لست أدري ماذا أقول عن باريس وماذا يمكن أن يضيف قولي إلى هذه المدينة العظيمة وقد كتب عنها رواد الفكر والرحلة العرب آلاف المقالات ومئات الكتب منذ كتاب الطهطاوي المثير “تخليص الإبريز من تاريخ باريز “ووصولا إلي أديب طه حسين وأيامه وعصفور من الشرق للحكيم والدنيا في باريس لتيمور ورحلة الشرق والغرب للويس عوض والإنسان الأروبي في الجد واللعب لعبد الستار طويلة وكتابات غادة السمان وإحسان عبد القدوس وأنيس منصور وغيرها من الكتب القيمة ،
فباريس من أكثر المدن العالمية التي استأثرت بقلوب المفكرين العرب وعقولهم وهي جديرة بذلك فهي مدينة الحرية والحب والاندفاع والفن والفكر، إنها المدينة التي تجمع العالم بين شوارعها وفي متاحفها ودور الفن والثقافة والأزياء فيها،وهي القلب الذي يضخ الفن والثقافة والمودة والتحرر إلى ربوع الدنيا،فباريس كما يقول أنيس منصور كالمرآة تعكس ما بنفسك وترى فيها صورة مما في روحك وفكرك، يجد الزاهد زوايا يتأمل العالم فيها ،وأناسا يقاسمهم وجهة نظرهم،كما يجد فيها المتشرد وتحت جسورها ملاذا وجماعة بشرية ترى في التشرد أسلوب حياة وعقيدة،والمعربد ما يصطخب فيه من تعتعة وملاح وموسيقى صاخبة ، وعاشق الفن عوالم من الفن سواء كان في الكلمة أوفي اللون أو في الشكل أو في الإيقاع، وعاشق المودة ألوانا من اللباس والعطر ما يجعله فاغرا فاه من مذاهب اللباس وأنماط الحرية،وتهتف في أعماق نفسك هنا الحرية والناس قد خلقوا ليعيشوا في مكان كهذا!
مرة في إحدى زياراتي إلى باريس في الربيع كانت العاصمة الفرنسية تترقب نتائج الانتخابات الرئاسية وكان التنافس حادا بين شيراك الديغولي ولوبان اليميني المتطرف وحدثت المفاجأة لوبان يصعد إلى الدور الثاني، وتذمر اليسار وكان ذلك مؤشرا على تصاعد موجة الكراهية للأجانب والشباب الغاضب يثور ويحطم ويحرق السيارات والشوارع تطوق من قبل الشرطة والقنابل المسيلة للدموع تملأ الزوايا فيكاد يستعصي عليك التنفس والألوان من السباب تسمعها من أفواه الغاضبين في جناب اليمين المتطرف ونحن نتيه من شارع إلى شارع نبحث عن مخرج آمن ويستعصي علينا ذلك.
فباريس ثائرة ومن العجب أن شابا لم يجد من وسيلة لإظهار تذمره بل سخطه على نتائج الانتخابات وعلى سقوط فرنسا بحسب اعتقاده سوى الطواف عاريا –كما ولدته أمه-
يرشق البوليس بالحجارة وبذئ الكلام ،والغريب أن ذلك كان بين فتيات لم يأبهن لمنظره هذا ، بقدر انشغالهن بالنضال ضد التطرف والكراهية!
والفرنسيون من أهم شعوب العالم ولعا بالسياسة إضافة إلى ولعهم بالكلاب والقطط وسياسيوها من أكثر السياسيين الذين يجيدون الكلام فيها وإدارة دفة الحوار لصالحهم .
واللغة الفرنسية حلوة سائغة بطعم الفراولة – إنها لغة الصالونات الأدبية- ثم الحركات التي يجيدونها وحتى ملامح الوجه المعبرة كل هذه العوامل تشد انتباه المتابع لخطبهم وتسحره وكان الجنرال ديغول من أكثر قادة فرنسا إجادة لذلك وهو من أعظم رجالات فرنسا ، سقطت باريس فأبى أن يستسلم وهرب إلى لندن وأسس “فرنسا الحرة “وهي غير حكومة فيشي الموالية للمحور ولم يكن يظهر مع قادة الحلفاء في اجتماعاتهم: تشرشل وستالين وروزفلت فبلده محتل وهم يستصغرونه ولكنه تحرر وأدرك الجنرال أن قوة فرنسا العلمية والحضارية والتاريخية لا تكفيها لتكون ندا للكبار فامتلاك السلاح الذري شرط أساسي لدخول النادي واستطاعت فرنسا بعد ذلك امتلاك هذا السلاح ودخول نادي الأقوياء .
والرئيس ميتران من أكبر قادة فرنسا التاريخيين وقد زاد في إشعاع باريس الثقافي فما عرفه اللوفر من تحديث يعزى إليه وقرار إنشاء أكبر مكتبة في أروبا على ضفاف السين قد زاد من عطاء المدينة الثقافي، ولقد ترددت عليها مرات ومرات قارئا ومستمتعا بالجو الثقافي فيها ولقد كان ميتران من أكثر رؤساء العالم قراءة يخرج من الإليزيه ويتوجه إلى صاحب مكتبة معروف ليقتني كتبا ويطلب أخرى ويحرص وهو رئيس على أداء طقوس القراءة هذه دون مساعدة من أحد!
