"فراشة الطين" المجموعة القصصية الأولى للكاتب عبد العاطي فليفل، صدرت مؤخرا عن ندوة الاثنين بالإسكندرية، وتمتاز بالثراء والتنوع والتمكن من لغة القص أو السرد عموما. وقد قسم فليفل مجموعته إلى أربعة أقسام تحتوي ـ في مجموعها ـ على ست وعشرين قصة قصيرة، وأعطى عنوانا لكل قسم على حدة، غير أن العنوان الذي اختاره الكاتب لمجموعته ككل، هو عنوان إحدى قصص المجموعة الأولى "فراشة الطين"، الذي يدل على المفارقة بين عالم الرفعة والسمو والعالم الأرضي، أو بين الروح والجسد، أو بين التحليق في الأجواء والثبات في المكان، وإن كان إسناد الطين للفراشة (مضاف ومضاف إليه، أو مسند ومسند إليه) يؤكد النزوع الطيني لهذه الفراشة، وانجذابها للعالم الأرضي، أكثر من نزوعها للتحليق في الأجواء، وانجذابها للنور والفضاء.
وقد جاءت الفراشة في قصة "فراشة الطين" معادلا موضوعيا لشخص القصة أو بطلها الذي يقول لعروسه في ليلة عرسهما: "لا تنزعي عنك لباس العرس، ليظل الطين خضاب يديك. أوشمي بالطين من قتلوني"، ثم يضيف قائلا: "أُطلق زفراتي، فأراني في جسم فراشة، أطوف على أفنية قبور الأموات .. أتلاشى ..أخترق صمت الزمن المسجون" .. الخ، ليتحقق بذلك ما ذهبنا إليه من قبل من أن هذه الفراشة (حتى وإن كان يقصد بها أنثى شخص القصة أو عروسه) فإنها ستظل عالقة بالطين، بل ستكون يداها ملوثتين بالطين حتى تأخذ بالثأر.
لقد عبر هذا العنوان الدال على روح قصص المجموعة ككل، التي تتراوح بين الانجذاب الطيني ومحاولة التخلص من هذا الجانب الأرضي، أو من الطين البشري، أو الفخَّار في الإنسان، وبين السمو والتحليق والطيران في عالم نوراني علوي أو رباني، ويمثل ذلك القصص التي تتخذ من الإشراقات الصوفية والفيوضات الروحية أو الربانية عالما لها، مثل قصص: البوابة، وألف باء، وحان الصفا، والطرف الأخير، وكلها تقع في القسم الثاني الذي عنونه الكاتب بـ "ولادة من رحم الأرض"، فعلى الرغم من أن ولادة الجسد تكون أرضا، إلا أن الروح من عند باريها، وفي هذا يقول التنزيل العزيز: "ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" (الإسراء: 85).
أما بقية قصص المجموعة، فتتراوح بين الواقعية، مثل قصص "احترقت أوراق العمر"، و"المطرقة والأعين الزجاجية"، و"نداء"، والفانتازيا مثل قصة "صديقي ميدو"، وقصص الجن والعفاريت والغول، مثل قصة "حواديت نسج المصاطب"، وتوظيف التراث سواء التراث الديني أو التراث الشعبي، مثل قصة "ثلاثة غابت عنهم الشمس"، وغيرها.
ثم هناك قصتان في نهاية المجموعة تأتيان عزفًا على أوتار رواية "بشرى تكتب طول الليل، وعبد الله يقرأ طول الليل" للكاتب محمد خيري حلمي، وهما القصتان: غرباء، وتسامى العطر الحزين. فقد تقمص كاتبنا عبد العاطي فليفل شخصية صديقه الكاتب محمد خيري حلمي، وراح يكتب متأثرا بأسلوبه الفانتاواقعي ـ إن صحت التسمية، أو صح الاشتقاق، أو النحت ـ قصصا عنه، مواسيا إياه في مصابه الجلل.
