بالأمس القريب، فقد الفلسطينيون في الوطن والشتات ابن فلسطين البار إبراهيم محمد صالح المعروف بأبي عرب، ذاك الشاعر الشعبي الثائر الذي أمضى جلّ حياته لاجئًا، كغيره من الملايين الفلسطينيين .

 لكنّ أبا عرب لون آخر من الناس، أظمته الدنيا كما قال المتنبي، فلما استسقاها مطرتْ عليه وعلى شعبه مصائبًا. فشهد نكبة فلسطين الكبرى 1948م، وطُرِدَ من قريته الشجرة بين الناصرة وطبرية، واستشهد والده في معارك النكبة، وخرج الفتى يجرّ خطاه نحو لبنان ثم سوريا، رأى بأمّ عينيه كيف يُسلب الوطن، ويستشهد أبطاله، ويُنفى شيوخه ونساؤه وأطفاله، فبقيت عيناه تحملان حزناً دفينًا، وبقي صوته الهادر يستمد حنينه وأنينه وهمسه وجهره من القرى والبلدات والمدن التي استولى عليها المحتلون.

 وحين فاض كأسه حنينًا وشوقًا أخذ صوته يلهج بالوطن السليب، يبثّ الأمل في النفوس، ويزرع العزيمة الصلبة، ويصبّ نيران غضبه على الغاصبين، وهو بين ذلك كله يصارع معاناة اللجوء والمنفى، ويستمد من وجع الفقراء في المخيمات لوحات فنية رسمتها ريشته أهازيج وأغاني طالما صدحت بها الإذاعة الفلسطينية من القاهرة وبغداد زمنا طويلاً.

رحل أبو عرب أخيرًا! وترك الوطن سليبًا، والأماني معلقة، والصفوف مبعثرة، والبندقية خرساء، بعدما شدا لها ألحانًا حفظها جيل السبيعنيات والثمانينات من القرن الماضي، وشاء الله أن يزور فلسطين مقيدة أسيرة، مرًّا سريعاً قبل سنوات، فيغادرها ليدخل المشافي بعد ذلك حتى ينتهي به الأمر أنْ رحل من هذه الدنيا، وهو في حمص بعيدًا قريبًا من تراب الوطن.

إنّ موت رجلٍ كأبي عرب نكبة جديدة تضاف للأدب الفلسطيني في شكله ومضمونه، فصحيح أننا قرأنا لشعراء وكتّاب كبار، فلسطينيين وعربًا كثيرًا من الأعمال، لكنني لا أبالغ إن قلتُ إنّ الأثر الذي تركه أبو عرب في نفوس الفلسطينيين لم يتركه أديب فلسطيني أو عربي؛ ولعل الفارق بين هؤلاء وأبي عرب يكمن في أنّ أبا عرب أمسك بصوته فأبقاه فلسطينيًا مدةً تنيف عن ستين عامًا، وكان يغرف من الماضي والحاضر والمستقبل، وكانت في شعره فلسطين جرحًا غائرًا ، ونكبةً سوداء، وأرضاً جميلة، وأمًّا حنونةً، وجدًّا حكيمًا، ومراعي وقطعان أغنام، وينابيع وبحارًا وأنهارًا وجبالاً وسهولاً وأودية، وتاريخًا عريقًا، ومجدًا مؤثلاً ، وأنت في كل أغنية له تلمس الصوت نفسه بحدته ووجعه وهو يعدد المدن والقرى، أو وهو يصف المعارك والعمليات الفدائية، أو وهو يبكي الغربة والذكريات القديمة، أو وهو يعيش معاناة الأسرى، فيتغنى بصمودهم الأسطوري. هو لم يعشْ حياته كما عاش غيره، بل أعطى كلّ ما عنده ولم يأخذْ شيئًا.

