في الثالث من شهر نوفمبرعام 1989 وصل أبي تلغراف من باريس مفاده أن والده قد توفي، وحيدا في غرفته رقم 21 بالفندق الكائن بـ10 شارع شان دوماس بالدائرة السابعة من باريس كان وقع الخبر علينا عظيما زلزل القلوب وأقض المضاجع واعتصر المآقي دموعا سخاما، وشاء القدر الذي كنا نأمل فيه الخير ونتوسم فيه العطف أن يجمعنا بجدي - نحن أحفاده – بعد أن حرمنا منه سنين طويلة يضاحكنا ويعابثنا ويقص علينا طرفا من سيرته وحياته في عاصمة النور، على عادة الأجداد في جمع الأحفاد حولهم يوجهون ويروون وعيون الأحفاد إليهم مشدودة كأنهم آلهةالإغريق .
سافر أبي إلى باريس في الغد لإحضار التابوت وقد استغرق ذلك أسبوعا واستدعى نفقات باهضة وفي يوم 12 نوفمبر كانت الجنازة رهيبة بمسقط رأسه وببلدتنا زمورة ناحية برج بوعريريــج إلى الشرق من الجزائر العاصمة ، حضر الناس من كل حدب وصوب فقد صار الرجل حكاية تروى وأسطورة تستوحى غاب عن بلده خمسا وخمسين عاما واستقر في باريس عاملا بشركة " سيمكـا" لصناعة السيارات ، ترك الجزائر عام 1937 وإلى عام 1963 لم يزرها غير مرتين إحداهما بسبب الحرب العالمية الثانية وسقوط باريس والثانية ليتزوج ، بعد أن طلق زوجته الأولى – أم والدي – ولكن زواجه باء بالفشل وعاد إلى باريس يرضى من الغنيمة بالإياب وكانت تلك آخـر مرة زار فيها الجزائر وأقام قليلا بمسقط رأسه زمورة ومن عام 1963 إلى تاريخ وفاته عام 1989 عاش في عزلة تامة بالدائرة السابعة – لايزور ولايزار – ولسان حاله يقول مع المعري : وزهدني في الخلق معرفتي بـهم لعلمي بأن العالمين هبــــاء
مات بسكتة قلبية واكتشفت جثته يوم 3 نوفمبر وأكد الأطباء بعد تشريح الجثة أن وفاته كانت يوم الفاتح من نوفمبر ولأنه يعيش وحيدا لم يكتشف أمره ، لولا أن تفطنت السيدة غارسيا روز لغيابه وهي سيدة إسبانية تعيش مع زوجها وأمها وولديها في نفس الفندق وترعى شؤونه وكانت تكن لجدي محبة وتقديرا فأخطرت سلطات الدائرة السابعة ليجدوا الرجل جثة هامدة . ولد جدي بزمورة وهي بلدة صغيرة تقع إلى الشمال من برج بوعريريج ( ولاية من ولايات شرق الجزائر) عام 1915 في ظروف تذيب الحجر الصلد وتصيب الإنسان باليأس كان البلد واقعا تحت الاحتلال الفرنسي ورحم الاحتلال لا تنسل إلا ثلاثة أبناء شرعيين الفقر والمرض والجهل فحبل البلد السري كان موصولا بالعدمية و العبثية والعماء وإذ تفشت البطالة ولاقى الناس العنت و أصابتهم سنون كسني يوسف أذابت اللحم والعظم معا كان لابد أن يهاجر من كل أسرة فرد للعمل في فرنسا في مصانع الفحم أو السيارات وما شئت من الأشغال الشاقة التي يعافها الفرنسيون ولو كانت تدر ذهبا ، لإعالة الأسرة وهذا هو السبب الذي جعل الجالية الجزائرية في فرنسا أكبر جالية ، إنها تكونت أساسا من الطبقة العاملة الكادحة ، وكان جدي واحدا منهم عمل بدون كلل أو ملل حتى أحيل على المعاش وكان مثلا للصرامة والإخلاص والتفاني في العمل كان بينه وبين عمله عشق أشبه بالوجد الصوفي ولقد كرمته إدارة المصنع يوم أحيل على المعاش بشهادة وميدالية نقش عليها اسمه وكان مما قيل في تقديره " إنه العامل الذي لم يغب يوما واحدا عن عمله ولم يتأخر عن الإلتحاق بالمعمل خمس دقائق . كان جدي – رحمه الله – سريع البديهة وأذكر هنا نادرة تدل على سرعة بديهته وهي واقعة تشبه ما وقع للأستاذ مالك بن نبي- رحمه الله – فقد كان يومها طالبا ودخل مطعما باريسيا لتناول الغداء ولما كان وحده على المائدة حن إلى الأكل مع أهله في قسنطينة وإلى تقاليدهم في تناول الطعام فشرع يأكل بيديه ، ولاحظته سيدة فرنسية كانت مع ضيوفها على المائدة المجاورة فأرادت إحراجه والتنكيت عليه :
سيدي من يراك تأكل بيديك في عصر صنعت فيه الشوكة والملعقة يقول إنك رجل بدائي خرجت للتو من الكهف .
