كتبت إلينا السيدة الفاضلة سها جلال جودت تسألنا كما سألت غيرنا من الكتاب أن نتحدث عن طفولتنا وعن البيئة التي نشأنا بها وظلال الأسرة والمطالعات الأولى تمهيدا لنشرها في كتاب
خاص ستصدره الكاتبة بعنوان" الأدباء يتحدثون عن طفولتهم" وربما أستبق الحدث فيما يخصني ولأنني لا أحتفظ بأشياء لنفسي فإنني أنشر ما أرسلت به إلى السيدة الفاضلة ليطلع عليه القراء الأكارم.
إبراهيم مشارة
لقد أسماها الراحل جبرا إبراهيم جبرا "البئر الأولى" وقيل" الإنسان طفل كبير"، ربما تتحدد مصائرنا في طفولتنا ففيها قبسة الذكاء أو تبلد الفكر، نبالة النفس أو خستها، شجاعة القلب أوجبنه ،عشق الجمال أو عدم الإحساس به ،حب الحرف أو عشق الدرهم، الوحدة أو الاجتماع، التفكير أو التسليم ،نبش بطون الألفاظ أو التسليم بحرفيتها.
إننا لا نختار آباءنا ولا تواريخ ميلادنا ولا أوطاننا وربما جميعا قلنا ذات مرة مع الخيام:
لبست ثوب العيش لم أستشر
وحرت فيه بين شتى الفكر
وسوف أنضو الثوب عني ولم
أدرك لماذا جئت أين المفر؟
ربما الخيام لم يدرك وربما أدرك فيما بعد وكثيرون لم يدركوا بعد أو هم بين بين وتلك سنة الحياة.
ألم يقل المتنبي يوما:
ومن تفكر في الدنيا ومهجته
أقامه الفكر بين العجز والتعب
وقبلا قال:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
في بلد عانى من ويلات الاستعمار الفرنسي الذي استلب اللسان والهوية والانتماء طيلة قرن ونصف هو الجزائر، وفي بلدة تمنطق الجبل بيوتها وأحياءها زمورة التي كان لها الأثر البالغ في التاريخ القديم في حفظ الدين ولغة القرآن الكريم واتخذ منها الأتراك محطة هامة في مراقبة منطقة القبائل الصغرى وجمع الإتاوات إنها مستودع الذكريات ومنبت الهوى وإنسان العين ولدت فيها عام النكسة 1967، كان حي السويقة هو الحي الذي تسكنه عائلتي أبي الذي ولد عام 1946 والذي اشتغل معلما للغة العربية وأمي عائشة التي ولدت عام 1948 وهي من أصول تركية وإخوتي وعمه الشيخ العجوز وزوجته الهرمة كذلك،لم يكن لعمه أولاد فربى والدي الذي هاجر أبوه إلى فرنسا للعمل أيام الاستعمار،عانت العائلة الخصاصة كبقية الأسر فسافر الكثيرون للعمل هناك لإعالة أسرهم في الجزائر المحتلة، ولم يعد إلا ميتا عام 1989 ليدفن في بلده، ولكنه عاش في باريس في الدائرة السابعة عشرة حياة خاصة ألزم نفسه تقاليد صارمة المحافظة على النظام واحترام العمل- وكان عاملا في مصانع "سيمكا" - وعدم مخالطة الناس والاكتفاء بالقراءة يشتري الكتب من الحي اللاتيني أو من الدائرة الثامنة عشرة ، كتب الفقه والتفسير والأدب والتاريخ يقرؤها كاملة ويعلق عليها ثم يرسلها إلينا في طرود بريدية ومن الكتب التي أرسلها : الكامل في التاريخ وتاريخ ابن خلدون والأغاني وحياة الصحابة وغيرها كثير وكلها قرأها وعلق عليها في حاشية الكتاب ، حتى حين مات عام 1989 لم تكتشف جثته إلا بعد ثلاثة أيام نظرا لعزوفه عن الخروج وانزوائه في غرفته متعبدا أو قارئا بعد أن أحيل على المعاش .أما عم أبي الذي رباه ثم رباني أنا كان من قدماء المحاربين في الجيش الفرنسي وشارك في الحرب العالمية الأولى ثم سرح وعاد إلى البلدة مصدورا يشتغل في الحقل ويستعين بإعانة أخيه المغترب الذي رعى والدي وأمه التي طلقها فيما بعد وتزوجت ثانية.
