(( تعد السينما وسيلة قوية للمساعدة في نشر الوعي والاهتمام بمشكلة الجوع بصورة اكبر، وهي القضية التي يتجاهلها الكثيرون في العالم الغربي ويفهمها البعض بشكل محدود , حيث يهتم اغلب الاشخاص بالمحيط الذي يعيشون فيه..  الجوع هو الادارة السيئة، الجوع هو الاحتياج، الجوع هو الفقر، الجوع هو عدد من المشكلات.. انه ثمرة نظام ما، فحينما يكون لديك نظام لا يساعد على اثراء حياة اشخاص يُساء استغلال موارد بلادهم، فإن هذا يؤدي بدوره إلى الجوع، واعتقد ان هذا هو الوضع في كثير من المناطق في افريقيا، وبقاع أخرى من العالم.
لذا فإن استطعنا من خلال فيلم ان نضع تلك الصورة وهذه المعلومات امام قطاع كبير من الجمهور الذي لا علم له بها، فإننا نأمل بذلك ان نكون قد أسدينا اليهم صنيعا)) !

هكذا تحدث المخرج الأمريكى اٍدوارد زويك عن فيلمه " الماسة الدامية " الذى قام  بإخراجه وإنتاجه أيضاً ، وهو مخرج متمرس متعدد المواهب من مواليد العام 1952، تخرج من جامعة هارفارد ومن ثم معهد السينما, بدأ مسيرته كصحفي ومخرج وتلفزيوني ثم مخرجا سينمائيا ومنتجا.. من أشهر أفلامه، المجد - أساطير السقوط - شجاعة في مواجهة النار – الحصار – والساموراي الأخير للممثل الأخير توم كروز.

فيلم " الماسة الدامية " العرض السينمائي الجميل الذى شاهدته مؤخرا   لم يكن سوي لقطات واقعية طبيعية من الحياة .. دراما تشعبت أبعادها وظهر فيها وبشكل طاغ البعد الإجتماعي والإنسانى اضافةً إلى الأبعاد الفكرية والسياسية .. حتى أنك لا تستطيع أن تفصل نفسك عن تلك الأحداث واسقاطاتها التى تمسك مباشرة  وتلمس بعمق معناها الأجواء الإجتماعية والفكرية من حولك شئت أم أبيت .


عندما يفقد الوطن ..انسانه!
" الماسة الدامية " تلك البدايات الأسرية الناعمة الدافئة لأسرة " سولومون فاندى " الصياد الفقيرالتى تعيش فى سيراليون فى التسعينات وهى الفترة التى كانت فيها المعونات الغذائية المقدمة من برنامج الأغذية العالمى بمثابة طوق نجاة لآلاف المدنيين الذين وجدوا أنفسهم وسط النيران..
.. الأب المحب لأسرته والعاشق لدفئها  والذى يحاصرك طوال الوقت بمشاعره الأبوية الدافئة القوية تلك .. يعمل فى صيد السمك ويري فى ابنه " ديا " كل حياته .. طفل نجيب مؤهل للتعلم والتفوق حتى أن الأب الفقير يحلم بأن يراه طبيبا ً .
.. وتمضى الأحداث هادئة حتى تقوم الحرب الأهلية التى استمرت لعقد من الزمان، والتى قام متمردو الجبهة الثورية الموحدة خلالها ببتر أطراف الأهالي، واغتصاب النساء، وقتل عشرات الآلاف من الأشخاص أثناء قيامهم بعملية تدعى " الموت للجميع".
يستولى المتمردون على القرية وفجأة تتقطع أوصال الأسرة .. يتم اقتياد الأب ليعمل فى البحث عن قطع الماس  الطميي الخام الذي لم يتم تقطيعه والمغمورة فى الطين والأوحال .. يمسكها بين يديه ولا يستطيع  مجرد التفكير فى الإحتفاظ بأى منها وإلا فطلقه مميته من مسدس زعيم المافيا التى تقوم على بيع الأماس للمهربين مقابل السلاح ترقبه وتنتظره فى التو والحال .

