لانريد أن نخوض في المسؤولية الأخلاقية الملقاة على عاتق المثقف في بلده فهي مسؤولية مجمع الإتفاق بشأنها خاصة إذا كانت الشعوب متخلفة وفي مرحلة المنعطفات الكبرى، ذلك ماأسماه فيلسوف الوجودية الكبير جون بول سارتر بالإلتزام أي التزام المثقف بقضايا شعبه وبالدفاع عن حريته وكرامته ولو اقتضى الأمر معارضة النظام السياسي القائم، وذلك ماحدث له بالضبط حين تظاهر مع المعارضين في حرب فرنسا في الجزائر وأصدر من أجل ذلك كتابا بعنوان" عارنا في الجزائر" ، والتزام المثقف بقضايا أمته ونزاهة فعله وصدق قوله ليست بالقضايا المستحدثة في تاريخ الأمة العربية، فأبو حيان التوحيدي وهو من كبار الأدباء ومن مؤسسي النزعة الإنسانية في الفكر العربي أخذ على الوزيرين "الصاحب بن عباد" و"ابن العميد" مآخذ سجلها في كتابه "مثالب الوزيرين" فقد أخذ عليهما العيش الرغيد في قصور مترفة وقصر الثقافة على جمع لفيف من الفلاسفة والمناطقة وعلماء البيان والكلام والشعراء والنثار والتطرق في كل ليلة إلى موضوع من موضوعات الفلسفة أو الأدب أو الدين، في حين تعيش الرعية في الخارج في ظلام وتخبط في تيه عماء. وهو موقف للتوحيدي يجعله في قمة رواد المذهب الإنساني الذي عرف به كبار مفكري أروبا.
ونحن في مقالنا هذا راصدون لخيبة المثقف العربي وردته وفي تخليه عن مهمته الرئيسية في تنوير الرعية في عصرعادت فيه الشعوب العربية إلى السبات بالحنين إلى الماضي ومحاولة إحيائه وبغلبة الفكر الفقهي على الفكر العلمي ، وشيوع الدجل والشعوذة والبهلوانية الخطابية على التحليل العلمي ، أضف الى ذلك الهم السياسي المتمثل في استبداد الحاكم وحاشيته وغياب الحريات والضوابط الأخلاقية والسياسية، وقد كان رهين المحبسين أكثرجرأة من كتابنا ومثقفينا وهو المتوحد في داره حين قال :
يسوسون الأمور بغير عقلفينـفذ أمــرهم ويقــال ســاسهفأفّّ منـــــــــهم ومني ومنزمن صارت رئاسته خسـاسه
أما مثقفنا في العصر الحديث الذي كان ينتظر منه أن يكون مسيحا يحمل صليبه إلى ذروة الجلجلة، أوصرخة مدوية في أذن الزمان تجد صداها في عقول الناس وقلوبهم، فتغير ما بأنفسهم وهكذا ندخل عصرالأنوار ونودع حياة الكهوف ونلغي ثقافة المتون ونستأصل الدجل والشعوذة من جذورهما بانتصار الفكر العلمي الصحيح ، وسيادة الحياة السياسية السليمة فيجني المجتمع ثمار ذلك حياة اجتماعية عادلة ورخاء اقتصاديا وإبداعا علميا وأدبيا وفنيا و حضاريا يدخلنا في ركاب الحضارة كغيرنا من الأمم بعد أن خرجنا من السباق قرونا طويلة واكتفينا باستهلاك نفايات الصناعة الغربية من الناحية المادية ، واستهلاك رطانات الماضي من الناحية العلمية والمعنوية .
وصورة المثقف في عصرنا الحديث لا تخرج عن ثلاثة أطر : مثقف هو أشبه بعراف البراري كان كلامه أشبه ما يكون بالأحاجي والألغاز وقد أخذ بنصيحة ابن باجة في " تدبير المتوحـد" فطلق المجتمع والزمان وانزوى في كهفه . ومثقف لزم التقية وأخذ بالحيطة وأتقن الرياء الماكر دفعا للضرر واستجلابا للعافية والسلامة .
ومثقف غلبته نفسه الشهوانية فاتخذ من الثقافة مطية إلى قصر الحاكم ومن ثقافته وعلمه تسابيح يرددها على مسامع البلاط آناء الليل وأطراف النهار لعله يرضى ، فيملأ الحاكم فمه ذهبا وصدره نياشين ، ويدعوه إلى الولائم لأنه رمز الثقافة في البلد .
