قرائي الأعزاء،
فيما يلي 3 فصول من روايتي التي أنهيتها مؤخرا. يسرني كثيرا أن أتلقى آراءكم في اللغة والأسلوب والسرد.هذا ولم أختر اسما للرواية بعد، إذ لا أزال حائرة بين عنوانين أو ثلاثة.
علما بأن العتب مرفوع، و"الزعل" ممنوع، وسعادتي بالنقد والتصويب أكثر من سعادتي بالثناء والإطراء.
وعليّ أن أنوّه بأن المكتوب ليس سيرة ذاتية، ولست قطعا بطلة الرواية. :)
فلا تبخلوا بغيثكم المديد. أنتظر رأيكم الرشيد. إني أستشيركم، و"المستشار مؤتمن" كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا تنسوني من دعواتكم بأن أجد ناشرا مناسبا للرواية، ناشرا ذا ضمير!
الفصل الأول
الرَوْض الموعود
الكويت، 1985
حين "تتنوخذ" الذاكرة، تضطرم العبارة. إنه حلم الروض الموعود، وهذه أقصى نقطة من الماضي يمكنني العودة إليها. ما أرحمك يا رب، فكيف كان حالنا لو تذكرنا نخسة إبليس -عليه لعائن الله- لنا يوم وُلدنا، والشهقة الأولى؛ وصرخة المغادرة المبرحة؟ كيف لو تذكرنا حبونا على الأرض الخشنة، ومحاولات وقوفنا الخرقاء، وسقطاتنا الفجيعة؟ كيف لو تذكرنا ألم إبر التطعيم، والضيق الذي يسببه لنا الحفاض، وطعم الحليب المكرر، ومقاساة بزوغ الأسنان الأولى. كيف كان سيكون؟ حمدا لله أنه لم يكن.
يا لهذه الذاكرة، تأمر هنا وهنالك، تحرك الدفة، وتأمر تلك الذكرى فتغطس لتجلب اللؤلؤ، وتأمر الأخرى فتنشد وتترنم مع هواء البحر المالح، وتنهر الأخرى فتغطس، أو تقطع عنها الحبل فتفطس! الذاكرة أمهر "نوخذة"، ولهذا نراها تَحْكُم عباراتنا وتُحكِم قبضتها على نواصينا، فالبشرية حتى الآن لم تخترع دواءً يريحنا من الذكرى؛ كلنا يا سادة ضحايا لها.
أجل، أتذكر ذاك التوق والشوق، كلهم ذهبوا إلى الروض الموعود، وأنا؟ متى؟ متى؟
أريد أن أرتدي الأزرق والأبيض بدوري، أريد أن أدّعي أني "تلميذة نشيطة، تصحو في الصباح، تذهب بانشراح".
متى يا روض أراك؟
كان والدي مسافرا لفترة وتأخر في تسجيلي وثمة هم مطبق ومقلق ألاَّ أقبل. تصبّرت وتربَّصت لأعرف }بِمَ يرجع المرسلون{.
وذات يوم، صرخ الكون: خيال محمّد الفكّار سُجِّلتْ في كشوف السعداء. "خيال، ستذهبين إلى الروضة بعد أشهر"، جاءني البشير.
يا لقفزاتي حينها، ولست أدري أيهما أَقْفَزُ من الآخر، قلبي أم قدميّ. قفزت حتى أرهقت الأرض من تحتي، قفزت وافتر ثغري عارضا للدنيا صفوف الأسنان اللبنيّة البريئة التي تعتمر في فمي؛ "أسنانك تلمع كاللولو ويفوح شذاها كالأزهار".
أحضرت أمي دفترا في اليوم التالي، وكانت جارتنا تزورنا، فسألتني:
- "ستذهبين إلى الروضة يا لولو؟"
رفعت ذقني إلى أقصى ما أستطيع وهززت رأسي، ومددت شفتي بدلع طفولي.
- "ما رأيك يا حصة، هل أعلمها كيف تكتب اسمها؟"
- "حسنا تفعلين."
- "هل أعلمها كيف تكتب اسمها الكامل؟"
- "لا، لا. حذارِ، ستختلط عليها الأمور. علميها كتابة اسمها الأول فقط."