مدينة يشعر العالم أجمع أن له قطعة فيها من الشعور والفكر والانتماء، وفي أمريكا يقولون زر باريس ومت، ويشبهون بوسطن بباريس والكنديون يشبهون مونتريال بباريس وكبار رجال الأدب الأمريكيون يعيشون ردحا من الزمن فيها فهي تلهم وتعلم ،والحياة فيها ولو لسنة مطلب الأدباء وقد فعل ذلك صموؤيل بيكت الإيرلندي وعزرا باوند وإرنست هيمنغواي الأمريكيين وغيرهم .
وحتى الشرق الأقصى يأخذ نصيبه من حب هذه المدينة – التي لا تشبهها مدينة أخرى-والحلم بالعيش فيها ولو لفترة وجيزة ذلك أن الشرق الأقصى واجد في مدينة النور والبلور من الضياء والشفافية مالا يجده في غيرها فباريس عبر ثورتها الفرنسية أعطت للعالم دستورا خالدا للحرية والكرامة الإنسانية، وهي عبر جامعاتها ومتاحفها وهندستها المعمارية وأحياء الفن والثقافة ودور السينما والتمثيل تواصل نشر رسالة التمدن والرقي الإنسانيين.
وقد زرتها مرات ومرات في جميع فصول السنة وفي كل مرة أكتشف شيئا لم أطلع عليه في المرة السابقة وأرى جديدا،في كل شيء ولو قدر لك أن تزورها مئات المرات سترى الجديد في كل مرة إنها لا تكف عن الإبداع والتجديد مع الحفاظ على الأصول العامة والخصائص الخالدة فيها.
باريس كتاب مفتوح تقرأ كل يوم فيه ما يعمق فيك الإحساس بإنسانيتك وعظمتك كإنسان وأسبقيتك على كل الكائنات،إنها امرأة فاتنة في شرخ الشباب تملأ قلبك حبا وتهياما، لا تكف عن إغرائك وتفجير كوامن عشق الحياة الخبيئة في أغوار نفسك،
وقد زرت باريس أول مرة في شتاء بارد في أواخر الثمانينات وحضرت احتفالات رأس السنة.ورأيت كيف يعشق الناس الحياة ويحرصون على الاستمتاع بها وكيف يعدون لتلك الليلة ألوانا من لطعام والشراب وألوانا من المرح إلى الصباح تفاؤلا بمقدم عام جديد يصيبون فيه حظا من النجاح والسعادة أكثر والصحة.
حين نزلت أول مرة برفقة والدي- وكنت دون العشرين- في ميدان الأنفاليد ورأيت الجسور العظيمة والتماثيل المذهبة والسين الخالد يشطر المدينة إلى شطرين وميدان الكونكورد الخالد بشساعته والتماتثيل العملاقة في صورة امرأة كل تمثال يمثل مدينة فرنسية ففي هذا المكان أعدم لويس السادس عشر مع زوجته ماري أنطوانيت ولفيف من القساوسة ذلك أن شعار الثورة الفرنسية كان “اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس “، لقد تحالف الإقطاع الديني والسياسي على البلد المغلوب على أمره وكان نصيب الشعب الفاقة والجهل والتخلف ونهض مفكرو فرنسا يهيبون بالشعب أن يثور ويحطم الأغلال ويسحق النير بدءا من روسو القائل” خلق الناس ليعيشوا أحرارا” وفولتير القائل “لا أقتنع بما تقول لكن سأدافع عن حقك في أن تقول” و”حرية أصابعك تنتهي عند عيون الآخرين ” إلى ميرابو خطيب الثورة الفرنسية واستجاب الشعب وحاصر سجن الباستيل وأطلق سراح المساجين من أحرار الفكر .
كانت تلك الثورة الفرنسية التي أحدثت في التاريخ البشري ما أحدثته النظرية الكوبرنيكية في العلم : الإنسان قطب الرحى ودرة الوجود سواء أكان فلاحا أو سياسيا أو نبيلا تماما كما هي الشمس في النظرية الكوبرنيكية ومن فرنسا أخذ العالم بذرة الحق ،وتقدير الفرنسيين للمرأة كبير حتى أنها في شعار بلدهم والرموز المجسدة للمدن في الكونكورد نسوية.
قلت في نفسي هذا الجمال حقيق بأن يفتن العالم.
انتابتني أحاسيس شتى وتذكرت للتو ما قرأته من عن هذه المدينة من أعمال رواد الفكر والأدب وتذكرت ثورتها العظيمة وسجن الباستيل وغمرني شعور بالرضا أنني رأيت هذه المدينة وكانت حلما يراود نفسي .
أقمت في باريس مع والدي في هذه المرة في الدائرة السابعة في حي أنيق هو الشاعرية والجمال والسكينة شارع شان دو مارس قريبا من برج إيفل والمدرسة العسكرية ولأن والدي كفاني مؤونة العيش فقد قررت أن أهيم على وجهي في ربوعها ولا أترك فترا لا تطؤه قدمي!
وكنت أعرفها قبل أن أزورها عرفتها من مما قرأته عنا مونمارتر والحي اللاتيني ومونبرناس وبيجال والسوربون واللوفر ودار الاوبرا والسين والمكتبة الوطنية ومدينة العلوم وغابة بولونيا وغابة فانسن وغيرها.
على أنني سأتحدث عن باريس كما رأيتها خلال زياراتي وعن انطباعاتي وسياحتي في مغانيها وربوعها الفنية والتاريخية دون أشير إلى التاريخ.
وباريس في الشتاء لذيذة بطعم الجبن الفرنسي أو الشمبانيا، السين يكتسي لونه الشتوي من تأثير السماء الرمادية والمقاهي الأنيقة تجمع شمل الأحبة على كؤوس الجعة والنوافذ تكسوها طبقة من البخار فلا تكاد ترى من بداخلها.
