أتى أمر الله وقضى الشاعر المهندس سليم عبد القادر زنجير، وكتب الله له الراحة الكبرى بعد معاناة أليمة، نسأل الله عز وجل أن يرفعه بها درجات في الفردوس الأعلى. وكان نظام البعث قد حكم عليه بالإعدام حضوريًا عام 1979 لكن الله سبحانه وتعالى نجاه وكتب له عمرًا جديدًا مثمرًا أتم فيه دراسته وأنجب أولاده ونظم فيه أشعاره. وحينما دعيت لمقابلته تصورته بشكل معين، فإذا بي أرى شابًا رقيقًا نحيل الجسم، خفيض الصوت، جم الكياسة والتواضع والتهذيب، طليق اللسان يعبر دون خجل عن الواقع بصراحة لايغيب عنها المرح.
وفي المرات القليلة التي التقيته بها بعد ذلك لم أجده قد تغير، وإنما اكتشفت فيه صفات الزهد والكرم مع اعتداده الشديد بكرامته ولم يكن يهتم أبدًا بجمع المال واكتنازه فإن أتاه أحله بمنزلة العبد وليس بمنزلة الصنم. وكان سليم يرحمه الله لا يتخلى عن كياسته ورقته أبدًا وكان يراعي مشاعر الناس، فلم يكن يتكلم إلا بحساب مراعيًا ألا يغمط أحدًا حقه وألا ينسى من أحسن إليه ولو بنظرة أو ابتسامة. وكان مسامحًا لكل الناس ولا يجد في الحياة ما يستحق الخصومة أو أن يحمل الانسان في نفسه شيئًا، فكان سعيدًا مرتاحا. ومع ميله للشعر والأدب فإنه كان يحب الرياضيات ويعلمّها لأولاده كعلم يحبه ويفهمه ويندمج فيه ويستنطقه ويتكلم عنه. وكان رحمه الله يمتاز بالشجاعة في التفكير ومواجهة المشاكل، فلم يكن يلجا للهروب واللف والدوران، بكل كان يجلو لب المشكلة ويصل إليه بسهولة سواء أكان قادرًا على التصرف حيالها أم لا. وكان لديه مكتبة ضخمة جمع فيها كتب اللغة والشعر لتعنيه في دربه الذي اختاره.
وقد أحس سليم بفجوة في تراثنا الأدبي تتمثل في غياب شعر الأطفال وأناشيدهم وأهازيجهم، وأحس بقدرته على سد هذه الفجوة، فترك عمله ووضع شهادة الهندسة على الرف وتفرغ لكتابة أشعار الأطفال وأخلص لها. وجمع حوله أخويه عبد الله، وصديق عمره محمد سداد عقاد فأسسوا شركة سنا للإنتاج الإعلامي التي حولت أشعاره إلى أغان جميلة مصورة بطريقة الفيديو كليب. وقد وفّقه الله وأصبحت أناشيده على لسان الأولاد في كل مكان ينطق أهله بالعربية. وفي بلاد المغرب العربي حيث فرنسا حاولت فرنسا محو اللغة العربية عبر احتلال دام أكثر من قرنٍ من الزمان شرّد معظم السكان في الجبال ودمر الكثير من المكونات الثقافية، أخدت الأمهات يهدهدن لأطفالهن بأشعار سليم عبد القادر التي وصلتهم عبر أناشيد الطفل والبحر ليناموا على ألحانها بدلا من "فريرو جاكو، فريرو جاكو، دورمي فو، دورمي فو، سونّي لا ماتينو دين دان دون". وصارت أشعاره وسيلة لتعليم الأطفال العرب في مهاجرهم مبادئ الإيمان واللغة العربية الفصحى السهلة الواضحة.
ولا أظن أنه يمكن لسليم أن يمضي ليسكن على رف المكتبة في ثلاثة دواوين ألّفها وينساه الناس بعدها. فهو لم يصطنع أشعاره كتمرين عقلي وجهد لغوي، لا، بل كان قلبه هو الذي يتحدث بكل الصدق والجرأة والشفافية والإخلاص، بكل الموهبة الشعرية التي حباه الله بها بلا تكلّف ولا تصنع. كان يصوغ نبضات قلبه وشعاع روحه شعرًا يتضرّع به إلى الله سبحانه وتعالى, يعبّر لنا فيه عن إيمانه وآلامه وأفكاره وأحلامه، عن حبه للوطن، عن تفجّعه لأخيه الشهيد وخوفه على إخوته العالقين في السجن ورثائه لأحبته الذين مضوا. وكان يعبر عن قلبه الطفولي المبتهج بالطبيعة وبتسبيح الله عز وجل. وعبر سنوات طويلة ماضية كانت أشعاره تعبر عن ضميري وأحاسيسي فكنت أتلوها على أهلي وأصدقائي وأحفادي كلما ضمنا مجلس مناسب، وتخطر لي حين أكون وحيدًا لأنها تتحدث بلساني كأفصح وأوضح ما يكون. لن يغيب سليم لأن ما صدر من القلب فهو يسكن القلب، ولن يغيب لأنك ستجده دومًا في أشعاره، ولن يغيب ما دام الأطفال يظلون يغنون قصائده الراقية والسهلة في آن معًا.