يا إلهي! من أذن لهما بالحل والعقد؟ ألم تبصرا الجدران التي وصلت إليها يداي الزاحفتان؟ أيا قوم شاهدوا جرائمي الحائطية، ولا تغرنّكم هذه الخطوط الرديئة المتعرجة والخربشات الهيروغليفية، دققوا وستجدونني رسمت اسمي فيها استعداد للقاء الروض الموعود. هل نسيتم اللوحة التي زيّنتم بها جدار غرفتي وفيها اسمي مكتوبا بخطي الرقعة والنسخ؟ أما تعلمون أني حفظتها عن ظهر قلب. وما أدراكم أيها "الكبار" عن شوقي للروض الموعود؟ ما أدراكم؟ صحيح أني كنت أكتب اسمي مقلوبا من اليسار إلى اليمين على الجُدُر، كنت أكتبه مقلوبا على محوره الأفقي، أي أنه كان عليكم أن تضعوا مرآة أمام الاسم لتفطنوا إليه! لكنَّه اسمي أغرّده وأصدح به أنّى شئت. قررت أن "آخذهما على قدر عقلهما" وأن أدعي أني لا أجيد كتابة اسمي وأن لهما الفضل في تعليمي ذلك! التعامل مع الكبار مشكلة، عليك أن تتعلم فنون المسايرة والتغافل حتى تتمكن من التعامل مع هذه الكائنات الغافلة.
"شاطرة، يا خيال، شاطرة.” قالت أمي.
إذا سألك أحد هل تعرفين كيف تكتبين اسمك، قولي له نعم.
رفعت ذقني إلى أقصى ما أستطيع وهززت رأسي.
الفصل الثاني
الحقنة الفارعة
رفعت ذقني إلى أقصى ما أستطيع، لكني لم أهزَّ رأسي. فقد طلب مني طبيب المستوصف ألاّ أتحرّك. أخذ يجس عنقي ويعاين حنجرتي، والألم يفسد عليّ أحلامي وأخيلتي. ثم طفق يحادث والديّ بالإنكليزية رغم أنه عربي، وهذا من واقع خبرتي المتواضعة يعني الشر المستطير. لم أكن أفقه ما يقولون، لكن "لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين"، لقد عرفت الكلمة المشؤومة التي لا تزيدني إلا خبالا وخوفا، فأصخت السمع لأطلق ساقي للريح متى ما سمعتها!
قلها يا دكتور، قلها! فإني أعرف مخططك الشرير، قلها فإني أعرف أن "إنجكشن" تعني أنك عقدت العزم أن توّجه لي حقنة مؤلمة. قلها ولا تتفذلكوا كثيرا في أحاديثكم أيها "الكبار"، فكل مخططاكم مكشوفة. ولا تسألوني كيف حفظت الكلمة بين عشرات الكلمات التي تنتجها شفاهكم الكبيرة، لا تسألوني لأني حتى اليوم لا أعرف.
لمّا يقلها! بل ناولنا ورقة، وخرجنا.
سألت والدي: “لا حقنة؟"
- "لا."
- "حقا؟"
- "أجل، وسنذهب إلى البقالة وسأشتري لك “حظّا".
وما كنّا نسميه بالـ"حظ" آنذاك، هو علبة كرتونية صغيرة فيها هدايا بلاستيكية وبعض الحلوى، و"أنت وحظك"، فكل واحدة فيها ما فيها من البهجة رغم زهد التكلفة.
لا حقنة وفوق ذلك علبة حظ؟! خامرني الشك، لكن قررت أن أشفّع الشك لصالح أبي وأن أبتهج بالأمر حتى يتبين لي الخيط الأبيض من الخيط الأسود. ظننت أن هذا عارضٌ ممطرني، لكن وللأسف، }بل هو ما استعجلتم به، ريح فيها عذاب أليم{!
في الصباح التالي ألبستني أمي ثيابي وأخذت معها حقيبة. جاء أبي وانطلقنا إلى مكان ما.
"إلى أين يا أبي؟” سألتُ.
