها، بكت بشدة) فتدخل المسجد، وراء الشيخ، بعد أن وضعت الشال على رأسها، فاستغفرت وبسملت وحمدت ربها وهي تصلي على النبي (صلى الله عليه وسلم) ثم تغادر الجامع، وكأنها تطير. ليلتها نامت نوما هادئا، ولم تر الكوابيس المعتادة، خصوصا ذاك الذي تتذكره كلما ألمَّ بها سوء ما.
فهل تريد الكاتبة أن تقول لنا إن الحل لأزماتنا النفسية هو اللجوء إلى جوهر الروح، إلى الله، إلى الدين، خاصة بعد أن قال شيخ الجامع لريحان: لا تقنطي من روح الله. إنه لا يقنط من روح الله إلا القوم الكافرون؟.
تمتاز لغة الرواية ـ في مناطق كثيرة ـ بشاعريتها، إلى جانب ما يمكن تسميته بشعرية السرد، وشعرية الوصف، واستخدام الألوان بكثرة، وخاصة اللون الأبيض (لون الحليب، ولون السائل المنوي كذلك).
تقول الساردة عن اللون الأبيض في ص 41، 42: "للون الأبيض الملتصق بالأعضاء الصغيرة، زفرة وبكاء .. وجهها الشاحب حاكى بياض الثوب، وهي تجلس على حافة السرير المتسربل بالبياض، وأحست بالغثيان، البياض يطاردها حيث كانت، وللون الأبيض غصة ونشيج، هو لون الموت، ربما كان كذلك، بل هو لون الحياة، ألا ترتدي العروس الأبيض لتسير إلى .. توقفت عن التفكير، فلعلها تسير إلى موتها".
وهي في ذلك تذكرنا بقصيدة أمل دنقل "ضد من" في ديوانه "أوراق الغرفة 8" التي كتبها على سرير المرض الأبيض، حيث كل الألوان بيضاء، وحيث التناص مع قصيدة أمل، وبعض مفرداتها (أنبوبة المصل، ملاءات السرير، الشاش والقطن، كوب اللبن والكفن .. الخ). يقول أمل:
في غرف العمليات
كان نقاب الأطباء أبيضَ،
لون المعاطف أبيضَ،
تاج الحكيمات أبيضَ، أردية الراهباتِ،
الملاءاتُ،
لون الأسرَّةِ، أربطةُ الشاشِ والقطنْ
قرصُ المنومِ، أنبوبةُ المصلِ،
كوبُ اللبن
كل هذا يشيع بقلبي الوهن
كل هذا البياض يذكرني بالكفن!
إن كون البطلة فنانة تشكيلية أتاح للساردة، المزج بين فنون الكتابة وفنون الصورة، وكأننا أمام مشاهد سينمائية في بعض جمل السرد. تقول الساردة ص 102:
"المدينة تغادر أزقتها، الأزقة تغادر بيوتها، البيوت الواطئة بجدرانها الشاحبة، تنفلت مثل البغايا من النوافذ المقوسة والأبواب الخشبية ذات المسامير المدببة تتعلق بالأقواس، ورائحة الصندل تفوح من الخطوات المتعثرة. في النهج الضيق قرقعة ومواء، عربة الزبالة التي يجرها العامل المربد الوجه، بتقاسيمه الضائعة في حوانيت اللبلابي و(الملاوي) تدفع الأموات لامتشاق نعوشها والفرار من زبانية المدينة .." .. الخ.
أما الفقرة التالية فتحمل سطورها مشهدا سينمائيا، تقول في ص44:
"دفعته ودلفت إلى الداخل، تسمرت أمام النظرة المنتصرة للأخرى، وهي تصعدها معها وسيجارتها المتلهبة تزيد وجهها حدة، نقلت نظرها بينهما، قميصه المفتوح من الأعلى وشفتاه، أحست بالغثيان، لكنها قررت الجلوس في المقعد المقابل للأخرى، واضعة رجلا فوق رجل، وهي تحرك عينيها في بطء بينهما متلهية بالارتباك البادي عليهما .." .. الخ.