كان ذكر الله وتسبيحه والتضرّع إليه أكثر ما يطالعك في قصائده. وكان تسبيحه لله رقيقًا لطيفًا يردده البحر والنسيم، والنحلة والفراشات والشجر:
فقد قال في قصيدة "الطفل والبحر" :
وقــال البحــر: يا ولدي سَـلِ الأســماك في كبـدي
وسَلْ موجي، تجد قلبـــي بحـــب الله قـد هتفــــا
إلــــهُ الكون سـواني ومــن يرعــــاك يرعـاني
تبسم بعدها الطفــــل وحيّا البـــحر وانصرفــــا
وقال عن "الشجرة" :
وتظل في ذكــــرٍ للهِ، أو شـــــــكرِ
فالله أبدعــــــها من بذرة شجـــــرة
وقال عن "القمر":
فتبارك اللــــــهُ من كان ســــواهُ
والنور أهــــــداهُ كي يسعد البشـــرا
وقال هو بلسانه مناجيًا الله عز وجل في قصيدته "آلاء" :
روحي بحبكَ هائمٌ مشغـــــــولُ والقول أبعدُ شأوه التمثيـــلُ
فلأنت أعلمُ بالفؤادِ وَوَجْــــــدِهِ ربٌ، وعبدٌ، فالكلام يطــــولُ
ينساب حبك في كياني كلــــــهِ نبضًا زكيًا، كالعبيرِ يجـــولُ
والفكر يبقى في هوالك محلقــــًا كالطير في عرض السماء يصولُ
وأعيشُ فوق الأرض، لكن وِجهتـي ومطامحي الكبرى، إليك تــؤولُ
ويقترب كثيرًا من الله فيخاطبه بكاف المخاطب وكأنه يفتتح الصلاة: "سبحانك اللهم وبحمدك"، فيقول في قصيدته "سؤال" :
أحبُّك حقًا، فأنـــت الحبيــب وذِكْرُك روحٌ وأُنس وطيــــبْ
أحبُّك حقًا، وأعلم أنــــــك ربي، وأنك مني قريــــــبْ
أحبُّك حقًا، وأحيا بحبـــــك لكن عمري كثير الذنــــوبْ
إذا غبت ذات دجى في التراب ولا ريب في أنني سأغيـــــبْ
وإن جئت تسألني عن حياتــي فماذا أقولُ؟ وكيف أُجيـــــبْ
ثم يعبر سليم عن حبه لوطنه بأشكال شتى في أغاني الأطفال فيقول في قصيدة "القمر" :
إن كنت في سفــــــرٍ أو كنت تنتظـــــرُ
سلّم على وطنــــــي يا أيها القمــــرُ
هذي البلادُ لنــــــا نهوى روابيـــــها
أمجاد أمتنــــــــا مرسومة فيــــــها
الله أبدعـــــــــها بالروح نفديــــــها
ويقول في قصيدة "الأرض أرضنا" :
الأرض أرضنـــا حقولـــها لنـــا
إنّا نحبــــــها كمــا تحبنــــا
الأهل مبعـــدون في الأرض متعبون
متى سيرجعــون ليرجع الهنــــــا
فؤادنا المحــزون بها مسكــــون
والله لن تكـــون يومًا لغيرنــــــا
ثم يتألق في "أشواقه الحلبية" في ديوانه "نعيم الروح" متحدثًا عن حلب وقد اقتلع منها معصوب العينين، مقيد اليدين والرجلين في شاحنة السجن عام 1979، ولم يعد إليها بعد ذلك أبدا، حتى وافته المنية أمس الأول. فيقول وكأنه يتغزل في حبيبة شابة ، وهو مسلوب بحبها، حيث يتجه إليه الشاعر ناصحًا أن رويدكَ وفيما نتابع الحوار بينهما ينشغل فكرنا بمعرفة من هي هذه الحبيبة وما شكلها:
إلى وجهِ الحبيبةِ هل تتــوقُ وقد رحل الشبابُ؟ أما تُفيـــقُ
لقد فارقتها عشرين عامـــًا وأنت لوجهها أبدًا مَشُـــــوقُ