لم يجب أبي وأخذ يسعل. ولم يكن يسعل ليتهرب مني، فنوبات السعال هذه تزوره أكثر من مرّة في السنة، وكان يكابر ويأبى أن يستشير، هل تراه أيضا يخاف من الحقنة؟ لا أظن ذلك، فلا يخاف من الحقنة إلا صنفان من الناس، الأطفال (أو من لا يزالون أطفالا وإن كبروا)، والكبار حين يردون إلى أرذل العمر فيكونون كالأطفال مجددا. أبي إنسان غامض، هذا السعال الغريب، وتلك المكالمات السرية التي ضبطته متلبسا بها أكثر من مرة. أبي يخفي الكثير تحت سطح نفسه. لعلّه عناد الرجال، ألا ليته تخلى عن شيء من كبريائه وعناده، لكان هذا ...، أخبركم لاحقا، أخبركم لاحقا. لكن مهلا، لماذا على الرجل أن لا يشتكي، وأن لا يمرض، وأن لا يتألم، وأن لا يبكي؟! أعتذر مجددا، فهذا ليس موضوعنا الآن. لكن ستلاحظون أني كثيرة الاستطراد، فتحمّلوني رجاء.
أخذت ألح وألح:
- "إلى أين سنذهب يا أبي؟"
- "مشوار."
- "إلى أين؟ المدينة الترفيهية؟"
- "لا."
- "لولو، لا تتكلمي كثيرا، سيؤلمك حلقك أكثر." أوصتني أمي.
مررنا بقرب من مجموعة من الخيام التي تتزاحم في الساحات الترابية في إحدى المناطق السكنية.
- "ما هذه؟" سألت أمي.
- "انتخابات". أجابت.
وظننت أن الانتخابات كلمة تطلق على الخيام التي تنصب في المناطق السكنية، أما التي تنصب في البر فتسمى خياما! كانت هذه أول وآخر مرة أرى فيها تلك الخيام في طفولتي.
صمت قليلا أتفكر في شأن الخيام. ثم عاد الفضول يباغتني. فوجهت سهام السؤال إلى أبي مجددا.
- "سنذهب إلى الحديقة؟"
- "لا."
- "إلى 'نحن والأطفال'؟"
- "لا."
وواصل أبي الصدود. هيّا! ردّ عليّ يا أبي بغير "لا"، ردَّ على ولو بنصف إجابة، ولو بإجابة بلقيسية عائمة وقل لي "كأنه هو" حين أذكر لك مكانا. لا تتركني في حيرتي.
- "بابا! بابا! إلى أين سنذهب؟" قلتها بتعكُّر بصوتي الذي هدّجه المرض، وكدت أبكي.
- "إلى الروضة، أجاب أبي."
حقا؟! حقا؟! {أحق هو}؟
أردت أن أقفز كالمرة الفارطة، لكنّ قدميّ لم تحملاني لشدة مرضي، لكن قلبي كان أشد قفزا، كان يقفز بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن قدمي.
وصلنا إلى مبنى مخيف وكئيب. أهذا تراه الروض الموعود؟
ولجنا، والجُدُر رمادية، ولجنا.
وقفنا عند مكتب الاستقبال. لكن ثمة أمر مريب، أين بقية الأطفال؟
مهلا، جاء الفرج، كأني ألمح طفلا، لكن لم تراه يرتدي "دشداشة" المنزل في الروض الموعود؟
هل من المسموح لنا أن نرتدي ما نشاء في الروض الموعود؟
مهلا! ما الذي يحدث؟! أين ثوبي الأزرق الذي خاطوه لي لأجل هذه المناسبة؟ أين القميص القطني الأبيض ذو الياقة المزركشة؟
لعلهما في الحقيبة، أجل في الحقيبة. ويبدو أن أم هذا الطفل أيضا تحمل له ثوب التتويج في حقيبة ما.
انتظرنا طويلا حتى ينهي والدي الإجراءات الورقية. أوليس طريفا ومُرّا أنه أننا شعوب شفهية، إلا أننا نبالغ في الإجراءات الورقية، فلا يمكن أن تنجز شيئا إلا بورقة وختم، وربما لجنة. في حين أن الأمر ذاته يمكن يُنجز بمكالمة هاتفية، أو بإجراء ورقي مبسّط. أترانا نعوّض –لاشعوريا- عن تلك بهذه؟!