ومن لايزور باريس ولا يتهافت على رؤية كاتدرائية نوتردام بعد أن قرأ رواية هوغو “أحدب نوتردام “وهي في غمرة السين في “جزيرة فرنسا ” - حيث قصرآل بوربون الأسرة الشهيرة في التاريخ الفكري لفرنسا- بهندستها البديعة وعبق القرون الوسطى بين جنباتها وأنت تشم رائحة الشمع وتصطدم أذنك بعزف الأكورديون والقس يتلو صلواته والقوم في سياحة روحية . هناك تتذكر الأسمرالدا وترفع رأسك عاليا حيث أجراس الكنيسة أين اختبأ كواسيمودو في الرواية الخالدة.
والحي اللاتيني شهير فهو قلب باريس الثقافي وفي العصور الوسطى كان الطلبة يتحدثون باللاتينية لأن اللغة اللاتينية في أروبا كانت لغة العلوم والفكر وما اللغات الأروبية إلا لهجات شعبية وفي الحي اللاتيني السوربون أشهر جامعة في العالم التي أسسها روبير دو سوربون عام 1257لتعليم اللاهوت ولكنها اشتهرت بالآداب والفلسفة وتخرج منها لفيف من الأدباء العرب أشهرهم الدكتور طه حسين الذي كان أول مثقف عربي يحمل لقب دكتور ، والمكتبات عامرة بالكتب في شارع سان ميشيل الذي شهد الثورة الطلابية في أواخر الستينات التي أطاحت بالجنرال ديغول وشارع سان جرمان حيث انتشرت الوجودية بين الشباب في الستينات وكانت الكهوف مجمعا للشباب الوجودي يمارس طقوسه وفي شارع سان جرمان مقهى فلور التي كان سارتر يتردد عليها رفقة سيمون دي بوفوار وألبير كامي ولفيف من الوجوديين وحين دخلت إلى المقهى وسألت النادل عن مكان سارتر أشار إلى ركن حيث تقبع في ركن طاولة محاطة بالكراسي لا يجلس عليها أحد وفي الجدار صورة لنفس المائدة لسارتر وصحبه فهو كاتب كبير في فرنسا حتى أن ديغول لم يقدر على إدخاله السجن حين كان سارتر يشوش على الحكومة ويحتج على حرب فرنسا في شمال إفريقيا فقال الجنرال كلمته الشهيرة “لا أستطيع أن أضع فرنسا في السجن“،وحديقة اللوكسمبورغ من أجمل حدائق العالم ينشد فيها المتأملون والقراء والعشاق السكينة والجمال فيصيبون منهما حظا عظيما،ولا تدخل الحديقة إلا تذكرت جان فلجان وكوزيت في رواية البؤساء لهوغو حين كان يتردد عليها نشدانا لبعض الراحة والجمال.
وفي الحي اللاتيني البانثيون وهو مدفن العظماء من رجال الفكر والتاريخ تدفع فرنكات قليلة وتسير في هذا البناء الشامخ المكلل بجلال التاريخ حيث يرقد عظماء فرنسا على أن الركن المخصص لمفكري فرنسا العظيمين روسو وفولتير تركا في انطباعا كبيرا يتقابل المرقدان وأنا أتنقل بينهما استعدت طرفا من أحداث التاريخ روسو المفكر الإنساني صاحب الاعترافات والعقد الاجتماعي وإميل والذي كان له أكبر الأثر في الثورة الفرنسية وفولتير المفكر الحر والكاتب الكبير الذي هز عرش الكهنوت ،ما أصدقه من جوار !ولا يمكن لمن يدخل البانثيون ألا يزور قبر هوغو زعيم الرومنطيقية الفرنسية والقائل :(يجب علينا أن نخلص الشعر من مواضيع غريبة عنا مأخوذة من عصور غير عصورنا ) وهو يشير إلى الثورة على تقليد الآداب اللاتينية ولا زلت أذكر أنني حين وقفت على قبره رأيت وردة حمراء من زائر وكلمات مؤثرة. وفي هذا المدفن يرقد زولا أيضا وماري كوري العالمة البولندية الأصل التي قدمت إلى باريس للدراسة وتزوجت أستاذها بيير كوري وتعبت كثيرا في تحضير الراديوم ونالت جائزة نوبل للكيمياء عام 1911 وماتت بسبب الراديوم.
وللعلم في باريس جامعاته المتخصصة وله متحفه وقريبا من الشانزليزيه متحف الاكتشاف وهو متحف لتاريخ العلم وتطوره وشرح مجسم لنظريات علمية كبرى معقدة في البيولوجيا والفلك والطبيعة والزائر يخرج بفهم دقيق لكثير من الظواهر الطبيعية وإلحاح الناس على طلب المعرفة لا حدود له بعكسنا نحن تماما فمتاحفنا لا يزورها أحد واهتمامنا بالعلوم يكاد يكون معدوما مع أن في تاريخنا مآثر رائعة فأسلافنا طلبوا العلم وجدوا في ذلك والخليفة هارون الرشيد أسس بيت الحكمة وكان يعطي وزن الكتاب المترجم ذهبا وواصل ولده المأمون سيرة أبيه لكننا تراجعنا واستغرقنا في سبات كبير وكادت أن تأخذنا صحوة مع الطهطاوي وطه حسين وزكي نجيب محمود ،الاستعمار الغربي حارب فينا كل نشاط ودأب للتقدم والاستبداد السياسي قضى على البقية الباقية فينا وابتدعنا ملة جديدة معادية للحداثة والعصرنة والتقدم ولعل السلفية شكل من أشكال الرجعية وفهمنا الخاطئ للدين حول الدين إلى نقمة فاهتممنا بالشكل على حساب المضمون وبالمظهر على حساب الجوهر وبالرماد على حساب النار ولعل مشكلة الحرية هي بيت القصيد في تخلفنا ،الحرية الشاملة للإنسان رجلا كان أو امرأة بغير ندم مع الاضطلاع بالمسؤولية والتخلص من هيمنة الماضي الذي يجثم كالجبل الجليدي على أنفاسنا فيسحق وجودنا.
