برز الحديث عن الهامش في الدراسات الاجتماعية، ومنها إلى الأدب، في خضم محاولة الانتقال إلى ما بعد الحداثة وبالضبط في الدراسات ما بعد الكولونيالية التي اهتمت أساسًا بتسليط الضوء على العلاقة غرب/شرق، مستعمِر/مستعمَر(سابق)، ما بعد الحداثة التي قاربت موضوع علاقات القوة داخل المجتمع بشكل مجمل، وهو ما قورب في تحديد ملامح العالم، الشعوب بالتحديد، بعد خروج الاستعمار، دراسات لها جذور نظرية ترجع إلى القرن الثامن عشر لكن تبلورها النظري بدأ مع فانون، وتجلى مع إدوارد سعيد، ثم غياتري سبيفاك، وهومي بابا بأشكال مختلفة بين كل واحد من هؤلاء، وفي هذا المحضن ظهرت دراسات الهامش، هذا الصنف من الدراسات الذي برز في ثمانينيات القرن الماضي من خلال عدد من الباحثينالذين اهتموا بدراسة أوضاع المهمشين، ويعتبر المفكّر الهندي غوحا، واحدًا من روّاد دراسات الهامش، فهو من قام بوضع أسس هذا الحقل المعرفي في مقال له منشور بعنوان (دراسات الهامش)، وكتابه (الجوانب المبدئية لتمرد الفلاحين في الهند تحت الحكم الاستعماري)، ثم ظهرت بعد ذلك أسماءء كان لها الوقع الكبير في تطوير هذا النوع من الدراسات كهومي باب وسبيفاك خاصة، في مقالها (هل يمكن للهامش أن يتكلم؟)، ودون الغوص كثيرًا في الجانب النظري من هذه الدراسات التي حاولت استدعاء الهامشي إلى الفضاء العمومي وإعادة الاعتبار إليه بإدراجه ضمن مساحات التفكير والنقاش، وتفكيك الخطابات المركزية الغربية ومن ثَمَّ إعادة إنتاجِ معرفةٍ لصيقةٍ بما يتكبَّده البشر من ضروب المعاناة والتهميش نتيجة الممارسات والأخلاقيات التي أفرزتها الفترة الاستعمارية، فإن هذه الدراسات تهتم بكل ما هو في هامش المجتمع كالمرأة والفقير والمثلي والطابوهات...
حينما نعود إلى النص المسرحي الذي ألفه الأستاذ زكرياء أبو مارية (حالة حصار) وبعيدًا عن النقد الذي عادةً ما يُمارَس في كنف البنيوية، وارتباطًا بموضوع الهامش، فإن النص قد قارَبَ المفهوم ليس فقط بالطريقة (التقليدية)، من خلال تسليط الضوء على الهامش المعتاد، المرأة والفقير، لكنه تجاوز هذا الهامش التقليدي إلى الذهاب بعيدًا إلى نوع جديد من الهوامش التي لم نعتد ـ أنا شخصيًّا على الأقل ـ على وجودها في الأعمال الأدبية، إنه تسليط الضوء على المثقف المهمش، ذلك المثقف العضوي بالتعبير الغرامشي، "هو ذلك الموهوب الذي يقوم عَلَنًا بطرح أسئلة محرجة، ويصعب على الحكومات أو الشّركات استقطابه لأنّه لو تمكّنوا من استقطابه فَقَدَ المثقّف بُعدَه النّقدي وخان نصّه الإبداعي. كما وجب عليه مواجهة كلّ أنواع التّنميط والجمود؛ لأنّ المثقّف عمومًا لديه الفرصة بأن يكون عكس التيّار "(1) المثقف الذي يتحتم عليه أن يحمل مشعل قيادة التغيير والفعل الإيجابي في المجتمع، بل هو كما يقول إدوارد سعيد المثقف المعادي للسلطة خاصة في كتابه (المثقف والسلطة)، هذه الفئة من المثقفين التي تعيش حالة حصار حقيقيٍّ تمارِسه على نفسها ويُمارَس عليها من طرفِ مختلَفِ المؤسسات القائمة: السلطة الحاكمة، النخبة الرسمية، المثقفون النفعيون...