كان حي السويقة هو عالمي البيوت متلاصقة والقلوب متآلفة يعرف الواحد منا سكان الحي فردا فردا ونتشارك الأحاسيس في الأفراح والأتراح وفي السويقة دخلت الكتاب وحفظت منه ما هيأ لي دراية باللغة العربية وعشقا لجمالياتها فحين دخلت إلى المدرسة كنت متفوقا فيها أحفظ الأشعار وأعرف سيرة عنترة وألف ليلة وليلة، وأحسن كتابة الفقرات الإنشائية فقد كان المعلمون يتخذونها دائما نموذجا للكتابة الجيدة وقد سبب هذا لي الحسد من بعض الرفقاء ولكنه حسد برئ ،غض، طفولي لاتأثيم فيه.
وحين عين والدي معلما في للعربية في بجاية – الناصرية- كما عرفت في تراثنا وقال فيها الشاعر القديم:
دع العراق وبغداد وشامها
فالناصرية ما إن مثلها بلد
وتحت إلحاح عمه الشيخ وزوجته تركني معهما وأخذ بقية إخوتي الذين صاروا فبما بعد تسعة: إسماعيل ولد عام 1968 والصغيرة ولدت عام 1969 وفاطمة الزهراء توفيت وهي في المهد ولكن الله رزق أمي بآخر بناتها عام1990 فسمتها فاطمة الزهراء وزين العابدين ولد عام 1973 وآمنة ولدت عام 1975 وخديجة عام 1976 وزينب ولدت عام 1978 وعبد الرحمن ولد عام 1980 وصفية ولدت عام 1982 أما أنا فبقيت وحيدا مع عم أبي الشيخ الطاهر الذي كنت أدعوه "بابا"أي أبي وزوجته العجوز مباركة التي كنت أناديها أمي،عرفت الدلال والحب المفرط فقد كانت أمي مباركة تحملني وأنا ابن خمس سنوات إذا طال سمرنا في بيوت الجيران أو الأقارب فقد كنا نتزاور ونتسامر وكان هذا يبلسم جراحي فغياب إخوتي أشعرني بالملل والوحشة على الرغم من الدلال والحب المفرط،وبقيت معهما حتى نلت البكالوريا عام 1986 وكان أبي الشيخ الذي رباني قد توفي عام1985 أما زوجته أمي مباركة فما زالت حية ترزق إلى اليوم وهي على عتبة التسعين.
في بيتنا مكتبة ضخمة تضم أمهات الكتب في الفقه والتفسير والأدب فقد كان والدي من حفظة كتاب الله ومن الفقهاء المتأدبين بدأ شاعرا ولكنه هجره ومما أحفظه له أيام الطفولة قصيدة يدعو فيها إلى طلب العلم:
دع الشعر فالعهد القديم قد انتهى
ومات امرؤ القيس العظيم وعنتر
فما ذا سيغني الشعر ياقوم عنكمو
إذا لم تجدوا في الحياة وتسهروا
وقصيدة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم في ذكرى المولد النبوي:
أهاجك شوق أنت الذي فيه تكابد
وحلت مع الأيام تلك المواعد
توسم في والدي مخايل النجابة وحب العربية والأدب فكان يشتري لي من الكتب ما يناسبني ويسألني أين وصلت في حفظ القرآن الكريم ،ويطارحني أحيانا الأشعار كلما جاء لزيارتنا في العطل فقد كان في بجاية ثم في برج بوعريريج وهي قريبة من بلدتي ولكن ظللت بعيدا عنه حتى المرحلة الثانوية.
يمكن القول في يقين أن المكتشف الأول لمواهبي هو والدي وبعض المعلمين في المدرسة فقد كانت تعجبهم مقالاتي الإنشائية وينبهرون من حفظي للأشعار وحسن الاستشهاد بها في الموضع المطلوب، وعلى العموم فبلدتي من خيرة قرى الجزائر التي أخرجت حفاظ الكتاب الكريم والمتأدبين الذين حافظوا على اللسان العربي وتقلد بعضهم مناصب رفيعة.
أحببت المطالعة كثيرا ووجدت صعوبة في مطالعة ما في مكتبة أبي كالأغاني والعقد الفريد وأدب الكاتب وخزانة الأدب وغيرها وما كان يجلبه لي أبى ألتهمه ولا أجد ما أقرؤه فيما بعد ولا يوجد في مكتبة المدرسة ما يشفي الغليل، واستعضت عن ذلك بحضور مجالس السمر خاصة مع أمي مباركة فقد كنت أستلذ مسامرات النساء وأحب سماع الأقاصيص والحكايات وأغنى ذلك مخيلتي، لكن إذا أخذني والدي في العطلة المدرسية لأقضيها مع إخوتي سارعت إلى شراء المجلات الثقافية والقصص وأشهرها المزمار وكانت تأتي من العراق ومجلتي من تونس والثقافة ومقيدش وألوان وغيرها.
أما أندادي فلم يكن لهم تعلق بالأدب فقد كان بعضهم يكره المدرسة وآخرون الكتاب ولكن نحب جميعا كرة القدم ونلعبها في الأزقة ونمارس معا شقاوة الصبا.
في الطفولة براءة وشقاوة وطيبة وخبث وأنانية وإيثار إنه عالم الكبار مصغرا وقد استمعت بطفولتي أيما استمتاع. لعبت الكرة وقطفت الزهور من الحقل ومارست الشقاوة وخفق القلب للأنثى ووشوشت في أذنها كلمات الإعجاب ولكن لم أفرط في المدرسة ولا في الكتاب أو في المطالعة ودفعني ذلك إلى الإحساس بالتفرد وأني مختلف ،إضافة إلى عيشي وحيدا مع عجوزين فلا صخب الأطفال ولا مرحهم وهذا أعطاني فرصة التأمل والميل إلى التفكير في الحياة والموت ولا يفصل منزلنا عن المقبرة إلا زقاق وشد ما كان يأخذني منظر النجوم المتلألئة في سكون الليل وتمايل شجر السرو والصفصاف وصياح الديكة في الفجر المضمخ بعبق الندى وقد ظلت قريتنا بلا كهرباء حتى عام1978 .
ومن منظر السماء الدامسة والنجوم أحببت الفلك وقرأت أساطير الإغريق والعرب واجتمعت لي معرفة فلكية بسيطة ولكنها مهمة لصغير ودفعني الفضول إلى حب المعرفة والاستطلاع فأحببت كتب الطبيعة كنت أحب أن أعرف عن البراكين والزلازل والميكروب والجاذبية ،ومن سؤال إلى صنوه أستولده من رحم السؤال ووجدتني فضوليا من الطراز الأول واقتحمت في شبابي عالم الفلسفة فقرأت ما وقع في يدي من كتب مبسطة عرفت داروين وسقراط وهوبز وسارتر وديكارت فقد كان في القرية مكتبة أنشأتها البلدية وأهدتها وزارة الثقافة كتبا قليلة ولكنها نافعة وقد سبب لي هذا مشاكل خطيرة فقريتي ناسها محافظون يؤِثمون الفلسفة وقراءها ناهيك عن الإعجاب بها واقتحمت آفاقها، وبدافع من التحدي والثأر لنفسي وحب المعرفة وإثبات الذات زدت من قراءة كتب الفلسفة وجادلت الناس حتى في المعتقدات مما أدى إلى عزوف الكثيرين عن مصاحبتي وحصري في دائرة الضالين، ولكني لم أكن أبالي استمرأت حلاوة الفكر ونعيم الحرية وامتصاص الرحيق من كل الزهور ورضيت بالضريبة "أن لا تكون مع المجموع يجب أن تعيش في عزلة وأن تسمع ما يجرح شعورك أحيانا".
لكني كنت أكره النفاق ولا أمارس شيئا لا أحبه أو أؤمن بجدواه وما أكثر ما سمعت من كلام في شخصي المتواضع فالناس يقولون أني لا أشبه والدي المتدين الفقيه ، خضت في دروب الضلالة ومسارب التيه في كتب الفلسفة والشعر المارق والقصص المنحل الذي كنت أقرؤه وما كان منحلا ،حتى والدي لم يكن يوافقني وتأذى من سماع ذلك ولكنه احترم قناعاتي وقدر في لوعة الفضول وشوق الكشف والإخلاص للحرف، وتمنى لي في قرارة نفسه أن أكون كما يراه الناس هو.
أما الحب الطفولي فكان ملهمي الأول وكيف لمن يحفظ الأشعار ويحسن تدبيج المقال أن لا يخفق قلبه للواعج الهوى وتباريح الصبابة واستراق البسمة وعبق الأنوثة والإعجاب من البنات ولكن حب الطفولة لا يمكن أن يوصف بالحب إنه انجذاب إلى عالم مغاير مختلف تختط فيه الطهارة بالغريزة والإعجاب بالجمال مع إثبات الذات والشاعر أقدر الناس على عشق الجمال وتقديره والتعبير عنه باللفظ الصادق الموحي المعبر عن حرارة الموقف وحرقة الشوق وألم السهاد وكنت كثير الاقتراب من الأنثى لا تفوتني الفرصة دون أن ألقي بعصاي فإذا هي كلمات عذاب تحمر لها الوجنات في خفر مصطنع وكيد أنثوي قابع في لاوعي البنت ، وعرفت حيلة العاشق الكلام الجميل يجلب المعجبات والتفوق في الدراسة يجلب الثناء والإعجاب والكتابة الجيدة مزيدا من الاحتكاك بالأنثى وما أكثر ما خصصتهن بالهدايا الحلوى الفرنسية خاصة والورد في أيار تعبيرا عن التقدير والمودة.أحبت في هذه جدائل شعرها وتلك لون عينيها والأخرى نبرة صوتها والأخرى أنوثتها الناضجة قبل الأوان وتلك حمرة شفتيها وتلك لونها القمحي وسم هذا ما شئت.
ولكنه ليس الحب الذي عرفته في الكبر حيث هو عبودية مطلقة أن تقف على الرمضاء ولا تشعر وأن تتحدى العرف ولو أدى ذلك إلى التباب حتى قلت صادق الزفرات والدمع والشهقات:
لا تقولي سلا حبيبي ميعادا
أنا لاأنسى من محضت ودادا
برعم في الحشا رعته الليالي
وحناني للحب صار سمادا
كيف أسلو عن توأم الروح يوما
كيف أرضى أن أستحيل جمادا؟
وأنا ابن الهوى أخاف الليالي
كم أحالت شوق القتاد المهادا!
وحتى أول مقال كتبته جادا كان غرضه إرضاء المحبوب ،أردت أن أثبت له جدارتي بالكتابة في كبريات المجلات العربية فنشرت في "العربي" "والمنهل" "والجيل" "وأخبار الأدب" "والرافد" وأحمل إليه تلك المقالات منشورة في تلك المجلات وحتى أول كتاب كان المحبوب هو الدافع إلى كتابته "وهج الأربعين" كان ثمرة مشاعر جارفة ورغبة في احتكار الآخر وامتلاكه مدى الحياة.
حلمت في طفولتي أن أكون كاتبا كبيرا كطه حسين أو نجيب محفوظ أو العقاد وكنت أراهم في أحلامي من فرط التفكير فيهم ومعرفة كل كبيرة وصغيرة عنهم فضلا عن التهام مؤلفاتهم التهاما، وأعتقد أني حققت جزءا يسيرا من الحلم ولكنه ليس الشيء الذي يرضيني وليست العبرة هنا بالشهرة وإنما بالإبداع الحق والإضافة الحقيقية والتمكن الصرف فأين أنا من هؤلاء؟
ما زلت مصرا على الكتابة فهي هوية وانتماء وقطب الرحى ومدار الوجود ولكن الأيام علمتني أن لا أكون كاتبا تحت الطلب ولا ساعيا إلى جائزة نفطية أو حوار متلفز أن أعشق الحرف في مودة هادئة وعشق صوفي وأمارسها دون إكراه أو طمع في مأرب دنيوي ولست أدعي الصوفية ولا الزهد ولكن الماديات في المقام الثاني. وكم نشرت في مجلات مهمة ولم أسأل عن حقوقي حتى حين سرقتني وزارة الثقافة الجزائرية في كرنفال سياسي أسمته مشروع الرئيس لطبع ألف كتاب ،أخذت مني كتابا استنفذ أربع سنوات فكرا وجهدا وسهرا وطبعته ووزعته في مكتبات الجمهورية ولم تعطني إلا ما يعادل ثلاثمائة دولار وفيه ست وعشرون مقالة نقدية نشرت في مجلات محكمة في المشرق والمغرب وحين بحثت عن الكتاب لأشتريه وأهديه إلى بعض معارفي لم أجده ويا للعجب وجدته ضمن مقتنيات مكتبة جامعة الإسكندرية!
