قراقوش يُعرف لدى غالبية الناس مقترنا بالأحكام العجيبة والتي تصوره ظالما تارة وغبيا تارة أخرى، وهي أحكام بتناقلها الناس ويزيد عليها البعض نوادر وطرائف حتى أصبح البعض حين يرى تصرفا ظالماً أو غريباً يطلق عليه حكم قراقوش. إن كثيرين سيفاجئون عندما يعلمون أن قراقوش (أبو سعيد قراقوش بن عبد الله الأسدي الملقب بهاء الدين) بطل من أبطال زمن صلاح الدين الأيوبي والدولة الأيوبية في مصر(567 - 648 هـ / 1171 - 1250 م)
الصورة نقلا عن جريدة اليوم السابع
، فهو رومي الأصل، امتلكه أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين الأيوبي وحرره من العبودية، ثم جعله - لكفاءته وذكائه - أحد ضباط جيشه واختار لنفسه اسم بهاء الدين الأسدي (نسبة لسيده أسد الدين) الذي اصطحبه معه إلى مصر. وبعد وفاة أسد الدين انتقل لخدمة ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، واستبدلت كنيته «الأسدي» بـ«الناصري» نسبة للناصر صلاح الدين.
قراقوش شخصية فذة امتازت بالجد والعمل والإبداع في هندسة القلاع التي ما زال بعضها ينتصب شامخاً كقلعة صلاح الدين الأيوبي في جبل المقطم، كما قام بتحصين دمياط، وبنى قلعة سيناء قرب عين صدر، وقلعة فرعون في خليج العقبة، كما انشأ الأبراج العالية لمراقبة تحركات جيوش الفرنجة أعداء دولة صلاح الدين زمن الحروب الصليبية في القرن السادس الهجري. وإضافة إلى هذه الأعمال العسكرية فإنه بنى قناطر الجيزة وهو مشروع زراعي عظيم.
كما انتدبه صلاح الدين بعد تحرير عكا لتحصين أسوارها، فلم يكن يثق في أحد لتنفيذ هذه المهمة غير قراقوش، فقد ذكر العماد الأصفهاني في كتابه "الفتح القدسي" أن صلاح الدين قال: "ما أرى لكفاية الأمر المهم، وكف الخطب الملم، غير الشهم الماضي السهم، والمضيء الفهم، الهمام .. النقاب المجرب، المهذب اللوذعي.. الألمعي، الراجح الرأي، الناجح السعي، الكافي، الكافل بتذليل الجوامح، وتعديل الجوانح، وهو الثبت الذي لا يتزلزل.. ولا يتحلحل، بهاء الدين قراقوش، الذي يكفل جأشه بما لا تكفل به الجيوش".
وقد كتب قراقوش إلى صلاح الدين يخبره أنه لم يبق عنده من الأقوات ما يكفيه فلما وصل الكتاب إلى صلاح الدين أخفاه لئلا يعلم الفرنجة بالأمر فيهاجموا المدينة ويحاصروها، "ثم جهز صلاح الدين ثلاثة مراكب من بيروت بزي الإفرنج بعدما حلقوا مثلهم وشدوا الزنانير واصطحبوا شيئاً من الخنازير، فلما مروا على مراكب الإفرنج اعتقدوهم منهم ولم يعترضوا سبيلهم" (وفق رواية ابن كثير في البداية والنهاية). وقد استمر قراقوش بالبناء، حتى استطاع الفرنج السيطرة على عكا في 17 جمادى الآخرة سنة 587هـ فأخذ أسيراً مع الأسرى، حتى فداه صلاح الدين بعشرة آلاف دينار وقيل بستين ألف دينار، كما ذكر ابن تغري بردي، وقد فرح صلاح الدين بفك أسره فرحاً عظيماً.
لقد استمر قراقوش في خدمة الملك العزيز عثمان بعد وفاة والده السلطان صلاح الدين، وقد جعله العزيز نائباً عنه في مصر وجعله أتابكا (نائبا) لابنه محمد حين أوصى له بولاية العهد من بعده، كما أوكل إليه العزيز مهمات أخرى حيث كان يتولى حفظ أموال الزكاة ويتولى النظر في المظالم. وبعد وفاة الملك العزيز أصبح قراقوش وصيا على ابنه الملك المنصور محمد الذي كان عمره تسع سنين حتى عزل قراقوش من الأتابكية (الوصاية)، إلا أن قراقوش بقي على أهميته حتى وفاته بالقاهرة في مستهل رجب سنة 597 هـ بعد أن خدم صلاح الدين وابنيه أكثر من ثلاثة وثلاثين عاماً، وكان آخر عمل قام به تجديد بناء جامع قيدان خارج القاهرة في محرم من نفس العام.