سرت أتبع والديّ، وحين دلفنا غرفة ما، رأيت سريرا، وعلاقا حديديا مثل الذي يعلق عليه المغذي في المستشفيات إلا أن هذا كان صدئا.
هل سيفحصني طبيب الروضة هنا ويقيس طولي ويعاين أسناني اللبنيّة الصغيرة مثل طبيب الروضة اللطيف في القصة المصوّرة التي قرأتها لي أمي مرات ومرات قبل النوم؟
نظرت أمي بإشفاق إلى تلك الأسئلة المختمرة في عيني، وقبلتني. مسح والدي على رأسي وتجنب النظر في وجهي. ثم دخلت ممرضة وفيها يديها صينية من المعدن وفيها حقنة ذات نصل يرمقني بنزق. حقنة فارعة الطول، بل من أطول ما رأيت في حياتي كلها. وأوصدت الباب.
تجاهلت الأمر لوهلة وأخذت أقنع نفسي أنها ليست لي. لكن الممرضة حادثت والديّ بالإنكليزية، وفي خضم الحديث السريع، سمعتها، أجل هذه المرة سمعتها، "إنجكشن"!
“إنجكشنٌ"، ولا تنسوا تنوين الضم على النون من فضلكم فالمصاب جلل!
ومات الروض الموعود في خِدْرِه. صار روضا مفقودا خَرِبًا.
أيها الكبار، ألم الـ"الإنجكشن"، عفوا أعني الحقنة مهول، لكن كان عليكم أن تسمعوا صوت أحلامي الطفوليَّة وهي تتحطم لتعرفوا أنه لا ألم أكبر من ألم الخديعة. لا تكذبوا على صغاركم رجاءً، ثم ألستم أنتم من يقول أن الكذاب حرام؟
صحيح أن الحقن المتتالية لمدة أسبوع أمضيته في المستشفى أعالج من مرض لا أذكر ماهيته كانت -بمشيئة الله- سبب شفائي. صحيح أن المرء قد يُشفى بالكي، لكن هل سمعتم بأحد تعافى من الكي؟
سأنتقم منكم أيها "الكبار"، انتقاما لا قِبَل لكم به. انتظروا انتقامي قريبا، قريبا جدا
الفصل الثالث:
حفلة البكاء!
وأزفت ساعة اللقاء. لكنه ما عاد الروض الموعود، هو الآن مجرد روضة.
كان اسمها "روضة الأمل"، وأرجوكم لا تخلطوا بينها وبين روضة الأمل الخاصة ببشار. هل تذكرونه؟
"بشّار يا بشّار، هيا إلى العمل
اجمع لنا الأزهار، من روضة الأمل"
بل اسمها كان حقا كذلك، وكانت قد افتتحت حديثا في منطقتنا السكنية.
دخلت مع أمي أمشي "مِشْيَة الوَجِيّ الوَجِل". ولمحت ذاك المسبح ذي البلاط الرمادي. كان خاليا، ومتسخا، وفيه ما فيه من أوراق خريفية هالكة، وكان محاطا بسياح حتى لا يسقط فيه أحد. لا أعرف لم كان مهملا، لكني أتذكر بلاطه الرمادي جيدا. كان بلون تلك الجدر التي رأيتها في المستشفى.
نشأت علاقة غريبة بيني وبين المسبح المهجور، كان يلاحقني في أحلامي. فتارة أراني أغرق في كومة من الأوراق الخريفية التي ملأته ولا أستطيع الخروج، وتارة تخرج بلاطاته الرمادية وتتشكل وتتحول إلى القائد "گاندال" وهو شخصية شريرة في مسلسل "گراندايزر" ويختطفني إلى كوكب "ڤيگا"، ثم تخرج "السيدة گاندال" من وجهه وتبدأ باختلاق الأكاذيب والاستهزاء بي. ويقف على زنزانتي الكائنان المريخيان اللذان ظهرا مرة مع أنيس وبدر في "افتح يا سمسم" واللذان كانا يقولان "يب يب يب يب يب يب يب، آها، آها"، و"الأرنب الجائع" اللطيف يصبح شريرا، ويستطيل قاطعاه العلويان ويحاول أكلي بعد أن انضم إلى عصابة من الأرانب الآكلة للحوم البشر. وكوابيس أكثر من أن تُقص.