هكذا ينكشف لنا عنوان تلك الرواية الصعبة "حافية الروح" الذي نلمح ظلاله في تعبير "حافية الحلم" ص 94، حيث محاولة التحليق في جميع الأجواء المحلية (التونسية بلهجتها المتميزة، وخاصة في شارع الحبيب بورقيبة، ومنطقة الزيتونة بما فيها جامع الزيتونة، وغيرها من الأماكن والشوارع والمناطق مثل بنزرت) والعربية (العراق وفلسطين ومصر ولبنان وليبيا) والعالمية (أمريكا على وجه الخصوص، وفرنسا) مع الإِشارة إلى فعل الطبيعة الغاضب، وما ينتج عنه من كوارث وأمراض لم تكتشف طرق مقاومتها الفاعلة حتى الآن.
وفي جميع الأحوال يتلفت الوطن كالهارب من جُرم يبدو جليا، ولكن ريحان تحاول أن تأخذه إلى نزل "الشرق الأوسط" (إين نزل العروبة؟) فيتلفت حوله وعيناه تمسحان المكان، باحثتان عمن لا يعرفونه، فتحاول ريحان الصراخ على الملأ: هذا بقايا ما يمكنني أن أسميه حبيبي. فيقول لها: أعلم أنك تكرهينني الآن، فتحاول أن تسكته. وعندما تنهض من مكانها، يترجاها قائلا: لا تتركيني هكذا، عاريا كالخطيئة!
من هنا تحلق روح الكاتبة أو الساردة حافية، خفيفة، لتكون شاهدة على ما يحدث، فتُدلي بشهادتها كفنانة ومثقفة، في قالب روائي حداثي يجمع بين الكثير من طرق السرد غير التقليدية التي أشرنا إليها من قبل.
وقد لاحظت أن هناك توظيفا للتليفون الموبايل، أو المحمول، أو الخلوي، أو النقَّال، أو الجوَّال، في مساحات كثيرة من عالم الرواية. وأن هناك توظيفا لتقنية المكالمات التي لم يُرد عليها، وهو ما يشي بأن هذه الرواية ابنة شرعية لعصرها الحالي، فهي لا تعيش أو تقتات على عصور أو عقود سابقة، بل تتفاعل مع الواقع الحي بكل تشابكاته وإنجازاته التكنولوجية الجديدة، رغم عدم استخدام كل من الساردة وريحان، إطلاقا لشبكة الإنترنت، والبريد الإلكتروني، والدردشة عبر الماسنجر أو غرف الدردرشة، وما إلى ذلك. وأرى أن لهذا أسبابه، فريحان لم تركن أبدا إلى مكان ما، فهي دائمة التجوال والترحال في الشوارع والأزقة والأندية الثقافية ومركز الحوامل، لا تصل إلى بيتها حتى تخرج على التو إلى عالمها المحبط الذي يتسم بالهزائم والنكسات، وهذه الحالة تتناسب واستخدام الهاتف المحمول أو الخلوي سهل الاستعمال، خفيف الوزن، يُحمل في اليد أو يوضع في حقيبة اليد الصغيرة، أما جهاز الكمبيوتر فمن الصعب حمله في اليد أو وضعه في الحقيبة الصغيرة، مثلما يُحمل الخلوي أو النقَّال، على الرغم من أن الأجيال الجديدة من المحمول أو الخلوي، استفادت من تقنية شبكة الإنترنت، وخاصة البريد الإلكتروني، فأصبحت هناك أيقونة لاستدعاء البريد الإلكتروني، وتصفحه والرد عليه، من خلال شاشة الهاتف المحمول.
وإذا كان لا نحب أن نُطلق مصطلح "الأدب النسائي"، على ما تكتبه المرأة من إبداع، فإنه من ناحية أخرى، أرى أن مثل هذه الرواية لا تكتبها إلا امرأة مبدعة، فأحساسيس المرأة ومشاعرها وحلمها في الإنجاب، ومحاولة تهيئة كل الظروف لاستقبال المولود الجديد، وما يصاحبها من نمو لمشاعر الأمومة، وتدفقها مع لبن الثديين، من الصعب جدا، إن لم يكن من المستحيل على الرجل المبدع أن يستطيع سكبها على الورق، من خلال التقنيات الفنية للرواية الحديثة، مثلما فعلت ريحان، أو فتحية الهاشمي.