ما فات من مراحل التاريخ قد ولى وإحياؤه ضرب من العبث والجنون وأعود إلى هذا المتحف متحف الاكتشاف فقسم الفلك فيه رائع تستطيع من خلال مجسمات أن تفهم كثيرا من الظواهر المحيرة كالكسوف ومباكرة الاعتدالين والحركة التقهقرية للكواكب ويلفت نظرك قطعة من صخور القمر أهداها الرئيس الأمريكي نيكسون لفرنسا محفوظة في صندوق زجاجي شفاف.
ولم تكتف فرنسا بذلك بل أنجزت متحفا عظيما جمع بين الأصالة الفرنسية والمعاصرة هو حي العلوم في ضواحي باريس وهو مدينة سياحية وعلمية عظيمة ولعل أهم ما يميزه أنك ترى مخترعات فرنسية حتى الغواصة جلبوها إلى هناك والسينما الثلاثية الأبعاد حاضرة هناك منذ أمد بعيد.
وحكاية تعظيم أساطين الفكر وأرباب القلم عقيدة متأصلة في أهل باريس فيحدث أن تمر في شارع وترفع رأسك فتقرأ على لوح مثبت في بناية هنا عاش فولتير من… إلى… ويمتد هذا إلى كبار رجال القلم من العالم ففي الدائرة الخامسة لوح مثبت يشير إلى المكان الذي عاش فيه إرنست همنغواي وهلم جرا.
وتعظيم الفرنسيين لهيغو لا جدال فيه ففي حي لو ماري في البلاص دي فوج حيث البناء المتميز بطراز العصور الوسطى والأقواس هي السمة المميزة فيه بيت هوغو الذي صار متحفا وأنت تجول فيه ترى بعينك غرفه والوسائل التي كان يستعملها والقلم الذي كان يكتب به ونموذج من كتاباته على أن ما تعلق بابنته الغريقة ليوبولدين والتي رثاها أحر رثاء يبعث في النفس الشجن،بعض قصائده المخطوطة وحتى القفاز الذي كانت ترتديه .
كان هوغو شيخا وحيدا تؤنس وحدته ليوبولدين المتزوجة ولكنها قضت غرقا فتفجرت نفس الشاعر حزنا يقطع نياط القلب ويقر ذلك الحزن في ما ترك من أشعار.
ومترو الأنفاق مجمع ثقافة وترفيه وتأمل فضلا عن كونه وسيلة تنقل ،لا يمكنك أن تسمع ضجيجا فيه، الناس صامتون بعضهم مستغرق في قراءته وآخر غارق في تأملاته والآخر يناجي حبيبته ويمطرها قبلات- دون أن يهتم به أحد،فكلهم مر على هذه المرحلة وكلهم في الهم شرق - والعربة تفوح بالعطر الفرنسي الراقي خاصة من السيدات ومن حين لآخر تصعد فرقة موسيقية تعزف أو شاب بقيثارته والركاب بعضهم ينفحه بالنقود، وفي آخر الليل حيث تكون العربات شبه خالية إلا من رواد الحانات وقد فرغت جيوبهم وتعتعهم السكر يصعد أحدهم إلى العربية ويلقي بجسده المكدود على الأرضية وربما استغرق في نوم عميق ولا يجرؤ أحد على إقلاقه في رقدته الطويلة!
وأنت في باريس لا يمكنك أن تغفل زيارة متحف الأنفاليد وأنت ترى قبته المذهبة ترتفع عاليا فتصير معلما في توجيه السياح وفي الأنفاليد يرقد نابليون رقدته الأبدية وتستطيع أن تشرف على قبره من عل تحت القبة وترى الفخامة التي تحف به في مرقده الفخم ذاك وتطوف أجنحة المتحف لتتفقد أشياء ه الخاصة: السرير الذي كان ينام عليه ومنشفته والروب دو شامبر وقد شاع عن القائد أنه كان لا ينام سوى أربع ساعات في اليوم وقد دوخ أروبا فاجتمعت علية وجهزت جيشا عرمرما وهزمته في معركة واترلو عام 1815ونفي بعد ذلك إلى جزيرة سانت هيلانة حيث قضى نحبه، وترى العجب في هذا المتحف كل ما تعلق بشؤون الحربية وحتى الملابس والتماثيل المجسدة للقياد وهم من الأهالي المتعاونين مع فرنسا في شمال إفريقيا وتماثيل لأحصنتهم تصطف هناك ومدافع كثيرة.
