على عتبات تهاويل الخيال تجمح بالمرء درجة من الجنون، وصورة الماضي درجة من درجات الواقع مفروضة تشده إلى الأرض والعقل، ومستقبل يقود الحقيقة العاقلة والجنون يتردد صدى وصوت وأحلام وواقع واجترار لجملة أنا كنت.....؟ واقتناص لأخرى أريد أن أكون! هنا تعددت معاني الموت والحياة في خيالات الأمير الأموي عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، في داخله يركن ماضِ فسيح لمُلك وفتح وثورات وثوار وبناء وازدهار ودعة ملك ونعيم حياة... وانتبهت عينه الغافية، وما كان لها أن تغفو وهي العاقلة لمعرفة العقل بتقلب ساعات الحياة على قضاء قَلب كل الصور التي أثبتتها الصفحة السابقة له، انتبهت عينه وقلبه على ما يفوق خيالات الضياع، ومعان لا تنتهي من ألوان الموت، ذاك درس من الحياة، ولها دروس تصعب على أفهام الألباب وحجج العقول، إلا من أحضر فهمه، واستجمع له السمع والبصر، وعزيمة لا تزلزلها الانكسارات، وتربو بصاحبها، وتفتح له طيات انتصارات القدر. سقطت دولة بني أمية، قوم الرجل في دوي هائل أسمع ما بين السماء والأرض وتتبع المسقطون لها "العباسيون" أفراد البيت السابق بالقتل والإبادة، فانطلق الشاب الأمير يقطع الدولة غربًا، موغلًا في البعد عن الشرق، مركز الدولة القادمة، إلى أن عبر مضيق جبل طارق، لينتهي به المطاف في الأندلس، حيث العصبية القبلية تهد أمن البلاد، وتعصف باستقراره، وعدو للدين متربص بالمسلمين، يأخذهم كلما حانت له فرصة اختلاف بينهم يتبعه ضعف. والضعف يغري بالعدوان! والنفوس إن جُبلت على الملك استحال عليها الالتحاف إلا به تحت سماء تُظل الأرض.
على الطرف الآخر للدولة، كان أمير المؤمنين القادم بهيبة التاريخ لبني هاشم، أبو جعفر المنصور، يضرب أوتادًا لملك جاء بعد دولة أفسح التاريخ لإنجازاتها، وكان عليه أن يبدأ من حيث انتهت، -على عداوة الملك بينهما- ويفتح لدولته في كتاب التاريخ صفحات!. حاول أن يستعيد الأندلس من ذلك الداخل إليها يحمل مجد أجداده الفاتحين لها ولغيرها من بقاع الأرض، ولم يستطع فما أعاد المحاولة! وأقر بالواقع! بل وحمد الله أن جعل بينهما بحرًا! قال يومًا لبعض جلسائه: "اخبرونى من صقر قريش من الملوك؟ قالوا: ذلك أمير المؤمنين الذي راض الملوك، وسكّن الزلازل، وأباد الأعداء، وحسم الأدواء (يقصدون أبا جعفر المنصور). قال: ما قلتم شيئًا. قالوا: فمعاوية ؟ قال: لا. قالوا: فعبد الملك بن مروان؟ قال ما قلتم شيئًا. قالوا: فمن يا أمير المؤمنين؟ قال: صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية الذى عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدًا أعجميّا منفردًا بنفسه فمصَّر الأمصار، وجنّد الأجناد، ودَوَّن الدواوين، ونال ملكًا بعد انقطاعه، بحسن تدبيره وشدة شكيمته! إن معاوية نهض بمركب حمله عمر وعثمان عليه وذلَّلا له صعبه ، "أي ولايته -رضي الله عنه- على الشام في عهد الفاروق وذي النورين" وعبد الملك ببيعة أبرم عقدها، وأمير المؤمنين "يعني نفسه" بطلب عِترته واجتماع شيعته، وعبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد بأمره مستصحب لعزمه، فمد الخلافة بالأندلس، وافتتح الثغور، وقتل المارقين وأذل الجبابرة الثائرين". هكذا فهمها المنصور، مثل هذا الصقر القرشي لا يقاوم، واعترافه نشوة القرشي بالقرشي، وإن ضربت العداوة جذورها بين بيتيهما، فأي حق ذاك الذي ألقى بتحيته له المنصور إكبارًا؟.
(الداخل) إضافة لاسم عبد الرحمن مجدد الدخول الأموي للأندلس، نَقش خاتمه: (عبد الرحمن بقضاء الله راض، وبالله يثق، عبد الرحمن به يعتصم)، ولا عجب فمن أين جاءته كل تلك العزيمة لو لم يكن بالله يعتصم ويثق وبقضائه يرضى؟.
عبد الرحمن الأمير الأموي رجل الدولة الحق راض المُلك و جّند الأجناد ودون الدواوين.... هو الذي أرهقه الفراق والبين، وإذا كان الشعراء قد وقفوا على الأطلال ومنازل الأحباب وهيج أشواقهم إلى بلادهم وأحبابهم هديل حمامة، فإن نخلة منفردة في أقاصي الغرب، بعيدة عن موطنها، ذكرته بحاله وهو الشامخ كالنخلة في بلاد بعيدة يقول :
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة.. تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت : شبيهي في التغريب والنوى.. وطول التنائي عن بني وعن أهلي
نشأتِ بأرض أنتِ فيها غريبة .. فمثلك في الإقصاء والمنتهي مثلي
سقتك غوادي المزن من صوبها الذي.. يسحُ ويستمري السماكين بالوبل
للنخلة بتراث العربي صلة قربى، كائن يضرب بعمق الخِلقة، لا كائن مؤقت، قيل إنها من تربة آدم خُلقت ، يهوي قلبها الجمار، ناصع البياض، غض التكوين، فتموت بهويه، كما يموت ابن آدم حين يهوي قلبه النابض بدقات الحياة، وإن قُطع رأسها أصبحت جذعًا مفصول الرأس، كهامة سقطت عن جسد غادرته الحياة إلى غير رجعة. وبين أن نغادر الحياة بموت، ونعود بعمق إلى التراب الذي منه كانت النشأة، ونغادر تراب الوطن ومفرداته ما التصق بنا وما انفصل، ويشدنا إليه الحنين، فارق كبير! في الأول نعود إلى باطن منه خرجنا، نلتحف المكان، يطوينا إليه الحنين، وفي الثاني جمرة الشوق تتقد، لأن المنفى رمية حجر من موطنه، إلى سطح البعيد. يتحد الزمان، ويُرغم المكان الجسد على الانفصال. صورة ذهنية قدمت التعابير بسلطة مرغمة، اختيارات وبدائل انطلقت من محتوى اللاوعي في لغة واضحة، وانتقال رشيق من ضمير إلى ضمير. وشرفة نفسية أخرى يقف بها الشاعر الأمير ، جدلية الماضي والواقع، بكل نبرة للألم الساكن والمتحرك، في عزف أخاذ لنغمة الغربة يقول:
أيها الراكب الميمم أرضي.. أقر من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرض.. وفؤادي ومالكيه بأرض
قدر البين بيننا فافترقنا.. وطوى البين عن جفوني غمضي
قد قضى الله بالفراق علينا.. فعسى باجتماعنا سوف يقضي
صعوبة الإمساك بالأفكار أثناء انسيابها، وصعوبة إيقافها لفحصها، بصعوبة التوافق بين القدر الكائن في زمن الوطن الأصلي، والقضاء المقدر برمية الحجر إلى سطح المكان البعيد، ومد وجزر بين عتمة الفراق، وأفول مُلك، وإشراقة صفحة جديدة منه، في زمن يفصل الفؤاد عن الجسم.. عن مالكيه! والغمض عن الجفون، عن ذهن لا يتصور من المكان، إلا أنه ذاك الفاصل القاسي الذي لا يرحم!
عبد الرحمن يروض المُلك شأن بني أمية الذين جُبلوا على رياضته، ويروضه الفراق بصعوبة التوافق مع الموطن الجديد،وهو بقضاء الله راض.
التدقيق اللغوي: سماح الوهيبي