بالإضافة إلى قصص عن الانتفاضة الفلسطينية، والأراضي المحتلة، وأحداث البوسنة والهرسك، مثل: عصافير من حجارة، وصرخة لا تكفي، ليكتمل بذلك البعد الوطني والهم القومي في قصص المجموعة.
في قصة "حواديت نسج المصاطب" ـ وهي تعد في رأيي من أهم قصص المجموعة ـ يعالج الكاتب ـ فيما يعالجه ـ موضوع تأثير قصص الرعب على الأطفال، مثل قصة الغول.
يقول الطفل في هذه القصة: "صرخت، فاحتضنني صدر أمي .. أدس وجهي في جلبابها الأسود ليحجب عني شبح الغول المرعب".
تتخذ القصة من عالم القرية نموذجا فلكلوريا، حيث يشكل الفلكلور: "كل تعبير يتمثل في عناصر متميزة تعكس التراث الشعبي التقليدي، مثل: الحكايات، والأحاجي، والألغاز، والأِشعار الشعبية، وكل المأثورات والأغاني الشعبية، ومنتجات الفن الشعبي التشكيلي، والرقصات الشعبية، وطقوس الميلاد والوفاة، والآلات الموسيقية، والأشكال المعمارية، وغيرها".
وفي قصة "حواديت نسج المصاطب" نجد شاعر الربابة أو الحكواتي (وهو هنا الجَد) الذي يقص على الناس ـ في حالة شبه مسرحية ـ حكاوي أو حواديت يتسلون بها ويسهرون على كلماتها وأحداثها، ومن هذه الحكاوي أو الحواديت التي ينجح شاعر الربابة (أو الجَدُّ) في مسرحتها، حكاية لولية الجميلة، التي كان اسمها في الأصل بدرية، ورسم القدر جمال البدر في الجبهة، وما إلى ذلك من أوصاف تُشعل خيال المستمعين البسطاء، وهم جالسون على مصاطبهم، أو يفترشون الأرض، بعد أن يعلن الليل عن قدومه، فيحبون بدرية أو لولية من خلال حديث الشاعر عنها، ويأتي الغريب الذي يخطف الصبية، ويراه البعض غولا بشعر غزير، عندما يجري يطير التراب يملأ كفوف الجو. ولكن للأطفال فهم آخر، أو استقبال آخر للحكاية، أو الحدوتة، حيث تنمو مشاعرهم وتتصاعد سريعا باستطراد الحكي، ويتوحدون مع الحدث، وربما يحولونه ـ داخلهم ـ إلى حدث حقيقي، فيحاول طفل القصة الذي يتحدث بضمير المتكلم، أن يحمي لولية، أو أن يقدم شيئا عمليا، فالرجال فقط يستمعون إلى قصص جده، ولكنه وحده الذي يحاول أن يفعل شيئا ما تجاه لولية الجميلة، فينمو خياله وينشط ويحادث بطلة الحكاية الشعبية.
يقول طفل القصة: "تخامرني الأحلام في صحوي وفي نومي .. تسرب اليأس حتى كاد يقتلني .. أراها افترسها الغول وحيدةً .. أو ربما أخفاها أعلى شجرة كثيفة عتماء .. آه .. أناديها بضعف صوتي .. أسمعها!!! نعم أسمعها !! تناديني:
ـ لا تخف يا صغيري.
ـ عودي إليَّ بسرعة.
ـ سأعود من أجلك أنت.
ـ الآن.
ـ لا أستطيع.
ـ لماذا؟
ـ لقد سجنني الغول .. ولم يخلصني أحد!!
تسألني أمي:
ـ هل جننت يا ولد تكلم نفسك؟
أطمئنها .. الآن لا ألعب مع الأصحاب .. كيف؟ والغول قد ظفر بها".
جاءت القصة بضمير المتكلم، وهو الطفل الصغير، ولكنها مع ذلك لا تصلح ـ على هذه الشاكلة ـ لأن تكون قصة مكتوبة للأطفال، ولا يقصد الكاتب ذلك، وإلا لما وضعها ضمن هذه المجموعة القصصية. وهذا يدل على وعي الكاتب ومعرفته للحدود الفاصلة بين عالم الكتابة للأطفال، وعالم الكتابة عن الأطفال، أو الكتابة لنفسه أو للكبار.