أثمن الجهد وأحترم المبدع مهما كان سنه أو جنسه أو قناعاته ولا أشعر بالغيرة أبدا بل أشجع وأتمنى لمن هو حقيق بكلمة مبدع التوفيق ولكن أكره المتطفلين والأدعياء والمتملقين وحملة الشهادة للمباهاة الكسالى النائمين وأرفض الانتماء إلى اتحاد الكتاب الجزائريين لرداءته وجمعه الغث مع السمين والمبدع مع الدعي والمنافق مع المخلص وأحب قول الشاعر العربي مجتهدا في العمل بمقتضاه:
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثـــوان
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها
فالذكر للإنسان عمر ثــــان
ومما يخص حياتي الميل إلى التأمل ونبش بطون الألفاظ والنظر في كل شيء حتى المقدس وأحترم الإنسان وإبداعه مهما كان فكره ومعتقده وحتى نمط حياته، وكراهية النفاق والبعد عن الرسميات ونبذ السلطة لأنها مجلبة للشبهة والرياء وهذه قاصمة الظهر وخانقة الفكر وناحرة الإبداع الحق مؤمنا بقوله تعالى:" فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض."
في الطفولة قرأت شعر الغزل وأقاصيص عنترة وسيف بن ذي يزن وألف ليلة وليلة فضلا عن حكاياتنا الشعبية "مقيدش" "بقرة اليتامى" "صغرونة والغولة "ثم اقتحمت عالم الشعر خاصة الغزل شعر جميل وكثير وعرفت ميخائيل نعيمة وجبران وطه حسين ومعروف الرصافي .وأحببت مجالسة الشيوخ للاستماع إلى كلامهم حتى في السياسة القومية وعبد الناصر وبومدين والاشتراكية والحرب الباردة فقد كان حلاق القرية مثلا مهتما بها ونوادرهم وتاريخ البلد والعادات القديمة وأحببت في قريتي الراعي وكتبت فيه قصة بعنوان "العربي ولد صالحة" نالت الجائزة التقديرية عن اتحاد كتاب العراق عام 2007 وكتبت عنها جريدة الشروق الجزائرية،كما أحببت المعدمين وتعاطفت معهم: دعدونة وعياشة والحشاني وكان مريضا بالربو وحين يكون أمام بيتنا تنتابه النوبة وأكون حاضرا أحيانا فينفطر قلبي لألمه وخصصتهم جميعا بكتاب "ديوان الحكايا" الصادر في القاهرة عام 2011 عن دار إيزيس للطباعة والنشر.
وحين صرت في الجامعة كان أصدقائي المؤبدين هم نجيب محفوظ وحنا مينة وميخائيل نعيمة والطيب صالح وسارتر والخيام وأدونيس والسياب ودوستيفسكي وغيرهم كثيرون.
تجدر الإشارة إلى أن أول مقال كتبته كان في الجامعة وللإفادة فحين نلت البكالوريا عام1986 أصر والدي الكريم على أن أدرس الشريعة في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة وكان يدرس بها الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله- والدكتور صبحي التميمي ويزورها من حين لآخر الشيخ البوطي والقرضاوي وأحمد شلبي وعبد المجيد الزنداني وغيرهم ورفضت لكن والدي أصر فأضعت عامين أقرأ الكتب التي أستعيرها من مكتبة الجامعة أو أشتريها ليلا وأنام في النهار! ورسبت في النهاية وفعلت نفس الشيء في العام الثاني حتى اقتنع والدي بعدم جدوى الإصرار والإلحاح فتركني وشأني وكانت رغبتي أول الأمر أن أدرس الاقتصاد في جامعة سطيف نظرا لتفوقي في الرياضيات فقد نجحت في الامتحان الذي أجرته الكلية ثم أن الاقتصاد مادة علمية تتيح لي التبحر في الرياضيات وكنت أحب العلوم كالطبيعة والفلك أما الأدب فهواية وعشق وهكذا خططت لكن والدي مانع فأضعت الفرصة ثم اخترت الأدب العربي في جامعة قسنطينة ولم أستفد شيئا - اللهم إلا من كدي وسهري وعصاميتي- فقد كان الكثيرون من حملة الدكتوراه من الفارغين لا مؤلفات لهم ولا مقالات إلا التظاهر بل منهم من يعجز عن ارتجال كلمة سليمة في مجمع أكاديمي وتلك مصيبة البلد المبتلى اليوم بالأدعياء في السياسة والاقتصاد والثقافة والدين ، وسوف يدفع الثمن الناس يوما ما."إن البناء الهش الكرطوني والكذب على النفس لن يدوم طويلا" وفي الجامعة كتبت أول مقال عن العقاد وطه حسين ردا على علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر- رحمه الله- ونشر بجريد الشرق الأوسط اللندنية وكتب إلي نائب رئيس التحرير الأستاذ محمد خليفة التونسي يستزيدني من الكتابة. لكنني لم أفعل فقد دخلت في مرحلة بحث عن الذات وضياع كاد يودي بي!