فرد عليها الأستاذ مالك على الفور:
أعتقد ياسيدتي أن الملعقة والشوكة صنعتا لمن يده قذرة أما أنا فيدي جد نظيفة آكل بها مباشرة . أما جدي فتكريمه يوم أحيل على المعاش أغاظ أحد الفرنسيين فأراد السخرية منه فطلب من جدي أمام جمع من الفرنسيين أن يقدرعمره ، هنا فتح جدي فم ذلك الفرنسي لملاحظة أسنانه و أضراسه وقال له أن عمرك كذا … ثم علق : هذا ياسيدي ما نفعله مع المواشي في بلدنا .
عاش جدي في باريس خمسا وخمسين عاما كادحا في النهار وقارئا في الليل لم تكن باريس عنده حانات وملاهي وأماكن الروليت ، إختارحيا أنيقا هادئا من الدائرةالسابعة شارع شان دوماس بين الأنفاليد والمدرسة العسكرية وبرج إيفل ، كان لايحب الهذر و لا يفتح قلبه لكل إنسان ، صعب المراس ، قوي الشكيمة ، صادق القول و الوعد يتحاشى مخالطة الناس لأن فيهم الأثر والوغد والأفاك والجاهل ولسان حاله يقول :
وقد يخطىء الإنسان ظـن عشيره
وإن راق منـــه منظـــــــــر ورواء
حينما زرت باريس عام 1989 بعد شهرين من وفاة جدي وذهبت إلى الفندق الذي أقام به جدي ، وبقيت في نفس الحجرة رقم 21 التي أقام بها شهرا كاملا قالت لي السيدة غارسيا روز :
لا أقول إني أحببت جدك فقط وإنما عبدته ، فهو مختلف جدا عن كل العرب الموجودين هنا في باريس . كان يعمل في مصنع السيارات ولم يشتر سيارة على الرغم من التخفيضات التي تقدم لأمثاله ، فالسيارة عنده ليست مقياسا للحضارة ، ولم يكن يكلمنا بالهاتف لأنه في كثير من الاحيان وجد للغو الكلام فالرسالة هي الرسول بيننا ، ولم يكن يمتلك جهاز تلفزيون لأن وقته قبل النوم مخصص للقراءة واكتفى بمذياع للإستماع لأخبار الدنيا . وكان- رحمه الله- ينظر إلى الدنيا بعين الريبة فهي كما قال الخيام :
على نطع هذا الكون قد لعبت بنا
وعدنا لصندوق الفنا بالتعــــــاقب
ولذا كان كريما سخيا ما قصـده صاحب حاجة من البلد – وما أكثرهم – إلا حقق حاجته بلا حساب وكثير منهم – سامحهم الله – كانوا يستغلونه وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . كانت فلسفته في المال قول الفرنسيين : " المال خادم مطيع وسيد شرير " . ظل طول عمره أنيقا مهندما ، وكان شديد التدين يحرص على أداء الصلوات في أوقاتها ويقصد مسجد باريس لأداء صلاة الجمعة والأعياد وتدينه هذا سبب لي مرة معه مشكلة:
فقد كتبت إليه رسالة بدون بسملة ، وإذا بالرد يكون عنيفا والتقريع قاسيا واللوم جارحا وقد اعتبرها نقيصة بل مثلبة أن أنسى البسملة.
