((إنني عدت من الموت لأحيا.. فدعيني أستعر صوتيَ من جرحٍ توهّج
و أعينيني على الحقد الذي يزرع في قلبي عوسج
إنني مندوب جرح لا يساوم
علمتني ضربة الجلاد أن أمشي على جرحي..و أمشي.. ثم أمشي .. و أقاوم! ))
كنت قد كتبت قبل ربع قرن : إن "محمود درويش" قد انتهى ، وذلك في فترة كان يعيش فيها مخاضاً عنيفاً بين الموت والحياة كشاعر ، ولكن "محمود درويش" ولله الحمد خيب ظني ولم ينته ، وجاء من الموت يتحدى ويحيا ، ويُطور فنه المتميز ويضعه في خدمة هذه القضية التي تَنَقَل في متاهاتها ، وعاشها في الداخل ، وفي المنفى ، من موقع المسؤولية السياسية ومن مواقع الخلاف مع المسؤولين ، عاشها كغريب في وطنه وعاشها كغريب عن وطنه ، وتقلبت به الأحوال العقيدية والسياسية والفكرية ، لكنه ودائما كان مع القضية وفي خدمة القضية ، مع شعبه وفي خدمة شعبه ، ثم تجاوز المرحلة ليحمل همّ هذا الشعب بكل أبعاده الإنسانية إلى آفاق إنسانية طالما سُدت منافذها في وجه "العرب" بسبب قصور كثير منهم عن صياغة فنونهم وآدابهم من وجهة نظر إنسانية تجعل العالم يتفهمها و ..يحترمها ، لم يقع في فخ مديح أحد ولا التحزب لفئة دون فئة ، لأنه أدرك أن عظماء الشعراء هم وكلماتهم ملك للأمة كلها ، وباسم الأمة جعل "محمود درويش" الفلسطيني العربي كل من يقرأ كتبه وبكافة اللغات يتفهم ألم الشعب الفلسطيني وجرح الشعب الفلسطيني ، لم يبق محب للحرية في العالم إلا وبكى رحيل درويش أكثر مما بكاه الفلسطينيون والعرب أنفسهم.
(( أيها المارون بين الكلمات العابرة..كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة وانصرفوا
فلنا ماليس يرضيكم هنا..ولنا ماليس فيكم..وطنٌ ينزف شعبا ..وطنٌ ينزف وطنا.
آن أن تنصرفوا ..وتقيموا أينما شئتم ..ولكن لاتقيموا بيننا
آن أن تنصرفوا.. وتموتوا أينما شئتم ..ولكن لاتموتوا بيننا
فلنا في أرضنتا مانعمل ..ولنا الماضي هنا ..ولنا صوت الحياة الأول
ولنا الحاضر ..والمستقبل
ولنا الدنيا هنا ..والآخرة
فاخرجوا من أرضنا
))من برنا ،من بحرنا ،من قمحنا ، من ملحنا ، من جرحنا
من كل شيء .
واخرجوا من مفردات الذاكرة
أيها المارون بين الكلمات العابرة ..احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا
واسرقوا ماشئتم من صورٍ..كي تعرفوا أنكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء )).
شاعرية لايختلف عليها اثنان ممن يفهمون الشعر ، وطاقة تصويرية مذهلة تحول الموقف الفكري السياسي إلى كلمات شعرية مفهومة ، وقدرة موفقة إلى أبعد حدود التوفيق في تحريك مشاعر الناس وعقولهم معاً ، وجعلهم يتغنون بالصمود والعناد والأمل ، كلمات من الواضح أن الشاعر كان يعمل عليها وكثيراً ، كان ينحتها من ثقافاته المتعددة التي اكتسبها بالقراءة والمعايشة والسفر والمعاناة والدأب ، من منا لايردد مرات ومرات (سجل أنا عربي) ، ومن هذا الذي لايتذكر قهوة أم "محمود درويش" كلما فاحت رائحة قهوتنا التركية الأصيلة التي ندّعي أنها عربية ، ليأتي "محمود درويش" ويجعل كلّ فناجين القهوة في العالم وقفاً على أمه !! ، لايمر علي صبح دون أن أحن إلى قهوة أمي وصوت أمي ، ككل الغرباء ، ولكن "محمود درويش" وحده " الغريب" الذي كان يدافع الموت (حياءاً من دموع أمه) !، أبى القدر إلا أن تكون أمه العجوز بحجابها الأبيض ووجهها المنير وكرسي عجلاتها شاهدة على دفن ابنها الذي يصطرع "الأولاد" اليوم على هويته وانتمائه ، وهم لايعلمون أن الأمة تعرف ل"محمود درويش" أنه الشاعر الكبير الفلسطيني ابن الجراح والموت الذي كتب عن ( مايستحق في أرضه الحياة) ! ك(خوف الغزاة –مثلا- من الذكريات) !، نعم لقد غير "درويش" بعض خطابه مع ثباته على أولويات القضية ، وهل فينا من لم يغير خطابه اليوم على الرغم من التمسك بالثوابت !؟، وهل يمكن لامرئ حيّ أن لايغير خطابه بين الحين والحين استجابة للمتغيرات من حوله؟!، وماذنب كبار الشعراء إذا كان غيرهم لايعرف فن التواصل مع الشارع ؟!.
