عدتُ من الرياض، بعد المشاركة في ندوة "منهج الأدب الإسلامي في أدب الأطفال"، لأجد في انتظاري دعوة من تونس الخضراء للمشاركة في مهرجان "خيمة علي بن غذاهم الشعري" الذي يُعقد في منطقة جدليان التابعة لولاية القصرين، في الأسبوع الأخير من شهر مارس / آذار، سنويًا، منذ أحد عشر عامًا، وكان لي شرف المشاركة في دورته التاسعة عام 2004 مع الشاعر جابر بسيوني، والشاعرة سناء الجبالي، من الإسكندرية. على الفور اتصلت بالصديق الشاعر التونسي عبد الكريم الخالقي، مؤسس المهرجان، وأخبرته بالموافقة على حضور فعاليات الخيمة في دورتها الجديدة.
وبدأت أعد عدة السفر إلى تونس الخضراء، وبدأت تتقافز إلى ذهني أيام جدليان التونسية 2004.
اتصلت بالمرشحين معي للمشاركة من شعراء مصر، للتنسيق معهم، والحصول على تأشيرة الدخول، من السفارة التونسية بالقاهرة، التي فوجئت بارتفاع رسومها من 40 (أربعين) جنيها مصريا في عام 2004، إلى 200 (مائتي) جنيه مصري في عام 2006، بما يمثل خمسة أضعاف، وهو أمر غير قابل للنقاش بطبيعة الحال، فدفع كل واحد منا رسم التأشيرة صاغرا. وبدأنا نتصل بخطوط الطيران، لنختار منها ما يناسب مواعيدنا وظروف عملنا، فلم نجد مكانا على شركة مصر للطيران، ولكن وجدنا أماكن على الخطوط التونسية، فحجزنا ثلاث تذاكر، واتصلت بعبد الكريم، وأخبرته بميعاد وصولي مع الشاعرتين سناء الجبالي وهالة فهمي، إلى مطار قرطاج الدولي، ليكون في انتظارنا.
تأخرت الطائرة التونسية ساعة عن موعد إقلاعها، وعندما أقلعتْ بدأتُ أتصفح المجلة التي توزع على راكبي الطائرة، وجذبني العدد لأنه يتحدث عن استعدادات تونس لمؤتمر قمة المعلومات، ولكن اكتشفت أنه عدد شهري نوفمبر وديسمبر 2005، ونحن في مارس 2006، فسألت المضيفة الحسناء عن العدد الجديد من المجلة، الذي بالتأكيد سيتحدث عن وقائع المؤتمر، فأجابت أن هذا هو العدد الأخير.
قارنت بين هذه المجلة، ومجلة "أهلا وسهلا" ـ منتظمة الصدور ـ التي توزعها الخطوط الجوية العربية السعودية (التي كانت تحتفل بمرور ستين عاما على إنشائها، وقت سفري إلى الرياض)، ومجلة "حورس" التي توزعها شركة مصر للطيران.
هبطنا في مطار قرطاج الدولي بعد ثلاث ساعات من الطيران فوق مصر والبحر المتوسط وجزيرة كريت، وبعد خروجنا من المطار وجدت عبد الكريم في المواجهة، وفي رفقته إحدى زميلاته، عرفت منه أنها الشاعرة والكاتبة التونسية فاطمة الشريف، التي رحبت بنا كثيرا، واتجهنا إلى سيارتها الحمراء، لنتوجه إلى الفندق الذي سنقيم به في وسط العاصمة التونسية لمدة ثلاثة أيام قبل أن نغادرها إلى ولاية القصرين، حيث تقام فعاليات الخيمة في جدليان، مسقط رأس بطل المقاومة الشعبية علي بن غذاهم الذي استشهد عام 1864.
كانت الأيام الثلاثة فرصة للتعرف أكثر على العاصمة التونسية، خاصة أننا جئنا في أيام احتفال البلاد بمرور خمسين عاما على الاستقلال، وكانت المصالح والدواوين والبنوك والمدارس وغيرها في إجازة رسمية (عدا المقاهي بعامة، ومقاهي الإنترنت التي كنت أزورها يوميا، بصفة خاصة).
كانت شوارع وسط العاصمة، وخاصة شارع الحبيب بورقيبة وشارع فرنسا وشارع باريس، والشوارع المحيطة أو المتفرعة، مزدانة بالأعلام التونسية الحمراء، ولافتات التهاني، وصور الرئيس زين العابدين بن علي، ومزدحمة بأبناء الشعب التونسي والأجانب أيضا.
بالإضافة إلى ذلك، كان المسرح البلدي المجاور للسفارة الفرنسية بشارع الحبيب بورقيبة، يقدم عروضه خارج قاعات المسرح، وداخلها أيضا.
في نهار اليوم التالي لوصولنا تجولنا في منطقة الزيتونة، وكان في صحبتنا عبد الكريم، والشاعر والتشكيلي السويسري المشارك معنا في الخيمة إيفو برفار، الذي كان دائما ما ينتحي ركنا، ويفتح كراسة يحملها في يده، ويبدأ في عمل اسكتشات، أو رسومات تخطيطية لبعض المناظر التي تلفت نظره، وخاصة عندما وصلنا إلى جامع الزيتونة من خلال نهج الزيتونة الذي يحتوي على مئات الدكاكين والمحلات ذات الطابع التراثي التونسي والمغربي، والتي تذكرنا بدكاكين ومحلات خان الخليلي التي تفضي في النهاية إلى جامع سيدنا الحسين بالقاهرة، أو زنقة الستات بالإسكندرية التي تفضي في النهاية ـ ولكن على بعد مئات الأمتار ـ إلى مسجد المرسي أبي العباس (المعروف بسلطان الإسكندرية).
في اليوم التالي ـ الأربعاء ـ بكرنا في الاستيقاظ للذهاب إلى مدينتي سوسة والقيروان، لزيارة المعالم السياحية والأثرية بهما. ولكن أصر إيفو السويسري على الذهاب إلى القيروان فقط، حتى لا يضيع الوقت بين المدينتين. فذهب وحده، وذهبتُ مع سناء وهالة إلى سوسة أولا، على أمل أن نكمل الرحلة إلى القيروان ثم يعود ثلاثتنا إلى العاصمة.
أول شيء فعلناه بعد أن وصلنا إلى سوسة، زيارة متحف سوسة، الذي يؤرخ، عن طريق الفسيفساء وبعض الفنون والأشكال الأخرى من تماثيل كبيرة وصغيرة وأوان فخارية ونحاسية، وأشكال تراثية مختلفة، إلى فترة الحكم الروماني لتونس، وللمنطقة كلها، فكان هناك تمثال صغير للإمبراطور هدريان على سبيل المثال، وحكام آخرين، فضلا عن الآلهة القديمة مثل إله البحر بوسيدون، وغيره.
بعد ذلك قمنا بزيارة المدينة العتيقة أو القديمة، وطوفنا بشوارعها الجميلة الضيقة النظيفة، ومحلاتها ودكاكينها التي تشبه محلات ودكاكين الزيتونة، حتى وصلنا إلى البحر.
هنا انكشفت لي سوسة، وقفز إلى الذاكرة قول الشاعر: (أرأيت سوسة والأصيل يلفها في حلة نسجت من الأشواق) أو كما قال.
انكشفت لي سوسة البحرية، فتذكرت الإسكندرية على الفور، وخاصة أحياءها القديمة التي تقع على البحر مباشرة مثل الأنفوشي ورأس التين والسلسلة. خاصة أن المكان الذي أطل علينا كان هو الميناء حيث ترسو السفن أو تغادر المياه.
تنفسنا هواء البحر، فنسينا أنفسنا، ونادتنا رائحة الأطعمة والأسماك، فدخلنا أحد المطاعم، وطلبنا حيتانا (أي أسماكا) فجاءت مشوية، ومعها أطباق الكسكي والسلطات التونسية. وعندما حدقنا في الساعة وجدنا أن الوقت لن يسمح بالذهاب إلى القيروان، فرجعنا إلى تونس العاصمة، وأدركنا أنه لا يجوز الجمع بين زيارة مدينتين جميلتين في يوم واحد، فكل مدينة جميلة، تحتاج إلى أكثر من يوم، وبعض المدن الأخرى لا يكفيها شهورا، لتكشف لك بعض مفاتنها، خاصة إذا كانت تونسية.
عندما عرف الصديق الشاعر محجوب العياري أنني في تونس، أصرَّ على زيارتي له، ومشاهدة ولاية نابل التي تبعد حوالي الساعة من العاصمة. فزرته في صباح الخميس بعد زيارة جماعية سريعة لمقر اتحاد الكتاب التونسيين، خلف معهد أو أكاديمية الموسيقى بشارع باريس، حيث التقطنا بعض الصور التذكارية، وحصلنا على بعض الإصدارات الجديدة من منشورات الاتحاد.