وزيارتي إلى باريس في آخر مرة بعد توحيد أروبا ودخول العملة الأروبية مجال التداول أشعرتني بالفرق بين السنين فالمعيشة غالية والناس تتذمر من ارتفاع الأسعار ويكثر الشحاذون وترى ذلك حتى في أجمل شارع في العالم الشانزليزيه وهو شارع الأناقة والفخامة والمودة وشار الليدو حيث “الإستريبز” الرقص العاري ، وأمر الشحاذة في باريس يدعو إلى العجب ففي السنوات الأخيرة هرب الآلاف من الناس من بلدانهم التي طحنها الفقر أو طحنتها الحرب الأهلية في آسيا وإفريقيا جاؤوا طلبا للجوء وأبت السلطات الفرنسية تسوية وضعياتهم،يبيتون في العراء ومعهم نساؤهم وأطفالهم ويقتاتون مما تقدمه منظمات خيرية ككارتاس وإيماوس للأب آبي بيار وغيرها ويرفضون العودة إلى أوطانهم.
وباريس لها مشاكلها فالسرقة والسطو والإفراط في تناول الكحول أشياء مميزة ومما يؤسف له أن كثيرا من المنحرفين هناك هم من أبناء الجالية العربية خاصة من شمال إفريقيا ويبدو أن مشكلة الهوية وفقد الانتماء السبب وراء ذلك فعلى الرغم من كونهم فرنسيين يحتفظون بسمات عربية تميزهم مع الهوية الفرنسية لغة وعادات ونمط معيشة مع إحساس بالدونية وهذا الصراع اللاشعوري يفعل فعله في النفس فتميل الذات إلى الإحساس بالانفصام ومن ثمة الانحراف .
وباريس مدينة بلا شك في تنظيمها إلى البارون هوسمان الذي عهد إليه بتخطيط المدينة فقام بالمهمة أحسن القيام شق شارع القراند أرمي في الدائرة السادسة عشرة مقابل الشانزليزيه فضاهاه رحابة وامتدادا وأنت تشرف على الشارع من أعلى قوس النصر يأخذك العجب في ساحة النجمة فالشوارع منظمة في شكل نجمة وبه تسمى منطقة قوس النصر ساحة النجمة ،لقد بني قوس النصر لتمجيد انتصارات نابليون وفي داخل القوس شاشة تعرض على المشاهدين من السياح شيبا وشبانا ذكرانا وإناثا تاريخ القوس وباريس وسقوطها علي يد النازيين في جوان عام1940وتحريرها بعد ذلك .
أما برج إيفل فهو أعجوبة هندسية مئات الأطنان من الحديد الصلب ترتفع في شكل هندسي عجيب إلى ثلاثمائة وعشرين مترا صممها المهندس غوستاف إيفل وسط معارضة شديدة فقد وصفه المعارضون بالتشويه الجمالي لباريس العتيقة ولكنه صمد وأصبح أهم معلم سياحي لباريس وجماله يزيد في الليل حيث يظهر بلونه العسلي وفي مناسبات معينة يكون ميدانا للألعاب النارية التي تبهر الأبصار. وقصتي معه عجيبة فقد أقمت مرة غير بعيد عنه شهرا وكنت أتردد على المكان دائما بسبب نزهتي المسائية على ضفاف السين من كاتدرائية نوتردام إلى منتزهات شان دو مارس مرورا بشارع كيندي أرغب في الصعود ولو إلى الطابق الأول أو إلى الثاني أما أمر الطابق الثالث فلم أفكر فيه إطلاقا لأنني إذ كنت أحجم كنت أعاني من خوفين رهاب المناطق الواسعة( الأجورا فوبيا )ورهاب العلو (الأيروفوبيا) ، إلا أنني عالجت نفسي وتغلبت فيما بعد على خوفي حتى أبللت، ألقيت بنفسي في الأماكن الواسعة والارتفاعات الشاهقة ولم تعد عندي مشكلة وصعدت إلى أعلى برج إيفل إلى الطابق الثاني حيث مكتب البريد والكافيتيريا ثم إلى الطابق الثالث ورأيت باريس من ارتفاع شاهق وكان الذين في صحبتي قلة من السياح فكثيرون يخافون من هذا الارتفاع !
باريس مدينة فن وثقافة وتاريخ واللوفر شاهد وتلك القصور الفخمة حيث أقام ملوك فرنسا وحدائق التويلوري المنسقة تأخذ بالألباب واللوفر هو المكان الذي يجمع كنوز العالم وبدائع الحضارة وآيات الفن ،من الموناليزا إلى تمثال فنيس دانون إلى شريعة حمورابي وكنت أنتظر الآحاد من بدايات الشهور لأدخل بالمجان من التاسعة حتى السادسة مساء وأتناول غدائي هناك وأنا لا أكف عن النظر والتأمل والاستمتاع بمآثر العبقرية الإنسانية غير أن جناح الآثار المصرية ترك في نفسي أعمق الأثر فأنا عاشق لمصر القديمة أقف أمام بدائعها كما يقف الراهب في معبده بفكري ووجداني وروحي وفي اللوفر وقفت على كثير من تلك البدائع والحضارة المصرية القديمة حضارة الكمال والجمال فالمصريون القدماء تجاوزوا حياة الضرورة إلى حياة الروح فالقدح الذي يشرب به المصري القديم والإبرة التي يخيط بها والتابوت الذي يحوي جسده بعد أن يفارق الدنيا ترى فيها اللمسة الفنية،وكان الفرنسيون ونابليون من عشاق الفن المصري القديم ولذا في حملته الفرنسية جلب معه العلماء ورجال التاريخ وتفرقوا في مصر العليا والسفلى يبحثون وينقبون وشامبليون الفرنسي هو الذي فك الرموز الهيروغليفية فاستطاع الإنسان أن يقرأ النصوص المصرية القديمة ويعرف عن المصريين القدماء الكثير ولكن نابليون نهب كنوز مصر وحتى المسلات لم تسلم من النهب وفي ساحة الكونكورد واحدة منها.