ويستثنى من ذلك كله القليل القليل الذي عاش فكرة أبي حيان عقلا ووجدانا وكان صرخة مدوية في ضمير الزمان وموقفا أبيا في لحظات التاريخ الحاسمة .
وفي قصيدة عبد الوهاب البياتي " مهرج الملك" صورة فنية للمثقف من الطراز الثالث وهو المثقف الذي غلبته نفسه الشهوانية فاتخذ العلم مطية لإشباع الغرائز يقول البياتي عن هذا الطراز من المثقفين :
يداعب الأوتاريمشي فوق حد السيف والدخانيرقص فوق الحبلينثني مغنيا سكرانيقلد السعدانيركب فوق متنه الأطفال في البستانيخرج للشمس إذا مدت اليه يدها اللسانيكلم النجوم والأمواتينام في الساحات
فهي صورة لمثقف درويش يكلم النجوم والأموات و ينام في الساحات – أو صورة لمثقف بهلوان يجيد تلفيق الكلام وإجادة الرياء ودلالتها هنا قول البياتي :
يمشي فوق حد السيف والدخانيرقص فوق الحبل يأكل الزجاج .
وهي في النهاية صورة هزلية لمثقف مستعد لكل شىء حاضر لإجادة كل شيء في سبيل مرضاة الحاكم وبطانته:
يركب فوق متنه الأطفال في البستان
وهو في النهاية مصاب بالعته وبالبله مهما نال من مرضاة الحاكم ومهما أعطته الدنيا من متاع ورياش ومهما وصل إليه من دوي زائف أو شهرة كفقاقيع الصابون، وهل أشد من بلهه إخراجه اللسان للشمس وهي رمز الحرية والنور والعطاء ؟
يخرج للشمس إذا مدت إليه يدها اللسان
وهذا النوع من المثقفين هو الذي أشار اليه الشاعر اللبناني الكبير خليل خاوي ، وتقريبا تأتي الدلالات متطابقة فنيا وفكريا مع دلالات نص " مهرج الملك" للبياتي
يقول خليل حاوي :
أراك تستحيل لساحر يموه الأشياء في العيونمهرج حزيــنفي مسرح الغجريروض الأفعى ويمشي حافيايمشي على الجمر ، على الإبـريعجن في أسنانه الزجاج والحجر يضم في كفيه وهج الشمس والظلالينسج منها هالة وشالحورية تهبط من أكمامه الطوال
فهي صورة اختلط فيها الهزل بالجد والضحك بالبكاء إنه مثقف في شكل فقيه مستعد لإخراج فتاوى ترضي الحاكم أوخطيب مقوال أو شاعر بليغ دبج القصائد وأبدع الأمثال لتخرج آية الزمان ، إنها القدرة على التمويه كما يقول خليل حاوي ، والقدرة على تجاوز وخز الضمير وعذاب النفس :
يمشي على الجمر على الإبر
وما أكثر ماخدعنا في حياتنا الثقافية بهذا النوع من المثقفين الذين زادوا في سبات الأمة ومدوا في عمر جبروت الحاكم ، وفي ردة الجماهير إلى حياة الكهوف واجترار الماضي .
وأما الصورة الثانية للمثقف فهي صورة مثقف أكاديمي تخرج من جامعات الشرق أو الغرب وتخصص في حقل من حقول المعرفة ، اتخذ من شهادته العليا مصدر استرزاق ولذا فلا علاقة له بالخارج –خارج الحرم الجامعي – وهو أشبه مايكون بعراف البراري كلامه طلاسم ومصطلحات ، وزادته الشهادة وربما الحياة الرغيدة التي عاشها في الغرب عقدة نفسية تستلزم محللا نفسيا إنها عقدة الاستعلاء والنظر إلى الناس من قمة جبل الأولمب أو من البرج العاجي – وأعتذر لأستاذنا الكبير توفيق الحكيم في رقدته الأبدية عن استخدام هذه الكلمة – البرج العاجي- فالحكيم لم يطلق الزمان والمكان وهو صاحب عودة الروح ويوميات نائب في الأرياف وعودة الوعي …إلخ .
