تستحق "ظاهرة" الإقبال الجماهيري الشامي على مسلسل "باب الحارة " الوقوف عندها ونحن نشهد الإعداد للجزء الثالث منه ليقدم في رمضان المقبل ، راجين أن يكون أصحابه قد أخذوا بعين الاعتبار كل ماكُتب حوله من نقد كان معظمه على غاية من الأهمية ، خاصة ضرورة إضافة رؤية تقييمية نقدية للواقع الذي قدمه ، والتي شكّل غيابها ثغرة انهدامية في هذا العمل من الناحية الفكرية والثقافية ، فتقديم الواقع من خلال الفن يمكن أن يصبح عملاً إبداعياً وفقط في حال تقديم الحلول والنظرات النقدية المصاحبة له والتي تمنحه خاصية التربية والتعليم.
و مع هذا الحجم من الاقبال الجماهيري لانستغرب الحاجة الماسة للرصد والدراسة غير المتعلقين بجودة المسلسل ومستوى أداء المخرج والممثلين فيه من الناحية الفنية التقنية البحتة والتي لايكاد يُختلف عليها من حيث التميز والاتقان .
السؤال الذي طرح نفسه على الجميع ومازال : لماذا هذا الاقبال الجماهيري ؟!، لقد أتى "باب الحارة " -وعلى الرغم من المنظومة الثقافية التربوية غير السوية سلوكيا التي اشتمل عليها والتي لم يلتفت الناس إليها- بعمل فني ذكرهم بتاريخهم المكاني المفقود في زحمة الضياع والفوضى اللذان تعيشهما المدينة "العربية" اليوم ، كما نبه تصورهم الهاجع في أذهانهم عن لحمة اجتماعية حميمية نفتقدها في لجة الطغيان الأعمى الذي تعيشه مجتمعاتنا .
طغيان الساسة الذين لايرحمون ، طغيان المال ، طغيان المظاهر السخيفة المستنسخة عن الآخرين ببعدها الأجوف إنسانيا وحضاريا ، طغيان التنافس والتفاخر المرتبط بمحاكاة الآخر ، وطغيان التفكك الأسري والاجتماعي وانهيار القيم على كل الأصعدة في مجتمعات أصبحت تتمسك بالقشور ، لم يعد لبرّ الآباء أي معنى في ظل النفاق وانتظار موتهم لوراثة أموالهم بعد أعمار قضوها في السيطرة على أبنائهم ومنعهم من التنفس بحرية ، الشيء الذي يرده الأبناء للآباء لدى شيخوختهم أضعافا مضاعفة من التعسف والسيطرة !!، كما لم يعد للمودة والرحمة بين الأزواج والزوجات أي مصداقية في زمن الرقص والعهر الإعلامي ، صارت لدى الأغلبية قيم كهز البطون والدلع القذر ومقاسات وألوان "إماء" الإعلام ، والثروة والقدرة على الكسب هي الأصل لدى البحث عن الزوجة وليس الأخلاق ولا الدين ولا العقل ولا الوعي ، ماعاد لصبر المرأة على زوجها وتضحيتها معه ومنحها له شبابها وأموالها أية قيمة ، فالأصل بالنسبة لكثير من رجال اليوم هو أن تحرك فيهم المراة ماتحركه "نساء الشاشات"!! ، وليس تلك المرأة المتفانية ، الحافظة هوية الأمة في أولادها وبيتها ، قدم "باب الحارة " هذه الصورة عن المرأة ، لكنه لم يستطع أن يقدم رؤية نقدية لموروثاتنا الثقافية التي تقرن في ثقافة العامة حسن تبعل المرأة بالانصياع والمهانة وإلغاء الشخصية والتبعية القبيحة للرجل ، والتي تمنحه كل الحقوق التعسفية في التعامل معها لاغية أخص خصوصيات تعاليم حضارة الاسلام فيم يتعلق بالمرأة !!.
كذلك وعلى الطرف المقابل قدم المسلسل "المثل" الذي أضعناه عن الرجل الأب القائم بحق بيته وأولاده ، أب يعمل ويقدم لأسرته ماتحتاجه ، يتعسف ويقسو ولكنه يحنو ويهتم بكل صغيرة وكبيرة من شؤون أسرته ، وليس ذلك الأب الضائع المضيع المصاب بانفصام في الشخصية متمزقا بين عرف "القبيلة والحارة" وتعاليم الدين كما نزل وقيم المدنيات الغازية ! ، هذا المثل "المتألق" في أبوته ورجولته ، هو الذي شدّ الناس إلى "باب الحارة" على الرغم من السلوكيات "الهمجية" المرافقة لصورة الرجل !، لم يبق في حاراتنا ولا حياتنا اليوم من صورة الأب إلا ماتعلق بالتعسف والبخل والأثرة والتخلي عن مسؤوليات الرجل الأساسية في القوامة التي تعني الرعاية والعناية ، لقد قدم باب الحارة بعداً ثقافيا نشتاق إليه ونطلبه عن رؤية المجتمعات في المنطقة العربية لصورة الأب تاريخيا ، وكانت هذه القضية –من وجهة نظري- أساسية في إقبال الناس على المسلسل .