أما كلمة قراقوش بفتح القاف والراء فهي تركية ومعناها النسر الأسود (قوش: نسر، قرا: أسود). وسيرة هذا القائد الأيوبي قراقوش، الذي كان عبداً ثم حراً محارباً ومهندساً وقائداً في صمود عكا ووصياً على حكم مصر (أولاد صلاح الدين)، سيرة غنية تتسم بالوفاء ونكران الذات والبعد عن الأنانية وكثرة الانجازات، وربما جرت عليه التشنيع من قبل حساده وأعدائه الذين شنعوا عليه، فهو لم يبطش أو يتسلط أو يظلم أو يتجبر على أحد من المصريين أو غيرهم من المسلمين. ذكر ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان أن الناس ينسبون إليه أحكاما عجيبة في ولايته، وقد كتب الأسعد ابن مَمّاتي (توفي 606هـ) ناظر الديوان في عهد صلاح الدين كتاباً باللغة الدارجة المصرية بعنوان "الفاشوش في أحكام قراقوش" وفيه أشياء يبعد وقوع مثلها منه، والظاهر أنها موضوعة، فقد كان صلاح الدين معتمدا عليه في أحوال مملكته ولولا وثوقه بمعرفته وكفايته ما فوضها إليه. وقد انتهى إلى القول:"وكان له حقوق كثيرة على السلطان، وعلى الإسلام والمسلمين".
الواقع أن؛ بهاء الدين قراقوش شخص شبه مغمور لا يعرف سيرته إلا من يبحث في سيرة صلاح الدين الأيوبي وأعماله حيث يرى بصمات واضحة لقراقوش في تلك الأعمال، إلا أنه تعرض لتشويه جعله ينتقل من قائمة المحاربين والمهتمين بالعمارة إلى قائمة الحمقى والمغفلين وأحيانا الطغاة. فقد شاءت الأقدار أن تسلط عليه لسان "ابن مَمّاتي" الذي صنف له كتاب "الفاشوش في حكم قراقوش" حيث وظف بعض الطرف الهجائية للنيل من شخصية قراقوش. ومن يرجع إلى هذا الكتاب يجد أن السخرية تشيع فيه من أول كلمة حتى آخر كلمة، ويبدو أن ابن مَمّاتي كان يحب أن يثير روح الفكاهة عند صلاح الدين من جهة، ويوضح له من جهة أخرى خصال الأمير بهاء الدين قراقوش بطريقة ساخرة، حتى يعمل على إراحة الرعية منه.
ويرى البعض؛ أن حكايات الفاشوش في أحكام قراقوش صيغت بأسلوب عامي ركيك أراد فيه ابن مماتي محاكاة العامة ليضمن لحكاياته الرواج والانتشار، وأنّ الناس لو محصوها في هذا الوقت لأدركوا أنّها لا يمكن أن تصدر عن رجل سوي فكيف برجل كان له دور مهم وبارز في الدفاع عن البلاد الإسلامية في وقت عصيب. ومن أهم الملحوظات على هذه الحكايات هو وجود تشابه كبير بين بعض الحكايات المنسوبة لقراقوش وبين ما يتداوله الناس من حكايات تنسب إلى جحا، كما أن بعض الحكايات تناقض مع ما اتفق عليه المؤرِّخون عن قراقوش، فمنها حكاية تتحدث عن ابن لقراقوش مع أنّ المؤرِّخين مجمعون على أنّه خصي.
لم يكن ابن مَمّاتي يدري حينما صنف كتابه أنه سوف يلحق الأذى بقراقوش حياً وميتاً، فقد امتد أثر هذه الحكايات الطريفة حتى زماننا هذا، وساعد على ذلك عدد من الكتب على نفس الشاكلة، فيقال أن جلال الدين السيوطي (توفي911هـ) اطلع على كتابات ابن مَمّاتي وألف كتاباً على شاكلته، وأعطاه العنوان نفسه، ثم جاء مؤلف مجهول لم يذكر التاريخ لنا اسمه، فصنف كتاباً سماه:"الطراز المنقوش في أحكام قراقوش". إلا أنه على الرغم من قسوة التهم التي تعرض لها قراقوش، والتي جاءت في صورة هزلية إلا أنها كانت سبباً في شهرته وتداول اسمه بين الناس، مما دفع بالكثير من الباحثين والمؤرخين إلى البحث في سيرته ونفي ما يُنسب إليه من أحكام مغلوطة.
والخلاصة؛ كان الحنق والغيرة والحسد تملأ قلب الأسعد ابن مَمّاتي، وكان قراقوش في الوقت ذاته حاكماً قاسي القلب، أميناً على أموال الدولة، مخلصاً للدولة الأيوبية، وربما سعى إلى تحديد صلاحيات خصمه اللدود ابن مَمّاتي -والذي كان يتولى ديوان الجيش وديوان المال- فكان ما كان. ويدل على صحة هذا الاستنتاج قــول ابن مَمّاتي في مقدمة كتابه "الفافوش في أحكام قراقوش": " ... إنني لما رأيت عقل قراقوش محزمة فاشوش، قد أتلف الأمة، والله يكشف عنهم الغمة، لا يقتدي بعالم، ولا يعرف المظلوم من الظالم .. صنعت هذا الكتاب لصلاح الدين عسى أن يريح منه المسلمين".
وصدق ابن العماد الحنبلي في كتابه شذرات الذهب حيث قال ضمن وفيات سنة 597هـ:"قراقوش الأمير الكبير وقد وضعوا عليه خرافات لا تصح، ولولا وثوق صلاح الدين بعقله لما سلم إليه عكا وغيرها".