ويلاحظ اهتمام الكاتب برصد التفاصيل الصغيرة التي ربما يغفل عنها غيره، ومن ذلك قوله: "رفع جدي كوب الشاي الثالث من فوق شفتيه .. احتوت شفتاه (مبسم الشيشة) ثم جذب نفسا عميقا فتحول برطمان ماء الشيشة إلى سحابة كثيفة دوارة .. كماردٍ يريد أن ينطلق من قمقم محكم .. طرد الدخان من فيه .. فتراقص .. يعبث بالرؤوس الكروية ليسد فراغها".
هذا المقطع، أو هذا الوصف الفني، إن دلَّ على رصد للتفاصيل، والتقاطٍ للمنمنمات، فإنه من ناحية أخرى يثبت عدم مناسبة القصة للأطفال، كما ذهبنا من قبل. ومن ناحية ثالثة يكشف عن استخدام الكاتب للقناع كحيلة فنية، يتخفَّى وراءها. والقناع هنا هو الطفل الذي جعل القصة تدور على لسانه.
القصة بها مقاطع طويلة، ومتعددة من الشعر المحكي، ولو قمنا بقراءة هذه المقاطع ـ التي تجئ على لسان الجد ـ قراءة متصلة، وأهملنا وقفات الطفل وتعليقاته ورصده وحواره مع أمه، لكنا أمام ملحمة شعبية، مثل ملاحم: عنترة، وأبو زيد الهلالي، وأدهم الشرقاوي، والأميرة ذات الهمة، وغيرها، ولكنها ملحمة قصيرة، أو ملامح من ملحمة شعبية، هي ملحمة "لولية". فهل كان الكاتب ينوي تأليف ملحمة شعرية شعبية جديدة، أم أنه يقلد ملحمة شعبية أخرى، ثم عدل عن ذلك، واستفاد مما كتبه ووظفه في قصته القصيرة "حواديت نسج المصاطب"، وأطلق عليها حواديت بدلا من ملحمة؟
يقول الكاتب على لسان الجد الحكواتي أو شاعر الربابة:
"أهل البلد ما كانوا يوم أشرار .. حُضن الغني كان للفقير دوَّار .. الكل إخوة ما نعرف طاغي أو مظلوم .. ولا حد قافل بيبانه خشية الأسرار .. وجالنا واحد ما نعرف أصله ولا فصله .. احتل شط النهر .. وبناله دار عالية .. زي الهرم واكبر .. وسد أبواب البناية حتى شبابيكها .. من يوم ما جاه عندنا ما دقنا طعم النوم .." إلخ.
إن الرمز الذي ورد في هذا المقطع (الذي جاء من تفعيلات بحر الرجز المعروف ببحر الزجل في الشعر الشعبي) من الحكاية أو الملحمة الشعبية ـ إن اتفقنا على ذلك ـ لهو رمز تاريخي شفاف للغاية. إنه رمز لليهود المحتلين الذين يعيشون في تجمعات مغلقة أو (جيتوهات) أو وراء أسوار وجدران، كما كان يحدث مثلا في حارة اليهود بالإسكندرية، أو القاهرة، أو المدن الأوربية على سبيل المثال، وكما يحدث الآن في فلسطين في شأن بناء الجدار الفاصل.
ولا يخلو أمر الملحمة من جماليات شعرية مثل قول الكاتب: (حضن الغني كان للفقير دوَّار) فقد شبه الكاتب، حضن الغني في اتساعه وقدرته على احتواء الناس بدوّار العمدة أو دوَّار الأغنياء في القرية، وهو نوع من أنواع التشبيه المنتزع من واقع البيئة التي تتحدث عنها الملحمة الشعبية.