* * * * *
وصلنا إلى صفي. ودّعتني أمي وأودعتني مع "أبلة" سلمى. وأبلة كلمة تركية تستخدم لمخاطبة المعلمة في الكويت، في حين تستخدم أيضا لمخاطبة الأخت الكبرى أو كلفظ احترام وهي منقولة عن التركية، ولعلها انتقلت إلينا مع المدرسات المصريات. أما في الفصحى فالأَبْلَة هي الحاجة والطلب فيقال "مالي إليك أبلة". وتظل كلمة طريفة على أي حال لمخاطبة المعلمة. بالمناسبة، كنت أظن أن "أبلة" هي مؤنث "إبل"، لما يمتاز به كليهما من صبر!
أدخلتني المعلمة إلى الفصل وأنا أتمترس بـ"مطارّة" مرسوم عليها "سنفور" وحقيبة زهرية فيها شتى صنوف الحلوى، تلك الحلوى التي بسببها دخلت إلى فمي كل أنواع الحفّارات والجحافل الطنّانة وأدوات الحفر والهرس والتشميع والتلميع، بل وحتى "السيراميك".
ولعلكم تعرفون من هم السنافر، لكن هل تعرفون ما هم؟ هذه الكائنات المتقزّمة التي تحيا في الغابة حياة شيوعية مع قائدهم ذي اللحية الماركسية واللباس الأحمر الشيوعي “بابا سنفور”. أما الشرير في الحكاية فهو الرأسمالي "شرشبيل" الذي يطمح إلى أكل السنافر تارة وإلى تحويلهم إلى ذهب تارة أخرى، أما "البروليتاريا" فهي بلا شك القط الكادح "هرهور" الذي لا يحظى إلا بالفتات والركلات.
طبعا لا تظنوا أني كنت أدرك هذه المعاني المُرمّزة والمنسوجة بعناية داخل الحلقات المثيرة، فلم أفطن إلى ذلك إلا حينما كبرت. أما في صغري فكان تولُّعي بها أيما تولع. وأتذكر أن جدتي كان تحكي لي عن الجنة ونعيمها ذات مرة وأخبرتني أن الله يعطي المؤمن الذي يدخل الجنة ما يشاء.
استدارات عيناي فرحا، وقلت لها:
"أريد في الجنة العيش في قرية السنافر."
* * * * *
جلست بين الأطفال. المعلمة كانت منشغلة بتجهيز شيء ما؛ كان هناك حفلة "نُون" للصف الأول بمناسبة دخولنا الروضة. و"النُون" عادة قديمة وجميلة إذ يتم تجهيز قطع من الحلوى والمكسرات وقطع نقدية يرمى بها من عل للأطفال الذين يتدافعون في غبطة لالتقاطها وذلك في المناسبات السعيدة كحين إتمام حفظ القرآن أو شفاء المريض أو غيرها من المبهجات.
أخذ بعضنا يتأمل بعضا. بعض الأطفال يتبسّمون لبعضهم على استحياء، وبعضهم يقبع الطير على رؤوسهم فيجلسون مشدوهين برهبة اليوم الأول، في حين يحاول بعضهم المشاكسة بخفاء. أما أنا، ويا لتعكر مزاجي يومها، نظرت إلى الطفلة التي تجلس بجانبي. كان شعرها مصففا على شكل ضفيرة فرنسية، وهي تختلف عن الضفيرة العادية إذ كانت الفرنسية تأخذ وقتا طويلا، فمع كل خصلة تُضفَّر يؤخذ طرف من جانب الشعر ليضم إليها. لا أظنني وفقت في شرحها، لكن فلنقل أنها ضفيرة معقدة.