أجل، أعطى عمره كله للوطن السليب وللشعب المنكوب وللقضية المركزية، لم يلتفت يمينًا أو شمالًا ، بل بقيت عيناه ترنوان إلى سهول فلسطين وجبالها وأوديتها التي عاش فيها سبعة عشر عامًا قبل أن يُطرد من وطنه. هو ظاهرة عجيبة تستحق التأمل بصمت واحترام. فشخصية أبي عرب جمعت ألوان الفلسطيني في مراحل حياته، وأنت حين تستمع له يشدّك صوته الصدّاح، وكلماته الحزينة، وشارات يديه وتجاعيد وجهه، فتعلم أنّك أمام تاريخٍ لم ينسَ شيئًا، وحافظة عجيبة لم تغير منها السنون، وصلابة عزيمة قادرة على الصمود وصنع المعجزات.

لقد عرف الأدب العربي المتنبي، وحفظ الناس أشعاره في الفخر والعزة والكبرياء، فملأ الدنيا وشغل الناس بشعره، غير أنّ الدارس لحياته يعلم أنه عاش حياته وهو يعاكس الرياح، حتى قتل وهو يحاول العودة لموطنه الكوفة، وعرف الأدب العربي مالك ابن الريب الذي قتل بسم أفعى وهو عائد من إحدى معارك الجهاد، ورثى نفسه بيائية حزينة معبرة، وكان قلبه معلق بوطنه الذي لم يستطع الوصول إليه، وعرف الأدب العربي غير هذين كثيرًا من تشابه الحالات، لكنّ أبا عرب خسر وطنه رغمًًا عنه، ولم يخسر أهله وشعبه، بل بقي شامخًا كالشجر، يبعث الظل والثمر ولا يأخذ غير الهواء والمطر، دخلت أشعاره كلّ بيت وكل زنزانة، كلّ قرية ومدينة ومخيم، كان جبهة حربية بصوته وأشعاره، لا يكلّ ولا يملّ.

كان بمقدوره أن يفيد  بجمال صوته وقريحته الوقادة، ويتاجر بأمتعة الدنيا، غير أنه وجّهَ ذلك الصوت وتلك القريحة نحو همّ واحد وحلم هو فلسطين الوطن. من يستمع إليه في مئات أغانيه لا يصدق أنه عاش خارج فلسطين؛ فهو يواكب أحداثها لحظة بلحظة وكأنه وسط المعمعة. لقد علّمتنا أشعاره كثيراً من الدروس والعبر، منها أنّ الإنسان بوسعه أن يحمل الوطن في قلبه وعينه وحركاته، حين يكون القلب وطنًا يتسع لكل هذا الحب، ومنها أن يحمل الإنسان الجراح والهموم ويبقى في نفسه نافذة صغيرة يتسلل منها شعاع الأمل، ومنها أن تضحي وتقدّم ما تستطيع لأجل قضية تؤمن بها دون أن تنظر مقابلاً.

أعلمُ أني لو أردت أن أحصي ما لهذا البطل الأسطوري من أفضال على مسيرة شعبه ، ما استطعتُ إلى ذلك سبيلاً ، لأنني أصف فاجعتي أولاً بفقده ! وفاجعة الذين أحبوه ، وفاجعة الذين يقدّرون التضحية والانتماء والصوت الأدبي الحرّ ..!!

رحمك الله أبا عرب، فقد كنت فخراً لكل من حمل هذا الاسم ، ولكلّ من عشق الأرض، ولم ينسَ وجع السنين، ولكلّ من ضحّى وقاتل في سبيل الحقّ. رحمك الله يا صاحب الصوت الشجيّ، والكلمة الرصاصية، قد كنّا وما نزال بحاجة إليك، وقد غادرتنا ونحن في أسوأ حال، بين ماضٍ جريح وحاضر عليل، ومستقبل لا يعلم حاله إلاّ الله. وأقول كما قال الشاعر :

لعمْرُكَ ما الرزيّة فقدُ مالٍ     ولا شاة تموتُ ولا بعيرُ

ولكنّ الرزيّةَ فقدُ شخصٍ      يموتُ بموته خلقٌ كثيرُ

 

تدقيق: لجين 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية