إنَّ الواقع المأساوي الذي ساد في العراق في ظل الاحتلال وعبث الجماعات المسلحة ذات التوجهات الدينية المزعومة أو السياسية الملغومة، جعله يعيش وضعًا مفعمًا بالصعوبات والتعقيد، وبعيد الأثر السلبي في مجالات الحياة جميعًا، وهو وضع غني بالأحداث، وكفيل بتوفير المواد التي تصلح للإبداع في فنون التعبير، لو تهيَّأت وسائل الإنتاج للمبدعين. وتأتي مسرحية "أمراء الجحيم" لتشكل ملمحًا مهمًا من ملامح الإبداع في هذه المرحلة من مراحل تاريخ العراق الحديث، ولتسجِّل بجرأة واضحة أهم ما يمكن تسجيله من المسببات التي تعبث بمقدرات هذا الوطن الجريح، دون أن تعبأ بالنتائج، فهي أوضح مِن أنْ يعتني بها عمل فني قصير ومركَّز كـ"أمراء الجحيم".
ركَّز المؤلف الشاعر العراقي عبد الرزاق الربيعي على الجماعات المسلّحة التي تتخذ من الدين ستارًا لأعمالها الإرهابية الفادحة وعلى الآمرين والذين يسمون أنفسهم الأمراء بمثل هذه الأعمال، كما يشي عنوان المسرحية بذلك، وأماط اللثام عن الطرق الإجرامية التي تتخذها هذه الجماعات وسائلَ لتنفيذ مخططاتها اللا إنسانية، وهي تتخذ من العراق ساحة حرةً لذلك كله.
وما يلفت الانتباه أنّه اعتنى بالحوار اعتناءً واضحًا من حيث اشتماله على اللهجات المختلفة للتعبير عن الأحداث بالدقة المطلوبة، لاسيما وأنَّ جنسيات الأبطال متعددة، ولهجاتهم مختلفة تبعًا لهذا التعدد، وإنْ جمعهم مكان واحد هو العراق. ولعله عمد إلى اقتراف الأغلاط النحوية في الحوارات باللغة الفصحى ليدلَّ على جهل هؤلاء، وسطحيتهم، وعلى أنهم طارئون على التدين. ومما يلاحظ أنَّ عبد الرزاق الربيعي اهتمَّ بذكر الأسماء الحقيقية لأمراء الجحيم ومن يأتمر بأمرهم وكُناهم وألقابهم، فنحى بالمسرحية منحى تسجيليًّا أو لنقل تأريخيًّا، ولو استبدلها بأسماء دلالية ورمزية لكان أوسع في التأريخ للحدث، وأبلغ في الإشارة إلى حدوثه، وأكثر اتساقًا مع الفعل الدرامي. غير أنَّ الأهمية القصوى تكمن في قدرة المخرج والممثل فاروق صبري على تنفيذ هذا العمل، الذي ينبغي أن يكون معقدًا، بأبسط أدوات الإنتاج، حيث اختصر شخوص العمل المسرحي ببطل واحد، وقام هو بتجسيدها جميعًا، فجعل من المسرحية مسرحية ذات بطلٍ واحد. وقد استخدم تقنيات رمزية للتعبير عن الشخصيات كالأقنعة والدمى، أو صوتية لأداء طريقتها في الكلام، من خلال تمكنه من استخدام تلونات نبرات صوته المسرحي في التعبير عن الشخصية من خلال الحوار، أو الوفاء بمتطلبات كل لهجة من اللهجات فأبدى من أجل ذلك قدرة فائقة في الأداء من حيث تماسك الفعل المسرحي والانتقال من حوار إلى آخر مع المحافظة على ملامح هذه الشخصيات والحفظ المتقَن لنصوصها الحوارية، كما دلَّ على خبرة غير عادية في الحركة على خشبة المسرح.
إنَّ عملًا كهذا كان ينبغي أن يتم تنفيذه بالإمكانات الكبيرة التي لا تقف حائلًا أمام تعدد الأبطال، وتوفر جميع أدوات الإنتاج، كأنْ ترعاه مؤسسة حكومية أو ثقافية متمكنة، ليخرج العمل كما ينبغي له أن يخرج للنظارة، غير أنَّ فاروق صبري بدا قادرًا على تحدي الصعاب، فجعل من قدراته الذاتية مخرجًا وممثلًا ومنتجًا والمَعين الوحيد لتنفيذ هذا العمل الجاد. إنَّ مسرحية "أمراء الجحيم" أتاحت للفنان المبدع فاروق صبري أن يكون فيها الأمير الوحيد!