كان جدي عاملا بسيطا ولكنه كان قارئانهما يغشى مكتبات باريس ويقتني الكتب الغالية الثمن دون أن يحسب للمال كما يحسب له غيره حينما يكد سونه للتباهي والغطرسة أو شراء المتاع فوق الحاجة ومن الكتب التي اشتراها وقرأها وأرسلها إلينا متحملا مصاريف الإرسال: الأغاني والعقد الفريد وتاريخ ابن خلدون ، وحياة الصحابة وأدب الكاتب وسير الخلفاء الراشدين وتفاسير كثيرة للقرآن الكريم وصحيح البخاري ومسلم وتاريخ ابن الأثير. وكثير جدا من المؤلفات القيمة وفي كل كتاب تجد تعليقا له بخط يده أو هذه العبارة "قف فائدة عظيمة" إذا تعلق الأمر بمعنى جليل أو قول سديد يريدنا التركيز عليه واستعابه .في صيف عام 2003 زرت باريس لأكثر من ستة أسابيع باحثا في مكتباتها وزائرا عاشقا لمتاحفها ومتعبدا في مغانيها ومحاريبها الفنية والثقافية وتلفتت عيني إلى الدائرة السابعة فتلفت القلب كما يقول شاعرنا الشريف الرضي. وأسلمت القياد لخطواتي تقودني إلى شارع شان دو مارس والقلب خفاق والكبد حرى والنفس حسيرة والدمعة حبيسة ، وقفت أمام دار الحبيب لا كما يقف شعراؤنا على الأطلال ، ففي باريس لا توجد أطلال بل تجديد وإعادة بناء وتصميم حتى لتخال أنك أخطأت العنوان جلست على قارعة الطريق- ولا أحد يبالي بي- وكتبت أسطرا أعود إليها الآن ، دونتها في مذكراتي الباريسية هكذا:
" اليوم الإثنين 11 أوت 2003 وفي هذا المساء الحار عدت إلى الدائرة السابعة إلى شارع شان دومارس حيث عاش جدي عشرات السنين وحيث قضى في الفندق المواجه لي والذي صار اسمه يبدو لي أنه تغير عن التسعينات حيث أقمت شهرا هنا، فكثير من المحلات تغيرت ، وإني أنظر في كل اتجاه وأتخيل جدي داخلا إلى هنا أو خارجا من هناك ….إلخ وأرفع رأسي صوب الحجرة التي شغلها رقم 21 تأخذني رعدة كلما زرت هذا الحي ، وكأني أسعى إلى حرم مقدس، ،كم يعز علي هذا المكان وأشعر أنه لي من دون الناس وأنهم غرباء يندسون في متاهات مخيلتي وسراديب روحي ولكم قسا علي الزمن وآلمني منه هذا الظلم حين حرمني من رؤية جدي وسماع صوته ورؤية طلعته، لهو الحزن العميق والإبحار في أوقيانوس الكآبة . مرارتك يازمن حنظل في فمي ، لا تفارقني إلا حين أفارق الحياة.
وأنت ياجدي ماأقسى فعلك ! وما أشد جرمك ! حين حرمتنا من دقائق في حضرتك ظعنت لتستفيد جديدا وضيعت القديم المستفادا وأنت ياباريس تختصرين الوجود وأنت مثله :مثلما تعطين تسلبين،وها قد سلبت جدي منا ذللت له الطريق إلى النسيان حتى احتوته هاوية العدم.
لئن آب إلى السماوات العلى نافضا يديه من وخز الضمير، ومرارة الغربة ، ووحشة الأهل، وتصاريف الحياة، ولئن يشفع له تدين خالص ، وتعفف أسطوري وكبرياء هرقلي، فقد انتهى "سيزيف" من دفع الصخرة ، ارتدت عليه وألقته في سفح الوجود ثم دفعته إلى الظلمة الأولى ، وها أنذا مازلت أدفع الصخرة كما دفعتها يا جدي بقلب متقطع، وكبد حرى مقل من متاع الدنيا .
نم ياجدي هناك في زمورة التي هجرتها ستا وعشرين عاما بعد أن قضيت هنا أكثر من خمسين عاما إلى جوار أبيك وأكرم به من جوار !
واترك لي معضلة الوجود وتصاريف الحياة وألم الصقر الذي تعاف نفسه الجيف. لك في قلبي الخلود وفي نفسي الشوق وفي ضميري الوفاء الصادق. باريس شارع شان دومارس أغسطس 2003