وتنتقل أسرته للعيش بأحد مخيمات اللاجئين  التى انتشرت  على طول الحدود الليبيرية وفى جنوب غينيا
, بينما يتم اختطاف " ديا " مع الأطفال، بين التاسعة و19 عاما، على أيدى المتمردين .
وقد أرغم الكثير على العودة إلى قراهم لقتل أو لتشويه أقاربهم الباقين.  . لتجد نفسك أمام أكثر ظواهر الحرب تلك بشاعة وهى استخدام الأطفال الجنود .
ويتم بشكل مؤثر وصادم للنفس عملية تجنيد الأطفال في الجيوش وتحويلهم اٍلى وحوش وقتلة لا يعرفون سوي الضغط على الزناد أو الطعن بسكين حتى أن أحدهم يسمى نفسه " جثة " والآخر " سيد الكوارث " .. وهكذا !
...سيصاب جسدك بالقشعريرة عندما  يتعرّض الفيلم بشكل مفصل لعملية تحويل الطفل الى قاتل صغير وهي تتم عبر مراحل مدروسة ويقوم بها مدربين اكتسبوا خبرة في ذلك المجال, من خلال برنامج معنوي وجسدي يجعل المشاهد يندهش للااٍنسانية التي يمكن أن يصل اٍليها الاٍنسان.
و المشكلة الانسانية الحقيقية الأخرى هى  أن اٍعادة أولئك الأطفال الى حياتهم الطبيعية، يحتاج الى كثير من الوقت , و الجهد والبرامج عالية التأهيل .. وربما تتضح الصورة أكثر إذا عرفنا أن  أن هنالك أكثر من 200 ألف طفل في أفريقيا يحملون السلاح تتراوح أعمارهم من السابعة وحتى السابعة عشر!
وتعتبر مشكلة الجنود الأطفال الذين يخطفون بواسطة الحركات المسلحة، أو بفقدانهم لأسرهم في الحروب  مشكلة حقيقية عان منها السودان في حنوبه ولا زال يعاني منها في أجزاء أخري.
على جانب آخر يظهر " آرتشر " الذىيقوم الممثل "ليوناردو دي كابريو"بدوره ,  وهومرتزق أبيض  ينتمي لجيش من المرتزقة ويقوم هذا الجيش بمحاربة حركات التحرر المسلحة في بعض دول أفريقيا بدعوة محاربة الاٍرهاب, هذه المجموعة من المرتزقة تقوم بأدوار مزدوجة، فهي من جانب تقوم بدعم المتمردين بالسلاح من أجل الحصول على الماس وتهريبه اٍلى أوربا، من الجانب الآخر تتعاون مع حكومة سيراليون لقمع هذه التنظيمات المسلحة. يتم كل ذلك بدعم الشركات الضخمة وبعض الحكومات الأوربية التي تغض الطرف عما يدور هنالك، يلتقى المرتزق مع صحفية شابة طموحة ذات مبادئ " الممثلة جينيفر كونيللي' , تسعى لكشف دور الشركات الرأسمالية فى تأجيجها الحرب في سيراليون من أجل الحصول على الماس. كما يلتقي أيضا - المرتزق والصحفية - مع صائد السمك الفقير الذي  يحاول البحث عن ابنه الذى اختطفه المتمردين .. وانقاذه .
يتوحد الجميع ثلاثتهم ولكل منهم هدف يساعده للوصول إليه الآخر الصياد يريد الوصول إلى ابنه وانقاذه من المتردين بمساعدة المرتزق والصحفية , والمرتزق يريد الوصول إلى الماسة الوردية النادرة التى حصل عليها الصياد واستطاع أن يخفيها ويدسها فى خرقة قماش ويدسها فى حفرة بجوار النهر فى مكان ناء , والصحفية  التى شاركت من قبل فى كشف عورات الحروب اللانسانية فى البوسنة وافغانستان تريد ممارسة دورها نفسه فى هذه الحرب فى افريقيا هذه المرة ويمثل لها الصياد والمرتزق مصادر جيدة فى الوصول إلى ذلك واتمام مهمتها الصحفية .. وحول هذا تدور أحداث الفيلم .. حتى تحين لحظة نهايته المؤثرة بموت المرتزق برصاص أحد قناصة المرتزقة بعد انقاذ الصياد وابنه  والماسة الوردية أيضاً من المتمردين والمرتزقة على السواء ,  ونجاح الصحفية فى انقاذ الصياد وجمع شمل أسرته ,
وفضح تلك المأساة الإنسانية التى يتعرض لها الصياد وأمثاله بسبب " تجارة الماس " والفساد الذى يمارس بصددها .
هذا وتعد بعض الصور المستخدمة في المشاهد الدعائية للفيلم، جزءا من حملة مشتركة بين برنامج الاغذية العالمي وشركة بنيتون تم اطلاقها في عام 2003 تحت اسم «الجوع»، عرض بها صورا مؤثرة لضحايا الحروب، من بينهم مقاتلون سابقون واشخاص بترت اطرافهم بالفعل .