ومما أحفظه من هرطقات الصبا هذا البيت الذي كتبته في المرحلة الثانوية يعبر عن الطموح:
مرادي عظيم وعزمي شديد
مراد السريرة مجد تليـــــد
كتبت الأشعار ومزقتها ، وأتهيب من نشرها وعندي منها الكثير.
أؤمن بمقولة وورد زورث" لاتتسرع دع الزمن يفعل فعله فالانفعال الأهوج مصيره أن يكون هباء "أو في هذا المعنى.
كتبت القصص ونشرت منها في القاهرة "ديوان الحكايا"وكتبت الدراسات النقدية عن السياب وأدونيس والشابي وجبران،وحنا مينة، وعمر الخيام والنزعة الإنسانية في الأدب المهجري وغيرها لكني أتجه الآن إلى الرواية وعندي مشروع دون أن أنسى عالم الشعر كممارسة لها طقوسها بعيدا عن المتطفلين والطالبين مجالس سمر وقد شاركت في ندوات وأمسيات داخل الوطن وخارجه. كما أحب الكتابة في الفلك فهذا العلم يستهويني ربما لأن السماء تمثل اللامحدود والمطلق والسامي والبلوري والأثيري الشفاف ومعرفتي به دقيقة – دون ادعاء- فقد كتبت في مجلات مختصة وشاركت في ليالي الرصد خارج الوطن وتأتيني دعوات من خارج الوطن لإلقاء محاضرة أو المشاركة في ندوة وآخرها من الجمعية الفلكية العمانية في رحاب جامعة السلطان قابوس.
عشت مرحلة مراهقة صعبة اختلطت علي المفاهيم والغاية من الوجود وتماهى عندي المقدس والمدنس والخير والشر والصحو والغيبوبة وتركت ممارسة ما يمارسه الناس من شعائر تعبيرا عن مديونية المعنى وتناسيت ما يقوله الناس في، كنت أبحث عن الأنا وراحة اليقين وسكينة العرفان ولذة المعرفة وأمعن في دراسة الفلسفة والتأمل وركبت موجة الحرية بلا قيود ولا روادع"الإنسان سيد مصيره هو الفوق والتحت هو الأول والآخر هو المبتدأ والخبر، أنا حر إذا أنا موجود.
ومن فلسفة سارتر ورباعيات الخيام ونظريات ماركس وداروين ونمط حياة رامبو وامرئ القيس وأبي نواس انفلت من المعالم ،فكم ارتكبت من حماقة وكم أتيت من سفاسف الأمورمما أكره مجرد التفكير فيه في مرحلة النضج والاستواء.
عندي خمسة أولاد هم الورد والشذا واللفظ والمعنى والقلب والنبض ،هم معقد البقاء وقطب الرحى ومدار الوجود،البهجة والنشوة والسلوى في خدمتهم واللعب معهم ومحاولة تثقيفهم بالهوينى والتؤدة: نور الهدى ولدت عام 1996 وخولة عام1999 ومريم عام2003 وريحانة عام2005 وآخر العنقود محمدعام2007 ولد في نفس الشهر الذي ولدت فيه شباط.
أما الزوجة كريمة زهار فقد ولدت عام1972 ما حققته من نجاح فبفضل الله ومعونتها آزرتني وشجعتني وأخلصت الحب والوفاء والصبر على الرغم من ارتكابي حماقات كثيرة ولكنها صاحبة قلب عطوف بار مخلص رحب كالسماء سمح كالضرع نافع كالغيث حلو كالعسل فلولاها ولولا مساعدة الوالد ودعاء الوالدة وتوفيق الله ماحققت شيئا.
وأستسمح القراء من الإفاضة حد الإملال أحيانا.
who, whoever, whom, whosoever, from, of, than [من]