، هذه المؤسسات التي تحاول الحفاظ على مكتسباتها بإقصاء المثقف العضوي الكفيل بكشف القناع عنها وتعريتها أمام الجماهير المخدوعة بها، المثقف القادر على الخروج من الأنساق الثقافية المهيمنة بعد الوعي بها، والنسق الثقافي هنا حسب المفهوم الذي قصده عبد الله الغذامي، هذا النسق الذي ينتج الدلالة النسقية التي " يمكن مقاربتها من نفس المسار الذي نُقارِب به باقي الدلالات ولابد لكل المعطيات الحاضرة لاستخراج الدلالات المعروفة أن تستحضر عند استخراجنا للدلالة النسقية، غير أن الإضافة التي نحتاجها في ذلك هي استحضار المضمر في ارتباط مع مفهوم النسق المضمر لما تتسم به الدلالة النسقية من انتظامها في شبكة من"(2)"علاقات متشابكة نشأت مع الزمن لتكوِّن عنصرًا ثقافيًّا أخذ بالتشكُّل التدريجيِّ إلى أن أصبح عنصرًا فاعلًا، ولكنه وبسبب نشوئه التدريجيِّ تمكَّن من التغلغل غير الملحوظ، وظل كامنًا هناك في أعماق الخطابات، وظل ينتقل ما بين اللغة والذهن البشريِّ فاعلًا أفعاله دون رقيب نقدي؛ لانشغال النقد الجمالي أولا، ثم لقدرة العناصر النسقية على الكمون والاختفاء"(3)
تبرز في النص المسرحي شخصية نور الدين، الذي بلغ أشده وتجاوز الأربعين، المثقف المهمَّش، المحاط بالمهمَّشين، عيشة كامرأة مهمشة في عالمنا العربي، وكحالة العيشة الضنك المعاشة في الهامش، إضافة إلى الأسرة وفقراء محطة القطار...، هذه الشخصية (أقصد نور الدين)، التي بوعي أو بدونه، تمثل لدى الكاتب ركن المجتمع، أو الهامش، وهو ما "يستلزم فحص طبيعة عملية التمثيل هذه بالرجوع إلى تاريخ تكوُّنِها ومحدَّداتِها، وباستكشاف المرجعيات والأنساق التي كانت تحكم هذه العملية وتوجِّهُها بصورة لا شعورية، بمعنى أنها تفرض نفسها على الأفراد والجماعات دون أن تمُرَّ بوعيهم الفاحص والنقدي بالضرورة"(4)، اسم نور الدين الذي يحمل في شقه الأول، نور، كل معاني المصدر الضوئي والمرشد، والضوء هنا إذا ما قُرن بالدين، فالمقصود به المثقف القائد الذي يقود نحو التغيير، التغيير الإديولوجي الفكري الذي لا محال يتحول إلى تغيير ثوري إجرائي، لكن هذا الدور يطرح الكاتب في مسرحيته إشكال القيام به، هل قام المثقف العضويُّ فعلًا بدوره؟ هنا يأتي ربط النص بسياق الربيع العربي الذي قاده الشباب، الشباب الذي غالبًا ما كان ينظر إليه المثقف من فوق برجه العاجي، فيراه صغيرًا قزمًا لا يهتم بالمُنجَز الفكري فما بالك أن يستوعب ما يكتبه المثقف "عيشة: تريد أن أواصل القراءة إلى الآخر؟ نور الدين: إن كنت تجدينه زجلا ذا بال و يستحق ذلك"(5)، لكن هذا القزم يتحول إلى عملاق أسطوري، يتجلى هذا في اختيار لفظ عنقاء و إن كان اسمًا مستعارًا، وهنا يبرز ذهول الكاتب المثقف أمام الأسطورية التي تلبست بالشباب ومن أين مصدرها في غياب دوره هو، الشباب الذي استطاع أن يقلب الواقع ويصنع التغيير الذي لم ينجح من يرى في نفسه مثقفًا عضويًّا أن يحدثه، وهنا يظهر صراع الأجيال الذي يظهره الكاتب في حوار العنقاء نادين ونور الدين، هذا إن اعتبرنا أن هذا حوارًا ثنائيًّا وإلا فالأجدر أنه مونولوج الحوار الذي يلوم فيه الكاتب نفسه على نهج سياسة الكرسي الفارغ تجاه جيل محتاج إلى التأطير حتى لا تكون "ثورة ولدت بلا أب شرعي " وإن وجد له بعض الأعذار، اللوم الذي يقدمه الكاتب يظهر أشد في اختيار اسم نادين، المناداة، وكأنه يقول أن الشباب قد نادى المثقف لكن الأخير لم يستجب ولم يكن فاعلًا في هذا الحراك الذي إن فشل فالملام الوحيد هو المثقف الذي غيب المرجعية والتحصين عن الشباب، الأخير الذي قام بدوره على أحسن ما يرام بالنظر إلى الإمكانيات المتاحة له، وفي غياب المثقف العضوي تصدر المشهد من يُرضي ويرضى بالواقع، فيزهر له ويعطيه أجر تلوُّنِه وانبطاحه أمام الأقوى، من أمثال شخصية الراضي زهران، التي تحظى بدور مهم خلف السطور، عكس الدور الذي يبدو أن الكاتب أعطاه لها في الواقع الركحي، حيث أن أمثال هذه الشخصيات التي ترضى بالواقع و تتكيف معه وتتملق لسلطته أنى وكيفما كانت، والتي تمتلك زمام الأمور وتتحول من مجرد النفعية إلى المشاركة في كبح مسيرة الثورة بعد أن تدعي في وقت فورة الثورة أنها معها، كما تقوم أمثال هذه الشخصيات باحتضان الجماهير المقهورة ـ عيشة في النص ـ وتقربهم منها ويقتربون رغم ميولهم للمثقف العضوي الذي لم يقدم إلا الكلمات، وربما حتى الكلمات لم يقدمها، لهم.
إن الهامش الذي وُضع فيه المثقف و قبِل به مستسلمًا، هو العائق الحقيقي، حسب قراءتي للنص المسرحي، في إخراج ثورة حقيقية للوجود، قادرة على السير قُدُمًا نحو تحقيق أهدافها المرسومة بالقطع مع تردِّي الماضي؛ لأن الثورة التي ليس لها جذور غير قادرة على مواجهة التحديات التي تواجهها في الطريق نحو التثبيت، وأمام الهجمات الارتدادية التي يحدثها من قامت ضدهم الثورة بادئ الأمر، ولعل النص المسرحي الذي أُصدِر في مارس 2013 وقد كُتِب قبل ذلك ولاشك، قد تنبَّأ بفشل الربيع على الاستمرار، وهو الواقع مثلًا بعد ما حدث بمصر في 30 يونيو أو حتى قبلها، وهو ما يجري في كل بلدان الربيع العربي المحترقة وروده وأزهاره، إنه عدم اقتناع من الكاتب بدور المثقف في الربيع العربي، بل ربما يتجاوز الأمر ذلك إلى إدانة حقيقية له على تخليه عن دوره، الذي كان بموجب تراكم الخبرة لديه، قادرًا على لعبه لتأطير قوة وجموح الشباب، إنه تقسيم من الكاتب لدور كل من الشباب والمثقف في خضم الثورة المثالية المنشودة، شباب في المقدمة تستطيع تحمل المضايقات الجسدية القمعية، ومثقفون عضويون يستطيعون تحمل المضايقات الفكرية ويكشفون ألاعيب السلطة القائمة، حتى لا يكون ربيعًا بزهور"بلاستيكية و برائحة كريهة" (6)
