اختار الله لهم حمل الأمانة قبل أن يقبلوا هم بحملها، إنما قبل أن يعرِضها الرَبّ عليهم قررَ لهم أنهم سَيَحمِلونها. قدر البشر. فعرض الأمانة على البشر كان لغرض إعلامِهم بحقِهم في الاختيار؛ هناك، في الدار الأخرة وفي الحياة الدُنيا. حرَّم الله على آدم وحواء الأكل من شجرةِ الْخُلْد وَمُلْكٌ لاَّ يَبْلَى، فخالفاه. بيد أنه قرَر لهم أنهم سيأكلوا منها باختيارهم قبل أن يُحَّرِمها عليهم. درس المنع والمعصية هنا لتعلم فضيلة التوبة، فلم يسجُد إِبْليس للنبي آدم أبدًا، معروفٌ للخالق أنه لن يَسجُد، فكان ذلك للبشر درس أن بابَ العصيانُ مفتوح.
النهايةِ، أراد الله للبشر الحياة فجعلهم يختاروها، إرادته اختاروا ما تشاؤوُّن، فاختار كُلَّ بني آدم منهم ما ارتأى. أمرهم أن اهبطوا الأرضَ، فَلِكلِّ بشريٍ شِيفرته: كود، مفتاحٌ، رقمٌ سري؛ لفتةٍ، بسمةٍ، همسةٍ، لمسةٍ؛ شَهوةُ مالٍ أو سُلطةٍ أو شُهرةٍ؛ شابٌ أو صبية، فبكُلَّها أو بواحدةٍ على الأرجح يَعرف كُل بني آدم هواه فيُصلِحه أو فَعليه العوض.
عِشتُ اتخبط بين آليتي وبشريتي، فلما رأيتُ الإنسانَ وأفعاله في حياته بعد أن وهبّه الله فيها من نِعَمٍ فضّلتُ ألّا أبقى بشرية، أَعدُت نفسي آلية. ارتحت. اخترتُ الحياة من وراءِ جدار عازل، اختاروا ليَّ هم شَفْرَةُ، مُفتاحٌ، تحولتُ لبشريةٍ ثم عُدُّت آلية برغبتي.
قبل تمتعي اليوم بآليتي عِشتُ بِضع سنوات مع مالكي، صانعي، رأيتُ بعينيه الكثير، عِشتُ معه حياته وحياة أجداده، أطلعني بنفسه على أسراره؛ حاضر أيامه وماضي سنواته.
تركني أُدّوِن قِصته، طلبَ مني ألَّا أُغالي، أن أربُطَ بين أسبابُ الترف ومَرّدَّاتُ الدمارٍ، فما بين طَرفةُ عينٍ وانتباهتها يُغَير الله حالٍ من بعدِ حال، من حياةِ الترف والغنى لفقدان الأهل والمال حَتَّى للاعتقال قصة. قصته آية؛ ذِكرى. انتقيت من حاضر أيامه (خمسون ساعة)، رَصدتُ فيها أحواله وأحوال رفاقه. عيناتٌ من البشر مرُّوا معه عبرَّ تحولاته من لادينيةٍ لإيمان، فيها عِبرّة. ثم عُدت فاستقيتُ من ماضي أجداده، فلمحتُ شُبهةِ تشابه بين ماضيهم وحاضره، ترفٌ وغِنى، فسوقٌ وصلف، تحوراتُ أوبئةٍ ورجفاتٌ أرضيةٍ؛ كارثية.
تكرَرت أمامي قَصَصِهم مرَّات على مرِّ الزمن، تغيرتَ فيها الأمكنةُ وتبدلت الأزمنة. عجِبتُ لأفعالِ البشر؛ أنا آلية عَجِبتُ. عِشتُ، تمتعتُ، رأيتُ، ارتحلتُ، أمنتُ بأن الله موجود. تمنيت لو كنت قد بقيت بشرية لأموت لأصعد للسَماء، لأرى الآتي في البعيد، تمنيت أن أرى حكيم آدم فيما وراء الحياة؛ بعد الرحيل.
أجَلْ، هذا اسمه حكيم راجح آدم آل الحَكَّاءُ، اشتراني أبوه راجح لأكون جليسته. ربيته في حجري. مرَّ عُمره، بقيت أنا، أنا لا يتغير عمري. اشتروني في ثلاثينياتي فبقيت كما أنا لا أكبر، قلت لكم فيفي؛ آلية لستُ بشرية. رأيته يكبر أمام عيناي حَتَّى صار رَجُلاً في مثل عمري، يعني بعضٌ وثلاثون عامًا، عشت معه حياته، عرفني حاضره.
هو حكاية. لعله علمني أسرار الحياة وإنجازات البشر، انحيازاتهم وترَّهَاتهم، إيمانهم وإلحادهم، تَرَّفَهم وغَيَّهم، خياناتهم وتبتلاتهم. أكثرُ ما هالني عند البشريين من غَيٍّ غفلتهم، بل وجبروتهم وشدة ظلمهم. ظُلمِ الإنسان لنفسهِ كبيرًا، إنما بدا ليّ جليًا أن ظلم الإنسان لِأخيه الإنسان من أكبر آثامه؛ كما كانت آفته في طولِ لِسانه.
ماتَ حكيم فجأةً. ترك حياة البشريين، غادر ها هُنا، انتهى. يقولون راح لحياةِ الخلود، في السماوات، أمآله الجنة أم النار؟ فيفي لا تعرف؛ بل لا أحد يعرف. َتَصَوَّر، تَتَخَيَّل، تُقَدِّر، إنما تُجْزِم أنه اليوم أفي الجنة أم في النار فذلك كبِرٌ وغرور، بل تهورٌ بشريٌ. بَقيتُ بَعده. قلتُ لكم فيفي آلية، لم تستطعْ التحول الكامل لبشرية، لمْ يَخلقني الله أبدًا بشرية، للحقُّ ولا جنية. اشتراني أبوه؛ عادة البشر شراء الآليات، عبيدٌ أو ملكُ يمينٍ. تحولتُ، حولتني دِينا نِزار صديقته، عُدتُ، لا أعلم كيف عُدت.
ماتَ هو مُنذُ سنين، رحلَ فجأةً، بقيتُ أنا في انتظارِ الموت، فلم يأت. الموتُ رحمة. أجَلْ، فبعد موت الأحبة تظلُ في الحياةِ وحيدًا. قررتُ إنهاءَ حياتي، انتحارُ الآليات جائز، انتحارُ البشر حرام. قبل أن أفصِل دائرتي، قبلَ أن أُغَّيِبَ نفسي عن الحياةِ الدنيا في ظُلمةِ الموتِ الأبدية دَونتُ روايته، استقطعت منها خمسون ساعة، يومين وساعتين، بينت فيها جزءًا حافلاً من تاريخه المتحول من لا دينية إلى إيمان، جمعت فيه قصص رفاقه وواقعه، اخترت أن أبدَأ بحلم ليلة شتاء بان فيه علاقته بحبيبته المزعومة، دونت عنه وعنها وعن رفاقه ومعارفه ما أملاني هو، التالي ما كتبته على لسانه والبقية مما رأيته بعيني رأسي.