إنما أستاذنا الجامعي لم يعرف بمساهمة علمية تنير البصائر ولاعمل يزلزل به العقول والقلوب ولا رفض يدوي به في سمع الزمان وضميره، ويتعلل لذلك بحمق الناس وغباء الشعب واستبداد السلطان، وحاجة في النفس ماإن لها ثمن هي غريزة البقاء والاستمتاع بطيبات الحياة ومفاتن الدنيا وشعاره مع طلبته " بضاعتنا ترد إلينا " ولذا تحولت جامعاتنا إلى محاضن أو مداجن أو آلات رهيبة لتعليب المشاعر والأفكار ليكون المتخرج على المقاس في الخنوع وفي الولوع باللامعقول والجري وراء السراب ، أوقل ماقاله أحد مفكرينا ولايحضرنا اسمه عن الجامعات العربية إنها محتشدات ، وكان الأجدر أن تكون الجامعة بوصلة المجتمع باتجاه الرقي و المدنية ، وأن تؤثر في المجتمع . لكن المضحك- وكما يقول شاعرنا وشر البلية ما يضحك- أن المجتمع بغوغائه ودهمائه هو الذي يؤثر في الجامعة ويجعلها على مقاسه !
أما الصورة الثالثة فهي صورة المثقف الذي أصابه اليأس ودب الوهن في قلبه وسكن الخمول خلاياه فأصيب بخدر و اليأس على حد قول بعضهم راحة ، لاأثر للمغالبة في روحه ولاللكفاح في حياته، تسلل الخوف إلى وجدانه إلى درجة الفوبيا من التغيير والإنقلاب الجذري والوثبة الحضارية الخلاقة، ولهذا المثقف الطلائعي شكلا الرجعي مضمونا الساكن سكون الحجر صورة في قصيدة الظل والصليب لصلاح عبد الصبور ، وهي من أجمل قصائد الشعر الحديث ، لاتنتهي دلالاتها ولا مضامينها الفنية والفكرية إنها بورتريه الوجدان العربي:
وفي هذا المقام يحضرنا هذا المقطع وهو يرسم صورة لهذا النوع من المثقفين:
ملاحنا هوى إلى قاع السفين واستكان
وجاش بالبكاء بلا دمع بلا لسان
ملاحنا مات قبيل الموت حين ودع الأصحاب والأحباب والزمان والمكان
عادت إلى قمقمها حياته، وانكمشت أعضاؤه ومال ومد جسمه على خط الزوال.
فهذا الطليعي هوى إلى القاع دلالة على النكوص والردة والقاع دلالة على التردي في هاوية الماضي وغور التاريخ وهو لايملك حتى الدمع لأن الدمع رديف الوجدان وصنو الإنسانية وهو مجرد منهما وكذا اللسان رمز الفعل بالقول في تحريك مسار التاريخ وهو خلو منه.
لقد خرج من التاريخ حين أبى في صلف أو حمق أن يعيش عصره وتمدد على خط الزوال ، وعبد الصبور يبدع هنا إبداعا غير مسبوق في قوله " خط الزوال" فالمعلوم أن خط الزوال يمثل بداية السقوط والإنحدار والتردي ويواصل صلاح عبد الصبور رسم صورة هذا المثقف والقائد الطلائعي : ملاحنا أسلم سؤر الروح قبل أن نلامس الجبل
وطار قلبه من الوجلكان سليم الجسم ،دون جرح دون خدش دون دمحين هوت حبالنا بجسمه الضئيل نحو القاعولم يعش لينتصرولم يعش لينهزم
وفي هذا المقطع الأخير تأتي دلالة الجبل الموحية بالنهضة والصعود والرقي ، ولكن ملاحنا مات قبل معانقة الفعل الحضاري والوثبة التاريخية ولابد أن نشير إلى أن الملاح قال قبل هذا المقطع في اشارة إلى الجبل :
هذي جبال الملح والقصدير
وهو تمويه يوحي بالزهد في مغالبة الحياة ومعانقة أسرارها وترويضها والاستمتاع بطيبات الحضارة وتجد هذه المعاني كلها دلالتها في كلمتي " الملح " و "القصدير" وهما رمز التفاهة والقيمة البخسة .
لقد مات هذا القائد الطلائعي حتف الأنف من غير جراح ولا دماء ومن غير قراع ومغالبة خطوب الحياة ومن غير انهزام لأنه لم يصارع أصلا فهو الاستسلام للواقع الردىء والتكيف مع رداءته
والعيش في أحضانه بل وتزويق هذه الرداءة والادعاء بأنها أصالة ومدنية وتنخدع العامة بهذا القول مواصلة تمددها على خط الزوال .