(والشِّعرُ ما لم يكُن ذكرى وعاطفةً أو حكمةً فهو تقطيعٌ وأوزانُ) ([1]).
يقول ابن منظور (630-711هـ) في لسانه الذي يحوي ثمانين ألف مادة لغوية: إن الأدب ما سُمِّيَ كذلك إلا لأنه يدعو الناس إلى المحامد وينهاهم عن المقابح... ولو أنزلنا هذا القياس وطبقنا ذاك المعيار على ما بين أيدينا من منثور الأدب ومنظومه لأنَّت الأوراق، وتأوَّهت الأقلام، وارتدَّ البصرُ خاسئًا وهو حسير؛ إذ لا أدَب ولا يحزنون (إلا ما رحم ربي).
بوُسعي أن أعدِّد عشرات الأمثلة لأشخاص ومثلها لأعمال، قذفَت بها أجواف المطابع وأرحام دور النشر في حُلة قشيبة ودعاية زاعقة، مع أنها خلتْ من لون الأدب، وطعمه، ورائحته، بعد أن فصَمتْ المدلول الفني للأدب عن بُعده الأخلاقي، فكان الفن للفن لا للحياة، وكانت جمالية الأدب مقدَّمة على مضامينه. ولكنا لا ندل على سوء، فالإشارة تكفي اللبيب، والشر على الشر يشير، وفي التعميم ما يفي بالغرض ويقي من الزَّلَل.
فأديبٌ ليس إلا ظلاًّ لسلطان، وخادمًا لرأس المال، وأجيرًا للدهماء... ناقصٌ أدبًا.
وكتابٌ يضم إلى الحشَف سُوءَ الكَيلة بدعوى أن الالتزام قيد على الإبداع وأن الحرية المطلَقة عشيقةٌ لليراع... ليس أدبًا.
ومقالةٌ تنقض القيَم، وتشكِّك في العقيدة، وتفتئِتُ على الحقيقة... ليست أدبًا.
وقصةٌ عارية مكشوفة تلهب الغريزة، وتدغدغ الشعور، وتزين الخبيث... ليست أدبًا.
وروايةٌ لا ترى في ربوع المجتمع إلا شابًا وفتاة، ولا تعي من حروف اللغة إلا الحاء والباء... ليست أدبًا.
ومسرحيةٌ كل مبتغاها أن يُفصح قارؤها أو مشاهدُها عن بياض أسنانه حين يباعد بين شفتيه وشدقيه... ليست أدبًا.
وشِعر مُخدِّر يستلُّ الآه، ويستحث الدمع، ويستملح القبيح... ليس أدبًا.
للأدب صنَّاع ثلاثة: أديبٌ، وناشرٌ، وقارئ. ولكلٍّ نصيبه ووِزره من تلك الكعكة العفنة التي تسمِّم أجواء المعرفة وتلوث نهر الثقافة؛ فتُلبِس الأدبَ رداء اللاأدب، وتَجذِب الأمَّة إلى غياهب العتمة وقيعان الرذيلة.
للأديب الشاعر ينصحه الناظم،والنصح ثقيل، فيقول:
فلا تكتب بكفِّك غير شيء يسرُّك في القيامة أن تراه.
وللأديب الناثر نهديه مأثورة الدكاترة زكي مبارك، حين قال: (ليس من المروءة ولا من الشرف أن يُسخَّر القلم فيما لا يليق بالأدب الصحيح).
وللناشر نذكِّر بأن الدالَّ على الشر كفاعله، تمامًا كما أن الدالَّ على الخير كفاعله.
وللقارئ ننبه على أنَّ اختيار غذاء العقل وأديم الروح يستوجب التدقيق والتمحيص، فما تزرعه في روعك تحصده في فعلك.
في بيئة كهذه وحال كما تقدَّم وتبيَّن؛ لا يسعنا إلا أن نعتذر لفقيد الكتب، وشيخ الأدب، وصاحب البيان والتبيين، فنعرض عن نصيحته بقراءة كل ما طالته الأيدي، بينما نلزَم مقياس ابن منظور في لسانه فنغذّ السير ونسرع الخطا إلى أدباء المحامد. أما دعاة المقابح فنلفظهم لفظ النواة ونفارقهم مفارقة الكفر... ومع هذا نؤمِّن ونصدِّق على تلميذ الجاحظ حين صدَّر كتابه (المساكين) ([2]) قائلاً بأن السمو الأدبي سيظل قليلاً كالخير، ومخالفًا كالحق، ومحيِّرًا كالحُسْن، وكثير التكاليف كالحرية.
أدب بلا أدب هو مدرسةٌ بلا درس، وطبٌ بلا دواء، وجسدٌ بلا روح، واسمٌ على غير مُسمَّى...
دمتم بأدب في أدب.
-----------------
([1]) أمير الشعراء أحمد شوقي.
([2]) الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي.
التدقيق اللغوي: أنس جودة.