وإذا كانت الملاحم السابقة محددة بزمن معين، أو مرتبطة بزمن محدد، هو زمان وقوعها في عصر من العصور، أو قرن من القرون، فإن ملحمة "لولية" ليست محددة بزمان معين، لأنها مرتبطة بكل الأزمنة التي يتصارع فيها الغول رمز الشر والغواية، بلولية رمز الصبا والحب الجمال والعطف على الصغار. وهنا يخرج الرمز عن كونه رمزا لليهود، ليصبح رمزا إنسانيا عاما.
غير أن عدم تحديد ملامح الزمن الذي تدور فيه القصة، يعد ملمحا بارزا من ملامح أغلب قصص المجموعة، مثل: فراشة الطين، وأطفال القمر، والبوابة، وثلاثة غابت عنهم الشمس، ووجوه على حائط كهف، ورقص البنفسج، والفراشة والزهر المقطوع، وغيرها.
أما المكان، فإن معظم قصص المجموعة، تدور في الريف أو القرية عموما، حيث مرتع الكاتب في طفولته وشبابه (فهو من مواليد البندارية ـ مركز تلا بمحافظة المنوفية) وقلة من القصص تدور في الإسكندرية، منها: قليلا ما يغضب البحر، والفراشة والزهر المقطوع، وغرباء، حيث يقطن الكاتب حاليا، الأمر الذي يفسر احتفال الكاتب بالطفولة وعالمها في القرية، كما رأينا في قصة "حواديت نسج المصاطب"، ونراه أيضا في قصص مثل: أطفال القمر، وعصافير من حجارة، ودلال أم العيال، وغيرها.
ولعل قصة "دلال أم العيال" تأتي أكثر مناسبة من غيرها لعالم الطفولة البريء، من حيث التساؤلات البريئة أو الساذجة أحيانا التي تريد أن تفهم أو تفسر واقعا حولها دون القدرة على التغلغل إلى ما وراء هذا الواقع، فالطفل يرى أمه تتعامل بطريقة خاصة مع دلال، إنها تكرمها وتحتفي بها أكثر من أي امرأة أخرى تزور بيتهم، عن طريق منحها ما لذَّ وطاب من طعام وشراب، والتهلل والابتسام في وجهها، وكذلك كل أمهات القرية تقريبا. ويشغل هذا الأمر شخص القصة، الطفل الذي تجئ القصة على لسانه (عن طريق استخدام ضمير المتكلم) فيسأل أقرانه، ويعرف أن كل الأمهات يفعلن مع دلال، ما تفعله أمه، فيقرر مواجهة أمه (لابد أن أسأل أمي وأواجهها) ويستغلق عليه الأمر أكثر عندما تجيب أمه بأن دلال هي أمه: (الست دلال هي في الحقيقة أمك). ويكاد يغمى عليه ويتساءل: (كيف؟ ومن تكونين أنت إذن؟).
وودت لو انتهت القصة عند هذا السؤال الذي سيشعل خيال القارئ ويشوقه لمعرفة الأمر، أو إدراك الحقيقة، التي بإعادة قراءة القصة مرة أخرى، سيصل إليها، أو يكتشفها، فمن المستحيل أن تكون امرأة ما زوجة لكل رجال القرية، وأما لكل أطفال القرية، ويعاملنها نساء القرية بهذه الحفاوة والترحاب ويخطبن ودها، إلا إذا كانت هي الداية التي تعلم خباياهن وأسرارهن الجنسية، وقصص حملهن، ومواعيده، وغير ذلك من وظائف تجعل الداية في منزلة أعلى بالنسبة لنساء القرى المصرية، وربما حتى الآن بعد انتشار الوحدات الصحية وعيادات الأطباء والطبيبات في الكثير من القرى والريف، ولكن أفسد الكاتب متعة الاكتشاف عندما صرح على لسان الأم قائلا: (يا ولدي ليس الأمر كما فهمت .. إنما هي التي استقبلتك على يديها لحظة ميلادك وأول عين تراك).
والقصة بهذه النهاية أو القفلة قد تصلح للأطفال أكثر من الكبار، فلغتها سهلة، وألفاظها واضحة، ولا تعتمد على الرمز أو القناع (كما رأينا في "حواديت نسج المصاطب") أيضا التسلسل المنطقي للأحداث، وعدم خوض مغامرة فنية أو لغوية من نوع ما، فضلا عن الخاتمة، يرشح هذه القصة لأن تكون للأطفال (وليس عنهم فحسب). ولكن إذا حُذفت الجملة الأخيرة التي أشرنا إليها فربما يسهم هذا في توجيه القصة وجهة أخرى.
***
في قصة "أطفال القمر" نلاحظ ارتداد الكاتب لعالم الطفولة بالقرية، حيث يفقأ الأطفال مصابيح الكهرباء المغروسة حديثا، ويتركون أعمدتها كجذوع نخل قُطع سعفه (ونلاحظ أن التشبيه، يأتي مرة أخرى من واقع البيئة القروية) ويفوز من يطفأ المصباح بعود قصب، ومن بعيد يراقبهم الراوي الذي يتميز غيظا جراء فعلتهم، وخاصة بعد أن سمع من يشجعهم على ذلك قائلا: "اكسروها ما النور الاصطناعي بيضر العين .. ما هي أصل الحكومة بتكره القمر !!" وفي هذا نقد غير مباشر للحكومة التي تريد الناس أن يعيشوا في ظلام مستمر، رغم أنها تحاول مساعدتهم بإدخال الكهرباء في قراهم، إلا أن هناك أيدٍ عابثة تتسلل لتحطيم ما تنجزه الحكومة كنوع من أنواع التنفيس، أو إخراج الكبت، أو الاعتراض غير المباشر على قرارات وأوضاع حكومية أخرى، مثلما نجد على سبيل المثال من يمزق مقاعد الأتوبيسات، أو مقاعد دور السينما، ويسرق منها الأسفنج، في المدن الكبرى.
يرتد شخص القصة إلى طفولته، أو يعود إلى طور صباه، متذكرا مشاعل الزيت التي يقوم الأب بتجهيزها، فتغسل المشاعل ظلمة الوجوه. وما بين المشاعل ودخول الكهرباء عمر عاشه شخص القصة الذي لم يحدد الكاتب اسمه (وكذا في كثير من قصص المجموعة) الذي يفيق من استحضار صباه، وتذكر عوالم جده الذي يعلمهم كيف ينادون على القمر بقولهم:
ياللا يا بنات الحور
رجعوا القمر للنور
إنه يفيق على صوت أمه التي تخبره أن الكهربائي جاء ليعلق مصابيح الزينة على دارهم استعدادا للزفاف.
هكذا تلعب عوالم الطفولة والارتداد للوراء، دورا مهما في الكشف عن الكثير من ملامح القرية، وملامح الزمن، وملامح العصر وتحولاته، من خلال القصة القصيرة.
***
وإذا كانت قصة "دلال أم العيال" يفوح منها الجنس بطريقة غير مباشرة، أو هو الخلفية التحتية التي تعمل من وراء الأحداث، نتيجة احتفاء نساء القرية بهذه المرأة المستشارة في شئون الجنس والولادة، فإن قصة "المطرقة والأعين الزجاجية" تعتمد على هذا الصراع بين الفضيلة والرذيلة، ومحاولة استعصام المرأة المسكينة من بعض الذئاب البشرية بعد أن شُلَّ زوجها، وأصبح غير قادر على العمل، وقام الكاتب بالاستعانة ببعض العبارات الجنسية غير الفاحشة التي تدل على هذا الصراع، فيقدم عبارات بها من الحركة والثورة والمقاومة أكثر مما بها من كلمات الفحش والرغبة والإثارة، فيقول على سبيل المثال على لسان المرأة التي تحاول أن تقاوم مقاول الأنفار الذي كان يعمل زوجها عنده: "يهزم شبقه خط دفاعاتي، تمتد يداه تحاصرني، تتحسسني، يتماوج جسدي مثل تعاريج النيل الممتد. نحو الباب أزحزح جسدي، يدفعني بصر الزوج وآهات أطفالي المكتومة، أهرب .. أسقط في عين إحدى الجارات، أفرغ همي".