على أن باريس لا تكف عن طلب الفكر ولا تكسل عن طلب الفن وجميع سياسييها يدركون قيمتها العلمية بالقياس إلى حظها من الثقافة فترى الواحد منهم يسعى ما وسعته الحيلة إلى إضافة شيء عظيم في رصيدها الثقافي والمركز الثقافي جورج بومبيدو خير شاهد على ذلك وقد ترددت عليه مرات ومرات أستمع إلى الموسيقى وأقرا في الكتب والمجلات وأستفيد من الإنترنت بالمجان ،هناك ترى الناس من كل حدب وصوب فقد اجتهد المركز في أن يقدم شيئا من ثقافة العالم وصحافته، وخارج المركز بطحاء واسعة تعد بالناس يتحلق بعضهم حول رسامين يرسمون لوحاتهم أو فنانين يأتون من الأقوال أو الحركات ما يبعث على الضحك وأحيانا لا يقتصدون في البذاءة وربما استمعت إلى شيء من السياسة في شكل تهكمي وتعليقا على سياسي يسخر الفنان منه وسط ضحك الناس
الحاضرين،و كأنك في الهايد بارك في لندن.
وأهل باريس يقرأون كثيرا في المترو وفي المكتبات العامة ويقصدون المكتبات ويقتنون الكتب كما نقتني نحن وسائل الزينة والترفيه بإفراط شديد ويحدث أن تدخل مكتبة عامة فترى القوم جلوسا على الأرض يقرأون حين لم يجدوا كراسي وتمر في آخر الليل على متشرد سكير فتراه يقرأ وهذه أشياء شاهدتها وفي شارع لي غوبلين شاهدت مرة شابا يقرأ كتابا ماشيا لم يكن دليلا سياحيا كان كتابا ولم يرفع رأسه إلا حين أراد عبور الشارع فرفع رأسه منتظرا ضوء المشاة !
وفي مكتبات باريس العامة يوفرون الصحف والمجلات يوميا للمرتادين بالمجان وقد لا يكون في وسع المرء النهم للقراءة الصحفية شراء هذا الكم يوميا فشتري المكتبة من ميزانيتها وتوفر للقارئ ذلك.
ومعهد العالم العربي مثال للتواصل الثقافي بين فرنسا والعرب وهو خليق بالزيارة والاستفادة مما فيه من كنوز أدبية وفكرية وهندسته تفرد وإطلالته على السين زادت في جماله عبق الشرق ماثل هناك وكثير من الفرنسيين يداومون على ارتياده لسماع الموسيقى الشرقية وحضور المحاضرات التي يقدمها المفكرون العرب- الضيوف والمقيمون- والأمسيات الشعرية والمعارض الفنية وقد قدم كثيرا لفرنسا وللغرب من ثقافة العالم العربي وفكره.
وقد اشتهرت المدينة بمسارحها ولها في المسرح سوابق من راسين إلى كورناي إلى موليير الذي مات على الخشبة ومونبرناس مليئة بالمسارح أما دار الأوبرا فهي آية في الجلال والعظمة ،عظمة المعمار وعظمة الفخامة وجلال التاريخ وخلود الفن وحين أشرفت على قاعة العرض صعقت لما رأيت من رسوم وجدران فخمة وتماثيل آية في الروعة والجمال!
مونمارتر حي أعشقه وأعشق التسكع فيه ولا أسام من ذلك ،في مونمارتر أكون كرائد فضاء تحرر من الجاذبية أو ككهل عاد إلى طفولته الغضة أو كعاقل لاذ بالجنون فأنكر على نفسه قيود الاقتصاد ومراسم الحياة الاجتماعية وقوانين المنطق أمر على بيجال أحدق في معرض الغريزة ولقد دفعني الفضول مرة إلى الدخول إلى الأقبية وإذا أنا بنساء كاسيات عاريات يفوح منهن عطر فرنسي رخيص وأضواء حمراء وأجواء سريالية لدخان التبغ المنتشر في الجو وموسيقى تتوجه إلى نقطة الضعف فيك كرجل . جلست قبالتي وكانت فاتنة وانتبهت إلى الفتوة واقفا أمام المشرب كان رجلا بشوارب تركية وجاكتة جلدية وخاتم ذهبي كبير وسألتني أن أشرب شيئا:
- كونياك؟
لكنني طلبت كوكاكولا وطلبت هي كونياك وهي غالية هناك وسألتني العشاء معا
وقلت في نفسي إذا شاب الغراب ،واقترنت النقطة بالصاد.
وأنا أعرف أن النساء هناك يبحثن عن الفرائس ويلتمسن الحيلة لإفراغ الجيوب وأردت الانصراف مكتفيا من الفضول بما وصلت إليه.
وأمر على المولان روج حيث الليالي الراقصة ، ولكنني في عجلة من أمري أستبشر بمرأى كاتدرائية ساكري كور البيضاء اللون والتي هي أيضا من معالم باريس وأصعد الربوة قاصدا مونمارتر الدولة الفنية حيث عاش هناك عمالقة الرسم سيزان ، بيكاسو وغوغان والرسامون هناك كثر بعضهم في الهواء الطلق يرسم مشاهد لباريس وبعضهم يرسم البورتريه وفنانون آخرون في مراسمهم ويكسبون مالا لا بأس به فالسياح يتهافتون على تلك اللوحات، والمطاعم تغص بالطاعمين والحانات بالشاربين وفي النفوس الحبور وفي على الوجوه الرضا بما أفاءت الحياة على الناس من نعمة وبما أفاء الفن على الإنسان من قدسية.