رسائل الماسة السينمائية
 إذاً الماسة الدامية .. تلك الحبات المرصعة فى عقد ثمين أو خاتم أنيق ليست فى حقيقتها هكذا ولم تصل إلى العنق الجميل أو تزين المعصم الناعم إلا على أشلاء أجساد لبشر لم تكن تعنى لهم سوي كسرة خبز وبعض الفاكهة , وحضن أسري دافئ !

ماستهم الدامية هى نفسها ماستنا الدامية أيضا " الثروات المختزنة فى باطن الأرض " والتى يتم الإقتتال والصراع بشأنها بين القوى الخارجية والداخلية .. فشعوب الماس هى نفسها شعوب البترول وشعوب الذهب وشعوب الغاز واليورانيوم  وشعوب القمح والقطن و... و..

ستكتشف أيضا من خلال الماسة الدامية أن الحياة من حولنا تعج بألوان شتى من الماس لا تخطر على بال ..

 فـ " الدفء الأسري "  .. ماسة
" الأمان المجتمعى "  ..ماسة
 " مشاعر الأبوة والأمومة " .. ماسة
 " الحلم بمستقبل باهر وسعيد لولدك " .. ماسة
" الحفاظ على الطفولة والبراءة " .. ماسة  
 " المشاعر الإنسانية " ..  ماسة
 " الحرية والكرامة " ..ماسة
" المقدسات والحضارات وآثارها " ..ماسة  
"الوطن "  .. ماسة
.." الحياة كلها " ماسة أيضا .. وستجد نفسك حيال تلك الأنواع كلها وغيرها من الماس تتصرف تماما كما تتصرف حيال ماسة ثمينة تمتلكها بداية من السعى الذى بذلته للحصول عليها  , وحتى الفوز بها والحصول عليها ثم المحافظة عليها والدفاع عنها .. وهكذا نحن جميعا نمضى فى هذه الحياة نجمع " الماس " الذى يعنينا ويهمنا ويخصنا .. والتفريط فى أى من هذه الأنواع لا يدفع ثمنه شخص بعينه وإنما مجتمع بأسره وربما دول وكيانات عظمى.


دور سلبي مخرب تلعبه بعض الحكومات ذات التأثير في السياسة العالمية ..شركات عابرة للقارات تقوم  بتشكيل وتوجيه الأحداث في القارة الأفريقية وفقا لمصالحها واهتماماتها ..تجنيد الأطفال فى الحركات المسلحة " الأطفال الجنود " .. تحول الحركات المسلحة فى أفريقيا  إلى عصابات للنهب والسلب والقتل وتفكيك مجتمعاتها وتفتيت أوطانها تحت شعارات وطنية .. معسكرات اللاجئين الخيار الوحيد والعذاب الذى لا مفر منه حيث تتوطن الأمراض النفسية والأخلاقية وتفقد الأوطان إنسانها . . نهب منظم تنتهجه بعض الحكومات في أفريقيا لنهب موارد بلدانها واستيرادها لأسلحة الدمار لقمع شعوبها .. الدور المهم والإيجابي الذى من الممكن أن تؤديه صحافة الإستقصاء فى كشف الحقائق وفضح المسئولين عن الفساد ومعاقبتهم , وتعرية حقيقة المآسي  الإنسانية أمام الرأى العام المحلى والعالمى .. هذه كلها وغيرها قضايا ولقطات " الماسة الدامية " ..
الماسة الدامية  فيلم يغادرك بعد أن تشاهده وقد ازدحم ذهنك بتساؤلات مشروعة منهمرة بلا توقف مثل كيف يحدث كل هذا ولماذا وما الحل .. وسيتسلل إليك احساس صادق مؤلم بأن كل من يجلس فى مقاعد المتفرجين على ضياع "ألماسنا "  مدان !

نسيت أن أذكركم أيضاً والشئ بالشئ يذكر .. أن " المسجد الأقصي " هو أيضأً ماسة ..وهو أيضاً .. دامية !!
ماسنا الدامى كثير ولكنه لا يجد واحداً مثل " اٍدوارد زويك" المخرج الذى يؤمن بأنه من خلال السينما يستطيع أن يشكل وعى الجمهور نحو" قضية"  فيوضح صورتها الحقيقية ويعرض المعلومات الخفية حولها  , فيرتاح ضميره لأنه حاول أن يسدى لها صنيعاً !

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية