إلى أمِّي
في مرقدِها،
إلى كلَّ أمٍّ في الكونِ
إلى كل من تستعد لتكون أماً،
أقدم قرنفلة تبقى على غصنها،
أقدم قلبي يبقى في نبضاته،
أقدم سربا من ذكريات تأبى أنْ ترحلَ فاجأني العيدُ من الخلفِ،
وأغمضَ عينا نسياني بعصابة،
ثم أيقظهُ،
كنتُ مشغولا بالحياة
أو تشتغل بي الحياةُ،
لا بأس،
كلُّ شيء رائع
الرجوع إلى الوراء،
الذاكرة دون حروف،
الانتظار عند مفترق القلوبِ،
خربشتنا على جدار اللعبِ ..
***
ولأنَّ لي أمّاً ، فلي عيد ،
ولأنَّ لي عيداً ، تعلمتُ كيف أقطفُ الكلماتِ عن أغصان الفجرِ ، لأقدمَها إلى أمِّي ،
ولأنَّ للعيد أمهات ، يقطفني عن غصن عمري ،
ويقدمني هديةً للشكر.
***
بيني وبين ذكراك ،
حلم ، وقبلة ، ويد نبتَ عليها الدهرُ أياماً من وجع ،
ومن بقاياه ،
هل جاءَ العيدُ ؟
هل راحَ العيدُ ؟
عبثا يمر بي رصيفُ السؤالِ ، ويدوسني،
وأعلمه كيف لا يكون بي رحيماً،
وأعلمه معنى الاغترابِ في الفرح ،
رغم أني لا أزال في الصفوف الأولى أتلقى مناهج :
الأمل ،
الحب ،
المال ،
الأنثى،
والتمني .
***
أمي ، كلُّ عيدٍ ، وأنتِ تزهرين ذكرى ، وأتقاسم مع الماضي جهدا أغراني لأكونَ كما كنتِ تحلمين ، فإذْ بي أتسللُ من تحت جنح الأمل لأصلَ إلى استلاد الحنان من براعم الوداع الخير : ليلتُها ودعتِني بابتسامة ، وقبلَ الفجرِ كنتُ ذاهبا معك إلى فرح، وسبقني إلى روحك ملكُ الموتِ ، قمتُ يائسا بإجراء تنفسٍ اصطناعي ( فم – فم ) ، ثم صرختُ صرخةً مدويةً - فارقتْ الحياة - ونبتتْ صرختي تحت جفني دمعةً ، ولا تزال ، وبعد عشرِ سنواتٍ من حملي شمعة الوداع ، اكتشفتُ أنك أخذتني معك ، لم أميزْ بعد كثيرا بأن مهمة الحواس تتعطلُ في لحظة يُطلَب منها أن تنفعلَ ، فتلك الصدمة هي مدى ، حرية ، إنذار ، وربما ميلاد : الأمٌّ لا يمكن أن ترحلَ ، أو تموتَ..
أمَّي ، رغم أنك لم تدخلي مدرسةً، و لم تقرئي في كتاب، لكنني أشهدُ أنك عرفت الكثير من أسرار الوقت ، والنجوم ، والسماء ، وأشهدُ أنكِ روضتِ الأرضَ ، والشتاء ، والظلمة ، والخوفَ ، فمنك تعلمتُ أنَّ الروحَ مثل نحلة تزور الجسم ، وتأخذ منه فقط الرحيقَ ، وعندما تزعل ، أو لا تجدُ ما يكفيها فيه ، ترحلُ عنه لتكونَ نجمةً في السماء إنْ كانت خيّرةً ، أو عتمةً بين النجومِ إن كانت شريرة
..
أمي :
أنا وأنتِ تقاسمنا حمْلَ ( الصمد والنير والسكة وكيس الحنطة ) ، فلحنا ، وزرعنا وحصدنا ، يوم ثارت بقرتنا ( حميرة ) وفلتت من النير ، ضربتِها بحجرة فأصابتني ، تحملت الوجع ، وعدنا للفلاحة من جديد ..
أنتِ أول من رفع جسمي الصغير الناحل مثل عود الجوز ليصل ظهر سيارة ( الهوب هوب) ، ثم تناولتُ منك كيسا من حشائش جمعتها ، مع قليل من السمنة والجبن والشنكليش ، بعتها في السوق وعدت إلى المدرسة متأخرا فضربني مدربُ الفتوةِ – في الأول الإعدادي – الذي لم يقبلْ تبريري.
سربٌ من ذكريات: حملتني يوم وقعتُ عن ظهرِ الحمار وكسرت ساعدي ، وقتها سقطت دمعاتك الحارة في فمي، لا يزال طعمُها حيّا .
لن أنسى يومَ نظرتِ إلى راحة كفيّك المشققتين ، وأظافرك الناشبةِ في اللّحمِ ، وقلتِ باكية " أكلتها الأرض" .. أم ليلة ، تهدمَ بيتنا الطيني ذات شتاء ماطر ، ونجونا بأعجوبة ، أم يوم زففتِ لي خبر قبولي في بعثة خارجية لدراسةِ الطب ، وعندما غبتُ طويلا ، طلبت عودتي ، ولم أعدْ إلا ومعي شهادتي ، فاحتفلتِ على طريقتك الخاصة ، أم يوم خبأتِ مجلة النافذة التي عملت فيها ، تحت الوسادة إلى حين عودة من سفر طويل ، وقلت " بلالك ها الشغلة فيها وجع رأس " ، ثم تباهيتِ بها أمام النسوة بعد حين .
أمِّي، آخر شيء تعلمته منك الاستعداد لخسارة ما كسبت بما فيه الحياة والحزن والفرح ، وقبله تعلمت الكثير ، حتى أول شيء – لفظة أمي ..
كنت بفضلك أسقي عمري من عمري ، واجتهد ليكون وردا ، عندما خسرتك ،تعلمت أن أذهب بقدمي إلى الحب وإلى نقيضه ، ولا أزال بينهما أتخيرُ مَن أكون، وكلما جاء العيدُ أصغر ، وأمنحُه من عمري وردةً وذكرى
أمّي ، لا أزال كما تركتني آخر مرة ، أبيع الزمن ، و الأمكنة ببراعة
فأنتِ لست عيدا وحسب ، بل جعلت من العيد أنثى ، تقطفُ الفرحَ لأبنائِها من أجلِ أن يفرحوا بأن لهم أماًّ ، تمدُّ يدَها لتمطرَ عليهم حبّاً