خلال النص المسرحي قيد التحليل يحضر عنصر التناصِّ شامخًا عند الكاتب، فالإحالات لا حصر لها، إحالات ثورية على التهميش والحصار، إحالات على تهميش المناضلين في التراتيل الدرويشية المبطنة في الخطاب الحواري وفي اقتباسات مباشرة، تراتيل الاعتراض على تهميش المرأة مقتبسة من بصمة نزار قباني البادية خاصة في اللاءات التي ردَّدها نور الدين والممرضة المتناصَّة مع لاءات المنع في قصيدة نزار قباني (ممنوعة أنت)، تناصٌّ مع كل من كتب أو عانى من الهامش وهُمِّش، لكنه تناصٌّ في الأخير بمن انتصر على الهامش وهشَّم حدوده وخرج إلى العالم متحديًّا قيود الحصار، وهو باب أمل فتحه الكاتب ليس فقط من خلال تناصِّه ولكنه فتحه في نصه مباشرة وفي عديد المرات، ليختم خيط أمله في تبشيره ب"فلتة" أخرى كالفلتة التي أحدث الربيع العربي، "الخطوة بعد الخطوة هو ما يصنع الطريق في الأحراش المهجورة، و لابد أن يبتكر أحدهم طريقة أخرى لخلاصنا، لا بد دائمًا من طريقة... لصناعة... ينام" (7) ولعل النوم تسليم للمشعل من هذا المثقف إلى أمل مثقف آخر سيمارس دوره الحقيقي.
إن تشريح النص في ضوء القراءة الثقافية، ودراسة الهامش، لا يمكن أن تستوعبه مقالة موجزة كهذه، لكنني آثرت أن أقدم الخطوط العريضة التي يمكن أن تسلط الضوء على هذا الهامش الجديد ـ حسب زعمي ـ هامش المثقف الغير الرسمي الذي تحاصره مؤسسات السلطة المختلفة، الرسمية والتي تدور في فلكها، ويستسلم لذلك الحصار فلا يقوم بدوره المحوري الذي لا يمكن أن يلعبه غيره، المثقف الذي يدينه الكاتب على أي تخاذل قد يصدر منه، بل يدينه التاريخ؛ لأن مبررات تخاذله قد ألغاها الشباب الذي فجر ثورة أسطورية وهو لا يملك معشار ما يملكه هذا المثقف، لنرُدَّ جميعا في الأخير مع الكاتب على غياتري سبيفاك عن سؤالها "هل يمكن للهامش أن يتكلم؟"
نعم نعم يمكننا *** يومًا أن نتكلم
أن نفك القيود *** أن نعلي الهمم
جيلًا فوق جيل *** لن نساق كالغنم
سنعمل جميعًا *** سنناجي القمم
أنا، أنت وهي *** لكلٌّ دوره لا جَرَم
سنقطع بثورتنا *** دهرًا ذقنا فيه الألم
Jonathan Mason - Interculutral Studies and the Personalisation of « the other » - Cross-cultural dialogue. Tunisia 2010.(1)
(2) ياسين گني: عبد الله الغذامي ناقدًا ثقافيًّا، الطبعة الإلكترونية، مركز الخليج، ص 26
(3) الغذامي ،النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية،المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء بيروت ، 2005، ص 72 .
(4) نادر كاظم : تمـثيـلات الآخر . صورة السود في المتخيل العربي الوسيط، الطبعة الأولى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر - وزارة الثقافة، البحرين، 2004، ص: 16.
(5) زكرياء أبو مارية: حالة حصار، دار الخزامى، آسفي، المغرب، الذكرى الثانية للربيع العربي، الطبعة الأولى مارس 2013 ص 16.
(6) نفسه، ص 94.
(7) نفسه، ص82.
التدقيق اللغوي: خيرية الألمعي