ألم تنسَ الهوى يومًا؟ أتبقـى يُذكّركَ الهوى قلبٌ خَفــــوقُ
أتأسى حين تذكرها وحيــدًا ووجعك باسم فينا طليـــــقُ
ألم يمتِ الحنين مع الليالـي وطبع الموت بالدنيا لصيــــقُ
أتبقى في هوى حلبٍ شـغوفًا ولو صدّتْ، ويُرضيكَ العُقـــوقُ
وقد عبر بقصيدة رائعة سماها "إمرأة" عن انبهاره بامرأة فلسطينية استلت خنجرًا وهاجمت به أحد جنود الاحتلال مواجهةً ومجد بهذه القصيدة كل أمرأة عربية :
أحقيقةٌ أنتِ أم خيـــــالْ يا امرأة تنكأُ جُرحَ الرجــــالْ
يا امرأةً أسطورةَ أشرقتْ حين ضميرُ العالمِ استقــــالْ
من الذي دعاكِ أن تطلعي وتسكبي في الأفقِ هذا الجـلال
أيُّ ضياءٍ مرهفٍ آسـرً أغراك بالمجد وحسنِ الفِعـال
أيُّ إباءٍ شامخِ مُغضَبٍ أغراك يا سيدتي بالقتــــالْ
بطعنةٍ من خنجر قد جلت قبضتك الحرةُ معنى النضــالْ
وأوجزت قصتنا كلــــــها في لحظةً، في موقفٍ، في نزالْ
وعن ضمير العالم يقول سليم واصفًا موقف الغرب من أهل البوسنة بما ينطبق اليوم تمامًا على سوريا :
يشمخ الغرب مزهوا بخستــه وقد تعرى قبيح الوجه مخمـــــورا
يشاهد المحن السوداء ممتعضًا جهرًا، وسرًا قرير النفس مسـرورا
لو اليهود الضحايا شِمت همته أمضى من الريح إنقاذًا وتحريـــرا
لو أنكم قطط جرباء أسعفكم لكن محنتكم أن تحملوا النــــورَ
فراح يغضي عن الجزار في سفهٍ وليس يسألكم عذرا وتكفيـــــرا
ومن قصائده الرائعة رثائه للزعيم الإسلامي الشاعر السفير عمر بهاء الأميري رحمه الله فيقول:
عَبرتَ الحياة بقلبٍ كبيرِ وروحٍ مشعٍ، ولبً بصيــرِ
عبرت الحياة فأطلقت فيها صفاء الحياة، وضوعَ العبيرِ
وهبت حياتك لله وجــْدًا وعشت مع الله جم الحـبـور
وللناس عِشت ضياءً ورِيًا كنجم السماء، كماء الغديــر
من المغرب العربي إلى الهند من كل صقع عريق أسـيـر
حملت الهمومَ، كأنك أنت الوكيل الوحيد بسدِّ الثغـــورِ
وتظهر سخريته في أبيات بسيطة خالدة تحكي عن حلب:
ربيع مر بي فيها أنيـقٌ تعقب حُسْنهُ الزاهي حريـــقُ
وجاس خلالها من غير ذنبٍ جَنَتْه الموتُ والرعبُ الصفيــق
وشرّدنا الرفاق بـكل دربٍ ولم يرفق بنا يومًا رفيــــقُ
كما حكى عن الأمن في سوريا:
وصِرنا إلى عدل، وطاب زماننا وصار يسير الأمن حيث نسيرُ
ومن شدة الأمن اللذيذ ترى الفتى وقد نام حرًا قام وهو أسيـرُ
وصار يمر الشهم منا وكفـه على رأسه: هل طار؟ أم سيطيرُ
مضى سليم إلى رب رحيم، وترك خلفه أمًا وزوجة وبنات وأولادا، ترك إخوة من أبيه وأمه وترك إخوانا في الله. وأنا افتقدته أخًا محبًا وإنسانًا ذو عقل كبير يعمل، إنسانًا منصفًا مؤمنًا مواسيًا مهذبًا وأخًا جديرًا أن تتوقع وتطلب منه كل خير ومساعدة، وافتقدت فيه شاعرًا يعبر عنا تعبيرًا نُطرب له ولا نحسنه. أحسن الله إليه وألهم ذويه الصبر والسلوان.
_________________
* الصورة نقلا عن شبكة الإنترنت.