ماذا وجد الناس في باب الحارة ؟!! ، لقد وجدوا جذورهم الاجتماعية والثقافية التي انبّتوا عنها في عهود الظلم الاجتماعي والاستبداد والقهر الانساني والاستلاب السياسي والغزو الخارجي؟! ، هذه الرباعية التي أتت على البلاد والعباد والأخضر واليابس حرفيا ، ولم تدع للناس شيئا من تاريخ ولاذكرى يتلمسونها في مدنهم ولا في ذاكرتهم ، فكًُتاب التاريخ في المنطقة العربية امتنعوا عن كتابة التاريخ ، لأن كتابة التاريخ أصبحت مصيبة على صاحبها في أيام تقلص فيها تاريخ المنطقة ليصبح خاصا بالأنظمة السياسية !! ، والمدن التاريخية هُدمت على رؤوس أهلها لتنمو مدنية رأسمالية عشوائية مسخ مشوهة ، تحشر الناس في شقق صغيرة لايكاد الواحد منهم يستطيع التنفس فيها ، وتراجع البساط الأخضر الذي كان يغطي مدينة كدمشق "الشام" ، جفت أنهارها وانكمش ياسمينها وضمرت شجيرات ورودها ليحل مكانها الخراب والقحط في كل مكان ، استبداد سياسي يتناغم مع منظومة اجتماعية ومدنية تفصح عن نفسها بالفساد والنهب في عموم المنطقة العربية ، واستبداد اجتماعي يحاكيه ويحذو حذوه ، وقهر إنساني يمارسه الجميع ضد الجميع ، الكل يريد أن يهدم ، الكل يريد أن يقتلع الأشجار ، السلطات السياسية تنهب وتتسرطن على حساب الشعب والبيئة ، والأفراد من الشعوب ينهبون ويتسرطنون على حساب الضعاف منهم والبيئة .
كان لجدي رحمه الله بيت كبير في سفح قاسيون ، "بيت عربي" كما ندعوه أهل دمشق ، وكان في هذا البيت أشجار سرو ، وبحيرة وياسمينة وأشجار نارنج وتين ، وكنا نجلس في الشرفة العليا في البيت والتي يبلغ طولها خمسين مترا فنرى دمشق كلها تمتد تحت بصرنا ، ساحة الأمويين بأنوارها المتلألئة ومسجد الأموي بمآذنه التي تصافح السماء ، وأنوار السيارات وهي تزحف عن بعد في شوارع المدينة ، وحتى "معرض دمشق الدولي" كان يبدو من "حي المهاجرين" ياقوتة يخطف بريق ألوانها الألباب ، حاصرت الأبنية الحديثة بيتنا من كل حدب وصوب ، وانكشفت الدار وأهلها أمام أعين البنائين ، لكن جدي وعلى الرغم من الحصار صمد وتحدى وقرر أن لايبيع البيت ولايخرج منه ، بنى سورا غربيا فارتفعت الأبينة هناك عن يمين الدار ، فبنى سورا شرقية ، فحاصرته الأبنية بحيث حجبت دمشق عن عيني الناظرين إليها من تلك الشرفة ، وبقي جدي يعاند تمدد المدنية على حساب بيته وتاريخ بيته الذي طالما ضمّ في نفس الفترة التي قدمها "باب الحارة" كبار رجال الدين والأدب والفكر والسياسة والقضاء في سورية وفلسطين والاردن ولبنان ، أسماء كبيرة وعلى غاية من الأهمية قصدت بيت جدي ذاك خلال خمسين عاما من تاريخ "الشام" ، حركة فكرية ونهضوية كبرى كانت تنمو في أحشاء بيوت الشام القديمة وحاراتها ، تحت ياسميناتها ونارنجاتها وعلى موسيقى الماء ينسكب في نافورات بحيراتها ، ثم .. مات جدي ، فباعوا الدار وارتفعت مكانها عمارات وشقق ، وضاع تاريخ الدار ومن سكنوها!! ، ذلك ..هو ماافتقدناه في ماقدمه "باب الحارة" ، وذلك ماجعل الناس يقبلون على "باب الحارة" يلتمسون فيه –على عجره وبجره- كل ماافتقدوه في حياتهم المعاصرة من بقايا صور فحاولوا التشبث بما خيل إليهم أنه قيم مفقودة لم تكن إلا حلقات في مسلسل منحهم كل ليلة من ليالي رمضان ساعة من أمان وحنين وذكرى.