هذا الشاعر الفلسطيني ذو القامة الإنسانية العالمية ، هذا الشيخ السبعيني الذي منحته قضيته شباباً أنيقاً متألقاً ، لايستحق من شريحة من شباب الأمة يوم وفاته مثل هذا النكران وهذا الجحود ، فلَنا كلماته التي صارت ملكا للأمة ، ولنا أغاني الكفاح والأكفان البيضاء والحمراء والخضراء والسوداء التي احتضن بها " درويش" أجساد الشهداء ، ولنا وصفه لسقوط القناع بعد القناع بعد القناع .
(لا إخـوة ٌ لك يا أخي ، لا أصدقاء ُ يا صديقي ، لاقــلاع
لا الماء عنـدك َ ، لا الدواء ولا الســماء ولا الدمــاء ُ ولا الشـــراع
ولا الأمـــام ولا الــــوراء .
حاصـــــــــــر حصارك َ ….. لا مفـر ُّ
سقطت ذراعك فالتقطها ..واضــرب عدوك .. لا مفر ُّ
وسقطتُ قربك ، فالتقطني ..واضرب عدوك بي .. فأنت الآن حــر ُّ
قتلاك أو جرحاك فيك ذخيرة ٌ ..فاضرب بها . اضرب عدوك .. لا مفرُّ
حاصـر حصـارك بالجنون ِ …. وبالجنون ِ ….. وبالجنون ْ
ذهب الذين تحبهم ذهبوا ..فإما أن تكون أو لا تكون).
رحل "محمود درويش" وبقيت جلّ كلماته دندنات في القلب والروح والذاكرة الجماعية لأمة لم تعتد الوقوف إجلالاً لغير شاعر مُجيد ينطق بألمها ، إنها أمة على الرغم من كل جراحها تعرف ماينفعها ويمكث في الأرواح يتشكل كغيمة صيفية تأتي ولو بعد حين ، تنشر عبق الياسمين وتهطل علينا مطرا يطهرنا ويحيينا ، رحل "محمود درويش" ، كما رحل "عبد الوهاب المسيري" ، ومن قبلهما "إدوارد سعيد" ، و"نزار قباني" ، جيل مضى من كبار مفكري الأمة وصفوة شعرائها ، بعضهم ودعته الأمة كما يليق بشعراء الأمم ومفكرييها ، وبعضهم مضى في صمت وسكون بين جحود الحكومات وضجيج الشعوب ، ولكنهم لم يمضوا قبل أن يتركوا لنا بصماتهم وأفكارهم وكلماتهم مشاعل في طريق مدلهمة ، كل منهم يستحق منا وقفة احترام ووداع يليق برجال لم ينسوا أمتهم وعاشوا وماتوا بعِلَلِها ، مهما كانت انتماآتهم ومهما كانت زلاتهم وأخطاؤهم ، ، لاينبغي كلما ودعنا كبيرا أن نؤجج نيران الشقاق والخلاف ، فإبداعاتهم تبقى ذخرا للأمة ، وحياتهم الشخصية في صحفهم وقد أفضوا بها إلى خالقهم ، إنه من المؤسف أن نجهض تاريخنا لأن الذين يسجلونه بأقلامهم وأفكارهم لاينتمون إلى هذه الفئة أو تلك ، ونذهب خالي الوفاض كل حزب بما لديهم فرحون