بيد أن الحقيقة كانت عكس ذلك لأن هذه الحركة الصليبية كانت لها دوافع حقيقية عديدة جاءت مستترة تحت الدافع الديني الظاهري المعلن لهذه الحركة. ومن بين هذه الحملات تظهر بجلاء تلك الحملة الصليبية المعروفة بالحملة الصليبية الثالثة التي شهدت أعظم قادة العرب "صلاح الدين الأيوبي" وأشهر ملوك الغرب "ريتشارد قلب الأسد". وخلال أحداث هذه الحملة دارت المفاوضات بين السلطان صلاح الدين الأيوبي والملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد لمدة عام كامل(1191-1192) وكان فارسها العادل الأيوبي. وفي الغالب ضاع موضوع المفاوضات في ثنايا أحداث الحملة، وبإلقاء الضوء على مائدة التفاوض الأيوبية الصليبية تتضح بعض الجوانب الهامة ومنها حقيقة فكرة المصاهرة السياسية التي اقترحها ريتشارد قلب الأسد لتزويج أخته من العادل الأيوبي شقيق صلاح الدين.
فقد أرسل ريتشارد في 20 أكتوبر 1191م / 29 رمضان 587 هـ برسول للعادل ومعه عرض بالمصاهرة يتمثل في اقتراح ريتشارد بأن يتزوج العادل من جوانا ملكة صقلية ( أخت الملك ريتشارد ) وأن يقيما الاثنان بعد الزواج في مدينة بيت المقدس ويكون حكمها ثنائيا بينهما، وأن يهب السلطان شقيقه العادل جميع بلاد الساحل بالإضافة إلى ما في يده من بلاد، وان يقدم ريتشارد لشقيقته كل ما فتحه من مدن الساحل بما في ذلك عسقلان، وان ترد إلى الداوية والإسبتارية كل ممتلكاتهم في بلاد الشام، وان يحصل الصليبيين على صليب الصلبوت، كما يتم تبادل الأسرى بين الجانبين. وقد أرسل العادل بوفد إلى السلطان لعرض الأمر عليه، وقد ترك مجلس المشورة الرأي للسلطان فوافق على المشروع كما وافق العادل أيضا، إلا أن الرفض جاء من جانب جوانا التي أنكر رجال الدين عليها هذا الزواج، ولهذا عرض ريتشارد على العادل الدخول في الديانة المسيحية، إلا أن العادل رفض ذلك في دبلوماسية وترك باب المفاوضات مفتوحا. وكانت آخر الرسائل التي بعثها ريتشارد في هذا المشروع تفيد بأن رجال الدين يرفضون هذا الزواج دون مشورة البابا، ولهذا فقد أرسل ريتشارد له رسولا يعود بعد ثلاثة أشهر فإذا صرح بالأمر تم عقد الزواج وإلا زوج ريتشارد العادل ابنة أخته إليانور دون أن يحتاج إذن البابا في ذلك. وفي الحقيقة؛إن مشروع الزواج أكثر العروض خيالا، ومبالغة غير مقبولة في عصر اتسم بالتزمت الديني في هذه الناحية في الشرق والغرب على السواء. وإذا كان هناك من يرى أن هذا الزواج كان فكرة طريفة تدل على مدى التقارب والتفاهم بين المسلمين والصليبيين، فهذا النوع من الطرافة يأتي من أن الأمر كله لا يعدو المزاح، فتنفيذ هذا المشروع كان يبدو مستحيلا وسط حرب دائرة بين المسلمين والصليبيين تحمل طابعا دينيا.
كما أن هذا التقارب لا وجود له، فقد استغل ريتشارد الصداقة المتبادلة بينه وبين العادل لخدمة أغراضه و إطالة أمد المفاوضات، ولعرقلة قيام أي تحالف بين صلاح الدين وكونراد، ويتضح ذلك من رسائل ريتشارد الخاصة بطلب التنصير من العادل، وانتظار وصول موافقة البابا على هذا الزواج. ومن الملاحظ؛ أن ريتشارد لم يكن جادا في عرضه – كما يعتقد المؤرخ البريطاني ستيفن رانسيمان– ذلك لأنه عرض على العادل الزواج من إليانور إذا رفض البابا زواجه من جوانا، وفي هذا دليل على أن ريتشارد كان يراوغ في عرضه فلماذا لم يقدم هذا العرض منذ البداية إذا كان زواج العادل من إليانور لن يتطلب موافقة البابا.
من جهة أخرى؛ إذا كان الدليل على هذا التقارب بين الفريقين يأتي من موافقة صلاح الدين والعادل على هذا المشروع، فالواقع أن السلطان وافق على هذا الاقتراح اعتقادا منه بأن ريتشارد لا يوافق على هذا العرض أصلا، وان الأمر كله لا يعدو سوى هزو ومكر. أما بالنسبة للعادل فربما رحب بهذا المشروع بغية إقرار السلام، أو أن هذا الحل يضمن توحيد الفريقين تحت لواء واحد. بل يذهب البعض لأبعد من هذا في أن العادل هو الذي حاول إغراء ريتشارد كي يزوجه أخته وجعل ذلك من مقومات عقد الصلح. والواقع أن العادل كان دبلوماسيا بالغ الحنكة فلا ريب انه قد أدرك أن الأمر كله لا يعدو سوى مناورة يقوم بها ريتشارد ولهذا وافق على المشروع. حتى أن ابن العبري في كتابه " تاريخ الزمان" يذكر أن العادل كان يدرك أن أخت الملك ريتشارد لن تقبل الاقتران برجل عربي ولهذا فلعله وافق علي المشروع علي سبيل "المزاح كعادته". وبذلك انتهت فكرة المصاهرة السياسية بين التاجين الأيوبي والإنجليزي على مائدة التفاوض ليبدأ الطرفان في اختراع أفكار جديدة للتسوية واكتساب الوقت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)ابن شداد، النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، تحقيق جمال الدين الشيال، مكتبة الخانجي، الطبعة الثانية، القاهرة 1994.
(2)ابن العبري، تاريخ الزمان، تحقيق إسحق أرمله، دار المشرق، بيروت1991.
(3)أشرف صالح،الدبلوماسية الأيوبية– الصليبية1191-1192، شركة الكتاب العربي الإلكتروني، بيروت 2007.
(4)محمودالحويري، العادل الأيوبي صفحة من تاريخ الدولة الأيوبية، دار حراء،القاهرة 1979.