بذرة وُجدت في تربة، رَبَت مريضة من أخلاط مياه ورفعت عودًا رقيقًا هينًا تعلن به حياة ضعيفة، لكن الجذور الغضة أحست بماء لؤلؤي غني طيب ينساب بين الأخلاط ويدنو ثم يغمرها ويصل قلبها فاستعذبته وانتفضت تعوض ما فاتها. انتشى العود واخضر وأضحى شجيرة تعجب الناظرين. لكن الحال تبدلت بغتة بعدما ألفتها الشجيرة. هبت ريح جافة من كل صوب واغبرّ الجو. تشققت الأرض وتجافت عن الجذع والجذور وانقطع الماء العذب وبقيت الأخلاط. تعاظمت المعاناة وتنكرت الحياة. خفتت نبضات الشجيرة في جنباتها متعللة بمياه منفرة وهواء رديء، وتكلفت بجذعها وأفرعها وقلبها الصبر والصمود في ريح كاتمة قاسية تقتلع وتخرب وتجلب الغثاء. طال عهد السوء وذبلت الشجيرة وذهب لونها وظلها ووقف نموها فاستدقت أغصانها وسال دمعها علقمًا ملتهبًا من بين الشقوق والأجراح واستسلمت للموت. قاربت آخرُ ورقة السقوط وأوشك طائفُ الأجواء يقتل الشجرة ويمزق لحاءها ويغري بها الفؤوس.
ومثلما يثور البركان المهلك ينبثق الينبوع المنقذ. بزغ فجر يوم لطيف انقشعت فيه العواصف تاركة الجو لنسمات صافية حانية تداعب الشجيرة وتستضيف الغمام وتستنزل الغيث. وإذ الاحتضار ينقلب حياةً رطبة. تنعمت الأرض وشربت واغتسلت والتأمت صدوعها وشقوقها واندمجت تربتها، وانحسر المستنقع المر وانجلى بفيض ماء طاهر جرفه حتى أذهبه، وإذا بالجذور المنقبضة البائسة يدفعها حنين القلب فتتحسس وتتمدد جاهدة وتشتم بالذكرى ذلك الماء اللؤلؤي الذي أنعشها من قبل، فإذا العروق تتفتح للمنهل الغزير ليتغلغل الماء الزلال فيها ويصل إلى القلب فيهتز ويفيق راقصًا. وما لبثت الشجرة طويلاً في جمال الخير وخير الجمال حتى انقلبت دوحة يافعة قوية منتشرة الأفياء رائعة المنظر، وبراعمها تُزف في حفل من الأفنان والأوراق والأمطار والأطيار لتعانق من حولها براعمًا وأغصانًا وأشجارًا ترتوي من مائها وتتنفس من جوها في حياة مزهرة منتجة أشجارًا وثمارًا ثم واحةً رائعةً لم تفتأ تضم المفازات وتستحيل غابات لا ينقطع خيرها.
ما الإنسان إلا بذرة، ينمو ويَحسُن ويُثمر في أجواء الحب وصوره ومعانيه ودلائله وحامليه، ويذبل ويجف بما سواه.
(إن الإنسان لا يجد نفسه في شيء كما يجدها في الحب - عباس محمود العقاد).
تدقيق: لجين قطب.