"يغادر طلال السجن جسديا ولكنه يبقى يعيش داخله نفسيا، ليعكر -أي السجن- كافة تفاصيل حياته، حتى يقرر أن يتلقى إرشادا نفسيا، ويعود بالتالي إلى زوجته وابنه وأصدقائه الذين يفقدهم شيئا فشيئا"، وهذا هو جزء من مسرحية "زنزانة 76"، في عرضها الأول على مسرح وسينماتك القصبة في رام الله مساء أمس. وتهدف المسرحية التي أنتجها "مركز علاج وتأهيل ضحايا التعذيب" و"القصبة" إلى إيصال رسالة للجمهور، بـ"انه على الخارج من السجن إذا ما واجه مشاكل بالتأقلم مع الوضع الجديد، وأحس انه بحاجة إلى التأهيل، أن لا يخجل، ويتوجه إلى المراكز الخاصة لتلقي المساعدة النفسية".
المسرحية التي كتبها وأخرجها المسرحي الفلسطيني جورج إبراهيم، ويؤدي أدوارها الممثلون عماد فراجين ومنال عوض وخالد المصو، تبدأ بكابوس ينتاب طلال، يسترجع خلاله ذكريات وجوده بالسجن، والمعاناة الشديدة والعذاب الذي قاساه، طوال السنوات السبع التي قضاها هناك.
المعاناة التي تبدأ من لحظة الاعتقال، لا تنتهي بالزج به في السجن بل تستمر طوال فترة مكوثة هناك، الأمر الذي تعكسه المسرحية من خلال قيامه هو وزميله في السجن "سعيد" بالهرولة في مكانهما فيما التعب يطغى على ملامحهما، حتى تأتي اللحظة التي يعلن فيها جيش الاحتلال نيته اطلاق سراحه.
عند هذه اللحظة تبدأ معاناة اخرى تعكر صفو "الحرية" و"العودة الى الحياة" و"لقاء الاحبة" التي طالما منى طلال نفسه بها، وهي لوعة فراق الصحبة من السجناء، الذين قضى معهم زمنا طويلا، ذاقوا فيه ظلم السجن وعذابه معا، وسرقوا فيه معا ايضا لحظات فرح قصيرة بعيدا عن اعين السجان وسوطه.
وينتهي الحلم باستيقاظ طلال مذعورا على صيحات السجان واثنين المعذبين.
اذن فطلال الذي غادر السجن جغرافيا قبل ثلاث سنوات، لا يزال يعيش داخله نفسيا، بداية من بيته الذي لا يغادره، واصحابه الذين لا يراهم، وزوجته التي نسي حتى عيد زواجهما وترك عليها لوحدها عبء العمل وتدبير نفقات الحياة، وابنه جابر، هذا الفتى الذي لجأ الى رفاق السوء بعد ان حطم السلوك الغريب والانعزالي واللامبالي لوالده الخارج من السجن، صورة البطل التي طالما رسمها له عندما كان خلف القضبان.
ويعكس "طلال" صورة هذه المعاناة من خلال جلوسه للعب الشطرنج مع زميل له لا يزال في السجن، وحديثه معه وكأنه ماثل امامه، رغم احتجاجات زوجته وتوسلاتها له للخروج من هذه الحالة.
ويزيد حالة طلال استفحالا تنكر الناس "لبطولته"، وعودتهم الى حياتهم اليومية بعد مدة وجيزة من انبهارهم به واحتفائهم بخروجه، وإعراض المسئولين عنه، تاركينه ليلاقي مصيره دونما مصدر رزق، الامر الذي لم يكن يتوقعه وهو "ابو جابر" الذي صمد 40 يوما في زنازين الاحتلال رافضا الاعتراف، ولم يسجن الا نتيجة اعتراف احد رفاقه في المقاومة عليه.
تدرك الزوجة أن زوجها بحاجة لإرشاد نفسي، ولكن طلال الذي ما يزال يعيش دور "البطل" يصرخ بها حين تفاتحه بالأمر، متسائلا باستنكار: اتريدين من الناس ان يقولوا عني انني مجنون؟!".
ويستمر طلال في معاناته حتى يلتقي صديقة "سعيد" الخارج لتوه من السجن، والذي كاد ان يقع اسيرا لذات الحالة، ويخسر عائلته والمجتمع، لولا توجهه إلى "مركز علاج وتأهيل ضحايا التعذيب" الذي نجح في علاجه، واعادته الى الحياة، اي الى خارج اسوار السجن وقضبان الزنزانة التي طالما لاحقته حتى بعد مغادرته.
المسرحية تنتهي بإقناع سعيد لطلال بتلقي تأهيل نفسي، وبالتالي العودة الى ابنه زوجته وأصدقائه الذين يخرج من مبتهجا للقائهم، اي عودته الى حياته التي غادرها طويلا، ولتصل بذلك الرسالة التي تحملها المسرحية للذين يمرون بذات الظروف.
وكانت المسرحية قد سبقت بكلمة للدكتور محمود سحويل مدير عام المركز تطرق فيها الى ما يحدثه السجن من قتل للروح المعنوية للمعتقلين، وتغيير سلوكهم، وهو ما ينعكس ليس على السجين لوحده، وانما على عائلته والمجتمع بشكل عام.
كما نوه الى ما يلعبه الاعلام من دور هام في التغيير الايجابي للوصمة الاجتماعية للخدمة النفسية ، وتشجيع من يحتاج الخدمة على طلبها من جهة الاختصاص.
من جهته، قال جورج ابراهيم ان المسرحية قريبة جدا من الواقع، وان شخصياتها مستمدة من المجتمع، فبعض المعتقلين يكابرون ويرفضون العلاج حتى تتفاقم مشكلاتهم،ة، مشيرا في هذا السياق الى اهمية مساعدة الاخصائيين للفنانين وتوجيههم، للتذكير بهذه القضايا، وارشاد الفنانين، خاصة وان الفنان يركز عادة على النواحي الفنية ويهمل النواحي الطبية.
واشار الى دور "مركز علاج وتأهيل ضحايا التعذيب" في ارشاد وتوعية الطاقم العامل في المسرحية، الى عدة امور لتلافيها او تغييرها، واصفا التعاون بين المؤسستين بالمثمر جدا، معربا عن امله ان تكون هذه المسرحية بداية لفتح العديد من الملفات الساخنة.
واشار الى ما للمسرح من دور مهم وفعال لدى الجمهور، حيث يرى الجمهور اشخاصا حقيقيين امامهم يجسدون معاناة حقيقية، تشكل جزءا من الحياة، وينشر صورة واضحة يتعاطف الناس معها، ويدخلون في اعماقها، وليس بيان او نشرة جامدة.
من جانبه، قال الممثل عماد فراجين ان المسرحية تمثل حالة واقعية، حيث ان الكثير من الفلسطينيين اسرى او كانوا اسرى. واشار الى التحدي الذي فرضه دور الاسير عليه، خاصة وانه يعيش في وضعيات وسلوكيات مختلفة، تتراوح ما بين الحزن والفرح. ونوه الى مساعدة مرشدي المركز له في تقمص الشخصية، اضافة الى اطلاعه هو شخصيا على العديد من الحالات لاسرى عاشوا هذه التجربة.
من ناحيته، عبر نياز ضيف الله الذي كان ين الحضور، عن اعجابه الشديد بالمسرحية كونها تعكس قضية مهمة وملحة، ولم يتم التطرق اليها بشكل كاف من قبل.
واشاد ضيف الله باداء الممثلين، موضحا انه كان قريبا جدا من الواقع وانه ترك اثرا عميقا في نفسه عن معاناة الاسرى المحررين، كما رسخ قناعاته بضرورة توجه من يعاني منهم من اثار جانبية نتيجة السجن الى العيادات والمراكز المتخصصة لتلقي العلاج والارشاد النفسي.