لقد كنتُ من حزب "العنقوص"، أو ذيل الحصان الجانبي، أو القرن، أو العنقود الجانبي، سمّوه ما شئتم. كنت آبى أن تضفِّر أمي شعري وأعتبر ذلك محاولة سلطويّة تقييديّة غَشوم على خصلات شعري الحرّة الأبية، إلا أنني وفجأة قررت هجر حزب "العناقيص" وصرخت نفسي قائلة: أريد ضفيرة فرنسية، أريدها الآن، الآن، الآن. غريبون نحن البشر، لا نستحلي الأمور إلا حينما تكون في يد غيرنا، وهكذا يستغلنا المعلنون ويضعون منتجاتهم في يد فلان وفلانة من المشاهير، فنرغب بها أكثر وأكثر حتى وإن لم تكن تفيدنا فعلا. لا أدري هل هذا هو السبب، أم هو تعكر مزاجي السوداوي الذي يزاملني مُذ ولدت في داخلي تلك الرغبة في الانتقام من "الكبار"!
فجأة، أمسكت بضفيرة جارتي وسحبتها بكل ما أوتيت من قوة وبيدي كلتيهما فصرختْ صرخة مدوية وأخذت تنوح. مهلا، لا تظنوا بي السوء، فلم أكن في حياتي طفلة مشاكسة أو مؤذية، ولم أكن طفلة غيورة. لكن كان هناك شيء ما ذلك اليوم يدفعني لافتعال المشاكل، بل والمصائب إذا تيسَّر ذلك.
وإتباعا لسياسة "ضربني وبكى، سبقني واشتكى" أخذت أنا أيضا أبكي ملء رئتيّ على أمل أن يتفرق الدم بين القبائل، أعني بين الدموع!
تبادلنا الاتهامات، وتدخلت المعلمة ومع بعض الوساطات الحميدة من قطع الحلوى انتهى الموضوع بأن طلبت منا المعلمة أن نصالح بعضنا. وطريقة الصلح المعتمدة لدى الأطفال هي بأن يثني كل منهما أصبع الخنصر على شكل نصف دائرة ويشبكه مع خنصر الطفل الآخر. أما ما كنا نسميه بـ"المحَارَب" أو الخصام فتكون بأن يمرر الطفل جانب إصبعه الخنصر أعلى شفته العليا بسرعة ثم ينفض يديه في الهواء. قد يبدو الأمر مضحكا، لكن من يتخيل أن الصغار لديهم كل هذه الرموز للصلح والحرب. إن علمت الأمم المتحدة بها، قد تعممها عالميا لتبين كل دولة موقفها بجلاء من الدولة الأخرى. على فكرة، ما السر وراء الدور الكبير للإصبع الأصغر في اليد؟ ففي اللغة يقال "هذا أمر تُعقد عليه الخناصر"، أي أنه جدير بالاهتمام والاعتداد.
ألم يقولوا "لا محبة إلا بعد عداوة"؟ أحلام -الطفلة التي شددت ضفيرتها- صارت صديقتي المقربة! كانت لديها ما يكفي من التسامح، وكان لدي ما يكفي من المزاجية والتقلب كي أغيّر رأيي في الأمر. تبين أيضا أن أحلام تسكن في قطعتنا. والدها يعمل في وزارة الخارجية، ووالدتها طبيبة.
أسرعت المعلمة إلى نثر النون، وحينها أخذت أزاحم الأطفال وأحاول أن أفقِدهم ما في أياديهم لا كي آخذه، بل لمجرد إثارة الفوضى. وطريقتي في ذلك بأن أتظاهر بأني أريد أن أعطيهم بعض ما جمعت، وبمجرد أن يفتحوا قبضتهم أكحت ما فيها وأوقعه أرضا. أبلة سلمى لاحظت الاعتساف في سلوكي، فانتظرت أمي وقت المغادرة وطلبت أن تراها صباح اليوم التالي.
* * * * *
سمعت والديّ يتحدثان مطولا عن التغير الغريب في سلوكي. لا أتذكر ما كانا يقولان بالضبط، لكني أحسست بالأهمية. كان هذا القصاص العادل بعدما فعلوا فعلتهم التي فعلوا فقتلوا روضي الموعود. كذّابون أَشِرُون أنتم أيها "الكبار"، سفَّاحو كذب أنتم، سفّاكو كذب أنتم. أشعر الآن بالارتياح حين أتذكر هذا الموقف. بعد ذلك عاد سلوكي طيبا سَمُوحا، وعدت خيال التي يعرفونها، لكن مؤقتا!