وزيارتي إلى باريس الأخيرة كانت في صيف حار ركبت الباخرة إلى مرسيليا رفقة صديق طبيب وفي طريقنا إلى باريس تعطلت السيارة والليل يوشك على القدوم وتوقف شاب فرنسي بسيارته انتبه إلى كوننا غريبين وبعد أن سأل عنا استضافنا في بيته وأكرم مثوانا.
كان شابا يهم بدخول الإسلام لا يأتي ما يأتيه الشباب في مثل سنه واتخذ له صحبة من أبناء المسلمين وتأثره بالتقاليد العربية ظاهر في الشاي الذي أعده على الطريقة العربية وسهرنا حتى الفجر لا يكف عن سؤالنا عن الشرق وحضارة الشرق وتقاليده في إعجاب شديد.
ورافقنا في الصباح إلى محطة القطار بعد أن تركنا السيارة للتصليح ووصلنا باريس وهي كلها رقص وألوان من الموسيقى في كل شارع، إنه عيد الموسيقى وهو عيد أروبي فقد حضرته في سويسرا في نفس الشهر،ورئيس باريس دولا نوي سن لباريس سنة أخرى “الباري بلاج” فقد أحضر العمال أطنانا من الرمل نثروها على ضفاف السين قريبا من كاتدرائية نوتردام ولمئات الأمتار وزادوا على ذلك بدوش الماء العذب يسيل على رؤوس الغواني وأجسادهن البضة المدهونة بالكريمة فكأن باريس تحولت إلى شاطئ بحر ،النساء فاتنات يلقين بأجسادهن المحمرة من أثر أشعة الشمس الحارة على تلك الرمال وضفاف السين تغص بالمصطافين والعشاق والفضوليين وفي الليل تتحول تلك الضفاف إلى ساحة للموسيقى والرقص من الجميع نساء وشابات وشباب ورجال من كل الجنسيات .الدنيا حلوة وينبغي أن تعاش والإنسان يقضي عامه جادا عاملا مجتهدا فلا تثريب عليه أن يأتي شيئا من اللهو وأن يقضي الليل راقصا حتى الصباح حتى إذا انتهت العطلة وجد القوم متسعا للعمل الجاد والانتاج الخصب.
ولقد أقمت قريبا من الباستيل هذه المرة واتخذت صحبة جديدة ،كان مارسيل كهلا فرنسيا بلحية كثة بيضاء وجسد قوي ينم عن عافية وقد أثارني ها الصديق يقضي اليوم قارئا في مكتبات باريس العامة وفي غرفته ويحب الأدب كثيرا يحجم عن الكلام في السياسة إلا ما تعلق بالفكر وقلت له مرة:
مارسيل لو كان أمثالك في عالمنا العربي الكثرة الغالبة لكنا في عداد الأقوياء .
ومسيو بنيتو رجل في الستين من أصل إيطالي رجل ودود يجيد الكلام مازجا بين أصوله الإيطالية وعاداته المكتسبة من الفرنسيين وكنا نتعشى معا ونقضي شطرا من الليل نتحدث، سمر حلو لا لغو فيه ولا تأثيم .
قال صديقي مارسيل:
- غدا عيد الثورة الفرنسية
وأردف مسيو بنيتو :
- يجدر بك الذهاب إلى الشانزليزيه لرؤية العرض العسكري سترى أشياء رائعة لا تندم عليها .
والحق أنني رأيت القوم هناك يعدون للحفل أقيمت المنصة التي تضم الرئيس الفرنسي وضيوفه واتخذت كافة الترتيبات الأمنية ولم يبق إلا قدوم عيد النصر للابتهاج بهذا اليوم التاريخي للأمة الفرنسية وفي الصباح الباكر كنت أبحث عن طريق أسلكه وسط جموع الذاهبين إلى هناك من شتى الأجناس، أصبحت الدائرة الثامنة خلية نحل تعج بالسياح والفضوليين ورجال المخابرات والبوليس وهم يوجهون المشاة في شوارع الدائرة الثامنة الراقية والفخمة وأخيرا لاح الشانزليزيه بعد لأي وعلى طوله في غير هذا اليوم كانت المقاهي تضع الموائد والكراسي على الرصيف للمرتادين يشربون القهوة الفرنسية أو المرطبات المنعشة تحت ظل الشمسية أما اليوم فيصعب عليك أن تجد مكانا تتفرج منه على هذا العرض العسكري وقدمت سيارة مكشوفة تحمل الرئيس الفرنسي الذي كان يحيي الجماهير المصفقة لمقدمه وابتدأ العرض باستعراض الجنود لمختلف القوات ثم الآلات الحربية المتطورة لكن عرض الطيران كان الأروع وتلك الراية الفرنسية الجميلة التي صنعتها الطائرات بدخانها وتثيرك هناك اللباقة والأدب والنظام من قبل الجماهير حتى أنك لا تشعر بأن النهار انتصف وأن قائمتيك لا تقويا على حملك!عب عليك ان تجد مكانا تتفلارا لاح الشانزليزيه بعد لايات والبوليس وهم يوجهون المشاة في
واهتمام الغربيين عموما بالعلم وبدائع الطبيعة وعجائب الحضارة شيء مألوف بل أنهم يعيشون لأجل ذلك ، حدث مرة أن تحدثت مع عجوز فرنسي التقيته في شارع الإيطاليين قرب مقر جريدة لومند الذائعة الصيت في يوم حار من أيام أغسطس وشرع يحدثني عن أسفاره فحدثني عن زيارته للمكسيك للتفرج على حضارة المايا ولما سألته عن زيارة أمريكا أخبرني أنه لا يعيرها اهتماما فهو غير معني بالإسمنت المسلح كما قال !
