تحكي لنا شهرزاد الأسطوريّه, في هذه الليلة السنيّه, قائلةً بجذل:
كثيراً ما يقول علماء التربية وعلم النفس, أن تشكيل مرجعية الإنسان وانطباعاته ورؤيته للحياة, عملية مُعقدة تتشكل بفعل تراكمي مذ طفولته المُبكره. وربّما لصحة ذلك, ارتبط مدلول ' الجنون ' في ذهني ' بالحقيقة ', كيف؟ أتذكر أنني تعرفتُ على ما يُسمى بالجنون للمرّة الأولى في طفولتي البهيجة, وتحديداً في بلاد الأناضول ' تُركيا ', ففي القريّه الشعبية التي كنا نقطنها في كل صيف, كان مجنون القرية ' هارون ', هو الشخصية المحبوبة المشهورة التي تُمثل المرأة العاكسة لشؤون وشجون القريّه, يقصده كل من فيها, ليستفيض بتجرد عن أسراره وهمومه وتطلعاته وأحلامه. فعنده تجد الحقيقة ناصعه لا شائبة فيها, فلا مجال لإرتداء أي قناع كان. والمُثير حقاً أن هذا المجنون, ولكونه مجنوناً- كما ينادونه-, له الحق المُطلق أن يَطال في حديثه شؤون السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والفن والإعلام والرياضه والقانون وكل شيء بأريحيةٍ تامة, وكأنه يتحدث بلسان الشعب الملجوم!, لذا لا غرو من أن تجد المقاهي الشعبية تكتظ لحظة تواجده فيها, يعتلي المنبر ويتحدث بنبرة الناشط السياسي!, ولا غرو من ان تجده أحياناً يكون سبباً في حل خلاف كبير بين زوجين اثنين بصوت المُصلح الإجتماعي, أو حتى مرسال الغرام بين عشقين بلهفة الساعي الإنساني! .
طيف هارون المجنون, تراءى أمامي هذا المساء المحموم بالجنون, إثر أكثر من دعوة تلقيتها من عضوات فريق وصال الإعلامي, لحضور مسرحيتهن الكوميديه ' جنون على مستوى '. لم أجد غضاضة في قبول الدعوة ومشاهدة العرض, خصوصاً وأنهن طلبوا منا أن نَلزم أنفسنا جنون ساعة بين أجن مجانين العالم! .
وصلتُ هناك قبيل بدء العرض بدقائق أترقب بشغف الملهوف ساعة ' الجنون الموعودة ', والمرتبطة ذهنياً ' بالحقيقة الغائبة '. لم تخفت آمالي بشأن الجنون الذي كُنت أرتقبه! . فمنذ الوهلة الأولى بدا لنا على خشبة المسرح ' جناح 16 ' , يحتضنُ بين يديه مجنونات من نوعٍ آخر, كلّ واحدةٍ منهن تُمثل وجهاً حقيقياً لهذه الإنسانيّه التي ندور في رحاها. وكل واحدةٍ تُعالج قضية إجتماعية تهم المجتمع, فمن الشهرة و الأنانية والطمع والجمال والرحمة والعقوق والمحسوبية كانت لهن وقفة مجنونة, عالجت كل مشكلة بدراماتيكيه كوميديه أمتعتنا من جانب, ومن جانبٍ آخر وضعت الحقيقة نصب أعيننا.
أكثر ما لامس شغاف روحي في تلك المسرحية, الخطاب الإعلامي القيمي المُصاغ بإحكام من قبل إعلاميات وصال, والذي يتمركز حول ' إنسانية الإنسان وأهليته للحياة الرغيدة في ظل العدالة السماوية والرحمة الإنسانية '. غير أن الأداء المسرحي المُتقن أثارني حقاً, لتناسب الإيقاع الحركي مع الإيقاع التعبيري, مُعبراً عن المشهد بهارمونية فنيّه خلابه.
إن ما صنعته إعلاميات وصال, خيرُ برهانٍ للدور الفاعل الذي تلعبه المرأة المُسلمة المُلتزمة في الإعلام الدعوي, غير أنه يُعزز من مفهوم أنه لا ضير من خوض المرأة المُسلمة المُلتزمة للمعترك الإعلامي, شريطة المحافظة على كينونتها المصونة, بحيث لا تُقحم نفسها في ردهات الإعلام المُتحرر , وإنما تشارك برؤيتها الإعلامية عبر لغات الإعلام المُختلفة ضمن إطار شرعي قيمي . فهي الأقدر بطبيعة الحال على مواجهة الحرب الإعلامية الشعواء التي يبثها الصهاينة لبلاد الإسلام, كونها تستقي رسالتها من الدستور الإلهي والهدي النبوي. إن مثل هذه المشاريع تُعجل بشكل أو بآخر من حركة الإعلام الإسلامي القيمي, فيا لهفي على وصالكن يا وصال, ويا لهفي على اتساع دائرة الوصال الإعلامي الهادف.
قد كان حقيقةً مساءً مجنوناً, قضيته بجنون, بين أجن المجنونات, وما أعقل المجانين كما يُقال.
وسَكتت شهرزاد عن الكلام المُباح, عندما أدركها الصباح !
دعوة لأمة إقرأ:
قراءة كتاب ' مُناجاة البلغاء في مُسامرة البغبغاء ',من أدب التراث التُركي, والمُترجم بواسطة: سليم أفندي باز.