***
لم يعتمد الكاتب كثيرا على الأساليب والحيل الفنية المتطورة مثل تيار الوعي، واللعب بالضمائر، والقطع والمونتاج، واختلاط الأزمنة، أو تشظيها، وما إلى ذلك، بل جاءت معظم قصصه في قوالب سردية محكمة، لا مجال فيها للمغامرة سواء اللغوية أو الفنية. وقد اعتمد على ضمير المتكلم في ست عشرة قصة، وعلى ضمير الغائب في ست قصص، وعلى الضميرين معا في أربع قصص، ولعل اعتماد الكاتب على ضمير المتكلم في أكثر من نصف قصص المجموعة قد منح سرده دفئا وحميمية، فجاء أقرب إلى البوح الوجداني الحميم، وخاصة عندما يرتد إلى عالم الطفولة، وعندما يستعيد الزمان في قريته البندارية.
ولا أريد أن أكرر هنا ما ذكره الناقد عبد الله هاشم في دراسته القصيرة الملحقة بنهاية المجموعة، وكانت بعنوان "فراشة الطين وشاعرية اللغة"، التي وضع فيها يده على بعض جماليات القصة القصيرة عند الكاتب، وخاصة جماليات اللغة وشاعريتها، وهي خصائص تتمتع بها بعض قصص المجموعة، وليس كلها بطبيعة الحال.
***
ولكني أريد في النهاية أن أتوقف عند إحدى قصص القسم الثاني "ولادة من رحم الأرض"، وهي "ألف باء" التي تعد أصغر قصص المجموعة، ونظرا لقصرها سأنقلها هنا بالكامل:
"بكاؤه قيثارة. ضحكاته عبير وحياة. أعشق الجلوس أمام عينيه، وهما يحملان إلى الواقع أحلام الغيب. كنت أخشى إذا عقلٌ ضُرب بيني وبينه بسور ليس له باب. ما أجمل الاستمتاع بعينين بلا عقل، وحديث بلا حروف".
ونتساءل هل هذا النص الذي يتكون من خمس وثلاثين كلمة فقط، يعد قصة قصيرة، أم أقصوصة، أم خاطرة، أم نفحة صوفية؟ خاصة أنه يقع في القسم الذي يمثل القصص التي تتخذ من الإشراقات الصوفية والفيوضات الروحية عالما لها، كما قلنا من قبل.
بطبيعة الحال مقومات القصة القصيرة التقليدية، نفتقدها في هذا النص.
إذن فلنتعامل معه بمنطقه الخاص الذي يجمع بين الشعر والنثر، لنقول إنه حالة من حالات الوجد التي أحيانا ما تهب على العاشق الصوفي، وتمنحه بعض الإشراقات التي يصعب وصفها بالحروف، وبعض الرؤى التي تغافل العقل، فتنطلق إلى ما بعد الإدراك العقلي القاصر، وتسبح في أحلام المغيب.
وهو بعامة نص تجريبي يأتي منسجما مع نصوص القسم الثاني من المجموعة، ويشهد في الوقت نفسه على قدرة الكاتب على خوض عالم التجريب، وإن لم يكثر في ذلك، وجميل أنه لم يكثر من هذا النوع من النصوص، لأنه في النهاية كاتب مرتبط بقضايا أمته، وقضايا شعبه، ومشدود إلى طين أرضه، وشواطئ بلاده، حتى وإن حلق في بعض قصصه في عالم الصوفية النوراني، ولكنه تحليق من يقف على أرض ثابتة، فتتطاول قامته في محاولة للمس السماء بيديه، وحصد النجوم، ليهديها إلى ذلك الوطن المتغلغل في أعماقه أبدا.