أذكرها , أذكرها جيداً , مدرّسة العلوم النحيلة , بجسدها الطويل وردائها الرماديّ الفضفاض , توكئ على أرنبة أنفها نظارةً مستديرةً سميكة , وتتكلم بلهجةٍ شامية , بكل صرامة تطلق الأحكام , تملي علينا القوانين العلمية , وتصدر الأوامر بالانتباه والكتابة , وأذكر الدرس , أذكره جيداً , ذاك الذي علمونا إياه في بدايات المرحلةِ الابتدائية , حين كذبوا علينا وقالوا بأن الموجودات في هذا الكون تنقسم إلى جمادات وكائناتٍ حيّة , وصنّفوا على أهوائهم الموجودات , وضعوا لنا الصور , وجعلونا نؤمن بأن هناك جمادات وكائنات حية ..
تنتصبُ في وسطِ الفصل كنخلةٍ سامقة
بكل ثقةٍ واعتداد كانت تشير إلى الكرسي وتقول :
الكرسي جماد , الصبورة جماد , النافذة جماد , والإنسان كائنٌ حي
وكنا نصدق مبهورين , في أعيننا دهشة ٌ شاسعة , وقلوبنا الغضة تتلقف ببراءةٍ كل ما يملى عليها , دون أن نعترض , نفكر , أو نناقش
وتواترت المراحل الدراسية , وكلنا في قرارة عقله يُسلّم بأن الكرسي جماد , والإنسان كائنٌ حي !
معلّمتي الفاضلة , ها أنا قد تخرّجت من فصول المدرسة , وأقف الآن على العتبات الأخيرة في سُلم الجامعة , واليوم , اليوم فقط اكتشفت بأنكِ كذبتي علينا , بينما أنتِ وقريناتكِ لم تفتأن تملين هذه المعلومة المغلوطة على الأطفال الأبرياء أمثالي , الجالسين على مقاعد الدراسة , فيصدقون ..
رحماكِ رحماك , تريّثي وتأملي قليلا ..
معلمتي العزيزة
ليس كلُ إنسانٍ كائنٌ حي , وليس كل كرسي ٍ جماد !
إن الحياة ليست مجرد أنفاس ونبضات وبضع قطيّراتٍ من دماء , والجمود ليس انعدام القدرة على الحركة والكلام والنمو
فكم من إنسانٍ لا يمتُ للحياةِ بوشيجة , بل كل ذرةٍ فيه تومئ بالجمود , قلبه لا ينبضُ حبا , دمه لا يسري في جسده خيرا , وزفيرهُ لا يخرج للحياةِ نورا
إن نطقَ صمت الحياةُ آذانها , إن قام هربت منه خوفا , وإن نمى تعوذت بالله من نموه !
يكتمُ روحهُ في زجاجةٍ سوداءَ مظلمة , وينزوي بشرهِ وآثامه
فالحياة منه براء , والجمود له أقرب ..
وكم من كرسي ٍ يحفظُ ود من جلس فوقه , يشتاقُ لعودته , يحفظُ سره ومناجاته , ويحفرُ على ألواحهِ ذكراه .
يشرّع ساعديّه بكل أريحيةٍ لاحتضان الضيف الجديد , يغدق عليه بحنانه , ويريحه بلينه , ويحنو عليه ..
أتظنين بأن الكراسي تنسى الجالسين فوقها كما ينسى البشرُ العابرين في حياتهم ؟
: )
ألا تعتقدين بأن كرسيكِ في الفصل الدراسي يشتاقُ لكِ , وذاك الذي جلستِ عليه بقرب البحر مازال ينتظر مجيئك ؟
أتذكرين الذي حفرتي عليه تاريخ يومٍ ما , أم الآخر في منتصف الطريق ..
والمسكين الذي رميتهِ بعدما كُسرت أحدى أرجله , أتظنين بأنه لا يشتاق لمنزله , كما نشتاق نحن لمنازلنا عندما نغادرها ..
معلمتي الوقورة
ليتكِ تتحرين الحقيقة قبل تكرار المنهج كالببغاوات , ليتكِ تتفكرين
اعذريني
لم أعد أصدق بأن الموجودات في الكون عبارة عن جمادات وكائنات حية , ولم أعد أصدق بأن كل البشر كائنات حية لمجرد أنهم بشر
ليتني أعود للمرحلة الابتدائية لأكتب في الاختبار أن المرآةَ كائنٌ حيٌ يحدثني في كل صباح , وكرسيي كائنٌ حي يشتاق إلي كلما خرجت , وفساتيني كائنات حية تنبضُ بإحساسي , وكتبي كائناتٌ حيّة تشرح لي الحياة ..
وأن فلان وفلانه وغيرهم , جمادات !!