في نابل قمت بالمرور على قصر الثقافة أو "مركَّب الثقافة"، وشاهدت بعض الاستعدادات أو البروفات المسرحية، لبعض الشباب المتحمس للعمل المسرحي من الجنسين، وبعضهم كان يمسك بالفرشاة ويطلي قطعا من الأقمشة ـ على أرض الشارع ـ لزوم الديكور.
قضيتُ وقتا ممتعا في مدينة نابل المتوسطية التي آراها للمرة الأولى، والتقيت مع الناقد سهيل المغيربي ـ صديق العياري، في أحد الكازينوهات المطلة على البحر، وأخبرني العياري أنه في الصيف لا يوجد موضع لقدم في هذا المكان، وكذلك معظم الأماكن التونسية التي تطل على البحر، مثل الحمامات، وسيدي بو سعيد، وسوسة، وبنزرت، وغيرها.
عدتُ من نابل إلى العاصمة في حوالي السادسة مساء، لأجد الوفد السوري المتمثل في الشاعرين: نزار بريك هنيدي، وبديع صقور، والوفد الجزائري المتمثل في الشعراء: نوَّار العبيدي، وصالح جلاب، وسميرة بو ركبة، وجمال بن عمار، ومحمد صالح بن يعلا، قد وصلوا إلى الفندق، وعرفت أن الوفد الليبي سيتوجه مباشرة إلى جدليان، ويتكون من الشعراء: جميل حمادة (الفلسطيني المقيم في ليبيا) وهليل بيجو، وبلقاسم مزداوي، وحسن بوساحة، بالإضافة إلى أن بعض الشعراء التونسيين الذين يقطنون بعيدا عن العاصمة، سيتوجهون مباشرة أيضا إلى جدليان.
اجتمع هذا العدد من الشعراء، بالإضافة إلى هالة وسناء والخالقي، على شكل حلقة، في بهو الفندق، وكنا أكثر صخبا من غيرنا من الجالسين في صالونات (أنتريهات) البهو، الذين بدأوا ينظرون إلينا ويحاولون أن يستمعوا إلى الكلمات التي نقولها أو نرددها، ليتأكدوا أنها شعر (أم أي كلام؟)، وأن هؤلاء الصاخبين شعراء عرب يجلس بينهم شاعر أجنبي.
سمعت أحد الجالسين من الشباب يقول لزميله: إنهم شعراء. فرد عليه زميله بقوله: العرب كلهم أصبحوا شعراء. وأخذت أفكر في مغزى الرد!!
كان علينا الاستيقاظ مبكرا في صبيحة يوم الجمعة، لكي نتوجه إلى جدليان التي تقع على مبعدة ثلاث ساعات ـ بالأتوبيسات ـ جنوبي العاصمة.
انضم إلينا مجموعة من الشعراء التونسيين المقيمين في العاصمة والمدن المجاورة، وتحرك أتوبيسان في اتجاه جدليان.
مظاهر الاحتفال في جدليان غير عادية، وكأنه عرس سنوي ينتظره أهالي البلد، فهناك فرق شعبية، وأناشيد ورقصات للأطفال، ومأكولات شعبية تونسية، وهناك معرض الإعلامية، والمعرض الوثائقي الخاص بالدورات العشرة السابقة لخيمة علي بن غذاهم للشعر، ومعرض الأدوات التقليدية بجدليان، ومعرض الفنون التشكيلية، وغيرها من مظاهر الاحتفال التي دشنها والي (محافظ) القصرين السيد / حسن الآجري، ومعتمد (رئيس مدينة) جدليان السيد / منجي الجويلي، ومدير دار الثقافة السيد / عبد السلام الخالقي، وغيرهم من المسئولين.
استمرت الاحتفالية الشعرية والنقدية ثلاثة أيام: الجمعة والسبت والأحد (24 ـ 26/3)، وشارك فيها حوالي خمسين شاعرا وناقدا من: مصر وتونس والجزائر وليبيا وسوريا وسويسرا، تحت لافتة أو عنوان "الشعر التونسي والترجمة" الذي من خلاله ناقش المشاركون صدى الترجمة في الشعر التونسي مدة 50 سنة من الاستقلال، والشعر التونس والثقافة، والشعر التونسي والحوار مع الآخر.
وكان واضحا على الوجوه، ابتهاج المبدعين التونسيين بمبادرة الرئيس زين العابدين بن علي في خطابه بمناسبة أعياد الاستقلال، بشأن أجازة إبداعية للمبدعين خالصة الأجر، مدتها ستة أشهر (قابلة للتجديد) مع المحافظة على المسار المهني والترقية التي قد تستحق للمبدع أثناء حصوله على تلك الإجازة، وفق الضوابط التي ستوضع في هذا الشأن.
لم تكن أيام جدليان التونسية كلها قراءت شعرية ونقدية فحسب، ولكن كانت هناك قراءات وتأملات في الطبيعة من خلال رحلة جبلية إلى مصيف عين السلسلة بولاية القصرين، مرورا بأبرز المناطق الجبلية بمعتمدية جدليان (غابات فراغة وأم جدور) فضلا عن زيارة الموقع الأثري بسيدي علي البهلول، وسد وادي جدليان بمصاحبة فرقة الفنون الشعبية بجدليان التي أضفت جوا بديعا على الرحلة الجبلية ما بين غناء ورقص وموسيقى شعبية.
حقا إنها أيام جدليان التونسية، التي غادرناها تاركين أهلها للطبيعة الخضراء، والمناخ الصحي، والشعر الفطري، وعدنا مرة أخرى لتونس العاصمة، ليتذكر كل منا ميعاد مغادرته، وإخلاء الفندق من الشعراء، والعودة مرة أخرى إلى مطار قرطاج الدولي في صحبة عبد الكريم الخالقي، وعادل الجريدي، ومراد العمدوني، وفاطمة بن محمود، وفاطمة الشريف، وكانت دموع الفراق تعلو على أي كلمات وداع ممكن أن تقال.
لم أعد من جدليان التونسية بالذكريات الجميلة وقصائد الشعر التي لم تزل تصافح وجداني وخاطري فحسب، ولكن عدت بمجموعة من الكتب والدواوين الشعرية المطبوعة (حوالي عشرين) التي أهدانيها أصدقائي الشعراء والكتاب، أذكر منها:
ديوان "فوضى المراثي" للشاعر الجزائري صالح جلاب، 2006.
ديوان "نقطة في أول السطر" للشاعر الجزائري صالح جلاب، 1999..
ديوان "وطن يعاقر الانتظار" للشاعرة التونسية فاطمة الشريف، 2001.
"القرية المنسية" ـ قصص قصيرة ـ للشاعر الجزائري نوَّار عبيدي، 2003.
ديوان "قصائد منسية" للشاعر الجزائري نوَّار عبيدي، 2003.
"الدخان" رواية للشاعر الجزائري نوَّار عبيدي، 2003.
ديوان "كاف ونون" للشاعر التونسي علالة القنوني.
ديوان "حديث البلاد" للشاعر التونسي سالم المساهلي، 2005.
أنطولوجيا المسرح التونسي. جمع وتقديم سمير العيادي من منشورات اتحاد الكتاب التونسيين 2005.
في السردية التونسية الحديثة. تقديم عثمان بن طالب، منشورات اتحاد الكتاب التونسيين 2005.
مختارات تونسية في النقد والفكر، لعثمان بن طالب، منشورات اتحاد الكتاب التونسيين 2004.
في الشعر التونسي الحديث، تقديم أحمد الودرني، منشورات اتحاد الكتاب التونسيين 2004.
دليل الكتاب التونسيين أعضاء الاتحاد، إعداد: صلاح الدين الحمادي، منشورات اتحاد الكتاب التونسيين، 2005.
الأعمال الشعرية (1977 ـ 2001) للشاعر السوري بديع صقور، 2005.
السيرة الزرقاء ـ قصائد مختارة للشاعر السوري نزار بريك هنيدي، 2004.
ديوان "فاكهة الصلصال" للشاعر التونسي مراد العمدوني، 2006.
ديوان "أسئلة الهذيان" للشاعر الفلسطيني جميل حمادة، 2004.
ديوان "ليلى ترفع أشرعة روحي" للشاعر التونسي سمير العبدلي 2006.
ديوان "الطفل" للشاعر التونسي محجوب العياري، 2004.
ديوان "عيون أجهشت بالقول" للشاعر التونسي عادل الجريدي، 2004.