صحيح أن التلفزة الكندية CBC لا يُلتقط بثها في الكويت بأي شكل من الأشكال والحيل، لكن خدمات مثل Youtube.com و Google Video صارت توفر الكثير والوفير من ملفات الفيديو التي يسجلها الهواة والمتطوعون ويبثونها على الموقع. ولا عجب إذا اختير موقع Youtube كأفضل اختراع للعام 2006 من قبل مجلة "تايم".
أما ما أتابعه منذ فترة على هذه المواقع، فهو تسجيل حلقات المسلسل الفكاهي الكندي The Little Mosque on the Prairie أو "المسجد الصغير في المَرْج" وهو مسلسل فكاهي يبث موسمه الثاني الآن، صاحبة فكرته هي "زرقاء نوّاز"، وهي مسلمة كندية من أصل باكستاني. المسلسل يحوى حوارات على قدر عالٍ من الذكاء والفكاهية معا في آن. وهو يحكي عن مسلمين يعيشون في مدينة كندية صغيرة تدعى "ميرسي" أي الرحمة، ولديهم مسجد صغير يجتمعون فيه، وهنا تبدأ الملهاة. سر الخلطة هو الواقعية، فهناك جناح تقليدي، وجناح مخالف له بين المسلمين أنفسهم، وبالإضافة إلى غير المسلمين.
على الجبهة المسلمة، هناك عائلة "حمّودي": الأب ياسر حمّودي اللبناني الأصل المهووس بعمله وغير القلق على الأخلاق كثيرا، وزوجته الكندية سارة التي اعتنقت الإسلام دون اقتناع تام ولا تبدو مسرورة بجميع تعاليمه رغم أنها تحرص على صلاة الجمعة في المسجد، أما ابنتهما الطبيبة "ريّان" فعلى العكس منهما، متدينة ومتحجبة ومتحدثة مفوّهة لا يشق لها غبار. وهناك أيضا "فاطمة" إفريقية الأصل والتي تدير مقهى وهي تتفق مع "بابر" الباكستاني الأصل -وهو الإمام السابق للمسجد- في أن المجتمع الأبيض شرير. أمّا عمّار، فهو الإمام الجديد للمسجد القادم من حاضرة "تورونتو" والذي ترك عمله كمحام ليعمل إماما للمسجد الصغير أعلى المرج. عمّار غير ملتحٍ، وأفكاره الانفتاحية قد لا تعجب البعض لكنه ينجح في حل كثير من المشاكل التي تنهال عليه. وهناك أيضا المراهقة ليلى ابنة "بابر" وهي تمثل الجيل الجديد من المسلمين المولودين في كندا والذي يصعب عليهم التوفيق بين إملاءات الأهل ومغريات الحياة.
من غير المسلمين، هناك "فريد توبر" المذيع الشرير المترصد للمسلمين عبر برنامج الإذاعي الصباحي Wakeup People أو "استيقظوا أيها الناس" والذي يكرسه للتخويف والتهويل من أي شيء يصدر عن المسلمين. وهناك القسيس "ماغيه" الذي أجّر قاعة من أبرشيته للمسلمين ليحولوها إلى مسجد ويبدو متعاطفا معهم جدا حتى أنه يعترف أنه لا يملك أن يملأ صفين في كنيسته يوم الأحد في حين تتقاطر الجموع إلى المسجد. وهناك عمدة المدينة "آن بوبوكز" التي لا تطرح فقط قضايا تعامل المسلمين مع الساسة والعكس، إنما أيضا تعامل المجتمع مع المرأة في موضع القيادة.
الحلقات ستصحبكم في مواقف كثيرة مضحكة، لكن ذكية. ستتعرفون على فكرة "الحلالووين" وهو النسخة الإسلامية للهالوين التي اقترحها عمّار، حيث ارتدي الأطفال أزياء شخصيات مستمدة من القرآن الكريم مثل التين والزيتون. وعندما صحبهم "بابر" الشكّاك ليتأكد من سلامتهم، تلقى حظا وافرا من الحلوى لأن الجميع اعتقد أنه متنكر بزي أسامة بن لادن وهو يتلاءم مع طبيعة الهالوين حيث يرتدي الناس أزياء مرعبة في الغالب! كمسلمين، قد نرى أن هذا الموقف مسيء، لكن بالنسبة للمشاهد الغربي، الأمر يثير الضحك، ويثير قدرا أكبر من الوعي.
وفي حلقات أخرى ستشاهدون كيف يتعامل المسلمون مع معضلات مثل رؤية هلال رمضان، وجود حاجز بين الرجال والنساء في المسجد، الحاجة إلى توظيف مدربة في مسبح النساء، عقد يوم مفتوح في المسجد لكسر الحاجز مع غير المسلمين، البحث عن مقبرة خاصة للمسلمين، وجود برنامج عن الإسلام على التلفاز، التعامل مع امرأة غامضة تلبس البرقع، بل وحتى الاستثمار في أسهم شركة تصنع عصير الشمندر!
استراتيجية المسلسل تقوم تصوير المسلمين كأناس عاديين تحدث لهم مواقف طريفة، فيهم الكثير من الخير، لكنهم يرتكبون الأخطاء ويختلفون فيما بينهم، وباختصار، أنهم بشر. وهذه الاستراتيجية اتبعها مسلسل Seinfeld الذي كان يهدف إلى تطبيع الشخصية اليهودية في المجتمع الأمريكي عبر تصويرها بأن شخصية "عادية" وطريفة ولها أخطاؤها كأي من بني البشر.
في إحدى الحلقات تأتي والدة ياسر حمودي من لبنان محملة ب"اللقيمات" أو لقمة القاضي، التي سمّاها ياسر بال"دونت" اللبنانية، وتأتي أيضا محملة بمهمة تزويج ابنها من ابنة عمه المترملة مؤخرا، وهنا تبدأ المعركة بين الحماة وكنتها. الحلقة طريفة جدا، لكن في طياتها شرح لموضوع تعدد الزوجات وأنه أمر يحدث لأسباب اجتماعية بالدرجة الأولى ونادر مقارنة بالصورة المرسومة في ذهن الغربي. لو قضينا ساعات وساعات نحاضر عن تعدد الزوجات في الإسلام وضوابطه لن نحقق الأثر المنشود الذي يحققه هذا المسلسل، لأنه يتوجه وبعفوية للمشاهد البسيط الذي لا يفهم في الفلسفة ولا في الفقه. إنها الدعوة عن طريق الضحك.
رغم ذلك، هناك بعض الأخطاء والهفوات، بعضها لا يغتفر مثل خطأ ورد في آية قرآنية كريمة في مشهد للصلاة في أول حلقة من الموسم الأول المسلسل، وبعضها يثير الجدل مثل بعض الإيحاءات غير المحتشمة، وبعض المعلومات المغلوطة التي نتجت على الأرجح عن وجود بعض الكتاب غير المسلمين لبعض حلقات المسلسل. ومن ذلك الحلقة التي تحاول سارة حمودي فيها أن تكون مسلمة صالحة وتصلي، وإذا بها تقفز من فراشها وقت الفجر إلى سجادة الصلاة دون أن تتوضأ، كما أنها تقضي وقتها كله في الصلاة ويبدو عليها الإرهاق، رغم أن الصلاة ليست بهذه الصعوبة إلا إذا كان القصد أنها شاقة على سارة لأنها غير مقتنعة بالإسلام أصلا.
المسلسل على أي حال موّجه إلى المشاهد غير المسلم بالدرجة الأولى، بيد أن بعض المواقف والصراعات الداخلية توفر مادة لنا نحن المسلمين لنتفكر في وضعنا، لنضحك عليه اليوم، على أمل أن نصلحه غدا.