وقرأت مرة في الصفحة الأولى للبارزيان أن مراصد فرنسا وجمعياتها الفلكية تقيم ليلة للرصد في أواخر أغسطس - وهناك ما يعرف بليلة النجوم- وهي أشبه بعيد فالباريسيون لا يرون النجوم لأن باريس في الليل تتحول إلى كتلة من الأضواء تحول دون رِؤية النجوم في باريس وبإمكان أهلها رصد الكواكب والنجوم في هذه الليلة في الضواحي والغابات وأثبتت عناوين الجمعيات الفلكية المعنية بذلك وأرقامها الهاتفية واتصلت بجمعية أطلس فضربوا لي موعدا في مدينة فيل بانت قرب مطار شارل ديغول وامتطيت القطار بعد أن أخذت عشائي معي وإذ خيم الليل تهافت الناس من كل حدب وصوب وكانوا فتيانا وفتيات شيبا وشبانا غيدا وعجائز واقترب مني فرنسي كهل بدا عليه القلق فهو لا يريد أن تفوته الفرصة ولكنه مرتبط بالعودة إلى باريس وهدأت من قلقله ،ثم بدأت الليلة كنا نتداول على المنظار الفلكي القوي نرى المريخ قرصا أحمر وقطبه الأبيض من الثلج في هدوء واحترام لبعضنا حتى أوشك النهار أن يطلع وكانت ليلة لا أنساها!
وتسأل عن أحياء باريس الشعبية ففي كل مدينة عالمية حيها الشعبي وحي هارلم في نيويورك مشهور لكن أحياء باريس الشعبية هي في الدائرة الثامنة عشرة بارباس والقوت دور والجالية العربية من شمال إفريقيا هي الغالبة وتسير هناك فتخال أنك في تونس أو مراكش ، اللسان عربي والملامح عربية ولن تقول كما قال المتنبي عن بوان :
غير أن الفتى العربي فيهــا
غريب الوجه واليد واللسان
بل تقول :
غيرأن الفتى العربي فيهــا
قريب الوجه واليد واللسان
ويمكن أن تجد هنا كل شيء من العادات العربية وتشرب الشاي المغربي بالنعناع وتأكل على الطريقة التونسية فالإشهار بالفرنسية إلى جانب العربية : حمام تركي لحم حلال
حتى المتسولون جلسوا القرفصاء يسألون الناس صدقة ممطرين إياهم بوابل من الدعوات والمشعوذون وجدوا لهم سوقا هنا في باريس الشعبية :
- يدك، أنظر في كفك
قال ذلك مشعوذ مغربي وقد سل يدي سلا وسط الزحام
فمددت يدي وبسط كفي ينظر فيها :
- هناك امرأة ربطتك ، هات عشرة فرنكات أفك رباطك
فقلت على الفور :
- دعها تربطني فذاك خبر من عشرة فرنكات وتركته لحاله
الدائرة الثامنة عشرة دائرة سكنتها تلك الجالية أيام كانت فرنسا بحاجة إلى العمال في المصانع وفي مشاريعها الكبرى ونزح هؤلاء إلى باريس بحثا عن لقمة العيش لهم ولأسرهم التي تركوها في أوطانهم الأصلية وسكنوا هذه الأحياء في شكل مجموعات حيث كل شيء زهيد بالقياس إلى الأحياء الأخرى ، إنها بسيطة ثقافيا فكثير منهم لا يحسنون القراءة والكتابة والقليل قرأ شيئا يسيرا في الكتاب ولأن اللسان العربي والعادات العربية التي يعيشونها هناك فقد خففت عليهم تباريح الغربة وتلمس الفرق بين بقية الأحياء وأحياء الدائرة الثامنة عشرة في النظافة والنظام ورفاهية المسكن والهدوء والأمن – فالسطو والعنف من خصائص هذه الدائرة - ولو أن المقيمين صاروا يشتكون اليوم من غلاء المعيشة ولكن لا بأس فهم في بلد سعيد كما يقولون .
لا يمكنك أن تزهد في باريس لحظة ولو زرتها ألف مرة ستبقى يراودك الحنين في العودة إليها وفي التنزه في منتزهاتها وتتفقد الفنانين يرسمون اللوحات على ضفاف السين والبواخر الصغيرة المتنقلة على صفحته وباعة الكتب يعرضون كتبهم القديمة وألوانا من الناس تختلط بهم وتقول حكاية شعبية يرددها العوام أن باريس تبكي على من لم يزرها أما من فعل فقد يعود حتما !وحتى طنجة في المغرب يرددون بشأنها نفس القول!
قد يخفق قلبك بشيء قد تنكره على نفسك وقد تخوض فيه ، المرأة روح باريس وفي باريس ألوان من المتعة تعيد إليك الشباب فتلقي بنفسك في غمار الحب وفي أتون المغامرة وتكاد تنسى من حولك حتى الزمن ينساب من غير أن تشعر به وتقول مع القائلين في كثير من اليقين ،كان القدماء يقولون المدينة الخالدة وهم يعنون روما فحق لمن يقول عن باريس أنها المدينة الفاتنة.
وليسمح لي محمود تيمور في رقدته الأبدية وقد كان سائحا ممتازا - حتى أنه مات مصطافا - في لوزان أن أحور عنوان كتابه المعنون “الدنيا في باريس” إلى الدنيا باريس.