الشاعر شارل بودلير مفجر الرمزية مدخل إلى المدرسة الرمزية: الرمزية مدرسة أدبية متكاملة، منبثقة عن مدارس أدبية أخرى سبقتها، وهي مدرسة قائمة على الروحانية والسرية، في حين كانت الكلاسيكية قائمة على العقلانية، والرومانسية على الانفعالية، والبرناسية على الحسية. إن الرمزية تعتبر حركة داخلية تخطت الحواجز المرسومة المقاسة بالمسطرة والبركار، والتي كرستها الكلاسيكية، وأعتقت الروح من قيود العقلانية، وراحت تحلق بها، ومن خلالها وفق مبادئ وأصول انتهجتها، وتعبر عنها بكلية وشمولية. والرمز هو "أفضل طريقة للإفضاء، بما لا يمكن التعبير عنه، وهو مَعين لا ينضب للإيحاء، بل التناقض كذلك"1. -------------- . ص 36 .الدهر المصرية، الرمز والرمزية في الشعر العربي المعاصر. أحمد فتوح -1 وأما الرمز الأدبي، فهو ليس إشارة إلى مواضعة أو اصطلاح... إنما أساسه علاقة اندماجية بين مستوى الأشياء الحسية الرامزة، ومستوى الحالات المعنوية المرموز إليها، وعلاقة التشابه هنا تنحصر في الأثر النفسي، لا في المحاكاة، ومن ثَم فهو يوحي، ولا يصرح، يغمض، ولا يوضح ".2 الرمزية إذن هي نوع من الإيحاء الذي يحرر من الثقل الترابي، فالواقع لا يعنيه إلا كمرجعية رمزية يستمد منها الصور. ونجد أن الناقد الرمزي الكبير( وليام يورك تندال ) W –y-tindel يعتبر الرمز "تركيبا لفظيا أساسه الإيحاء عن طريق المشابهة بما لا يمكن تحديده، بحيث تتخطى عناصره اللفظية كل حدود التقرير موحدة بين أمشاج الشعور والفكر".3 ------------- إبراهيم .رماتي . الغموض في الشعر العربي الحديث. ديوان المطبوعات الجامعية.الجزائر. ص 273 المرجع نفسه ص 273 - 3 فهو يحتكم إذن إلى مبدأ التجاوز والتخطي، فلا يكتفي بما هو ظاهري ومباشر، بل يتوغل في باطن الأشياء، فيخرب نظامها، ويخرجها في فوضاها الجميلة السديمية الأولى، التي تترجرج داخلها ثنائية المطلق والنسبي، الثابت والمتحول...
"الحقيقي وغير الحقيقي، الواقعي والخيالي".4 إنه بصورة أخرى إعادة تشكيل، وميكساج، وكولاج رؤيوي ينبع من داخل الذات الشاعرة، وليس من خارجها عبر ما يسمى بـ "الحدس الشعري". إذ يصبح الواقع وفق هاته الرؤية واقعا مكثفا، فيه يتم الكشف عن "المعنى الباطن، والمغزى العميق"..5 وأهم ما يميز المدرسة الرمزية هو تضمنها قدرا من الغموض، فالرمز تفسيره بتعدد احتمالاته. وقد ارتبط مفهوم الرمز بفلسفة الحلم ارتباطا وثيقا مثلما فعل الرومانسيون في البداية، ونجد أكثر المهتمين بهذا المجال الفيلسوف الألماني هيردر. إلا أن الرومانسيين لم يتعمقوا في دراسة الظاهرة، في حين أخذ الرمزيون هذا الجانب بالدراسة، وتوغلوا في الظاهرة، واستفادوا من تجارب الرومانسيين، ونظريات فرويد في الحلم. ---------------- - التفس 4 إذ أصبح الحلم ضربا من الصوفية، ومنهلا من مناهل الإبداع، والخيال الشعري. وقد طفر بودلير كرائد من رواد الرمزية، فأضحى الرمز لديه "معادلا للرؤية، وأداة لاقتناص الرمز المعقد."6 وسنحاول في هذه الإطلالة التعرف على مجهودات ممهد الرمزية، الشاعر الفرنسي شارل بودلير... شارل بودلير مفجر الرمزية شارل بودلير الشاعر الفرنسي، الذي أول ما يعرف بديوان "أزهار الشر" الذي أثار ضجة كبيرة في الوسط الأدبي، والنقدي، والاجتماعي، والعقيدي آنذاك. فقد رفع شارل بودلير لواء التمرد على أنظمة المجتمع، وقيوده. إذ" كان الصراع قائما أبدا في نفسه بين اليقين الديني، والنوازع الدنيوية، وكان يربأ بالواقع، وينقضه بالمثال، ويحن إلى عوالم جميلة أخرى. لقد كان أيضا متبرما من الواقع، واقع الأشياء والناس، والبشع والمزيف هذا الواقع الصناعي الذي يعتبره بودلير قناعا على الحقيقة الأولى، البكر، المتخفية وراء الأشياء. لقد مجد بودلير الرمز، وكان يرى أن "كل ما في الكون رمز، وكل ما يقع في متناول الحواس، رمز يستمد قيمته من ملاحظة الفنان لما بين معطيات الحواس المختلفة من علاقات". وقد أحدث بودلير ما يسمى في النقد الحديث بنظرية التراسل البودليرية. فهذه النظرية تقيم بواسطة الرمز تشابكا بين الواقعي، والخيالي، والأسطوري. كما توزع امتدادها الزمني عبر اتحاد كلي بين الماضي والحاضر، والمستقبل... بين الإقليمي والقومي، والإنساني، والذاتي والعام. فالرمز كل ذاك، وهو بالإضافة إلى ذلك كما ذكر إليوت: "الرمز يقع في المسافة بين المِلف والقاريء، لكن صلته ليست بالضرورة من نوع صلته بالآخر... إذ إن الرمز بالنسبة للشاعر محاولة للتعبير، ولكنه بالنسبة للمتلقي مصدر إيحاء". 7 ويبدو أن الرمز كأداة غاية في الدقة، والتعقيد تتكل على نزوع من عقدة في الفكرة أساسا، أو كما عبر الشاعر (إليوت أن هذا الشيء يعود "إلى صعوبة التعبيرعن عاطفة قوية يحسها الشاعر، أو فكرة هي في ذاتها غامضة تستعصي على الكشف".8 كما نجد أن رينيه ويلك وأستين وارين يقسمان الرمز إلى ثلاثة أنواع، هي: الرمزية التراثية، الرمزية الخاصة، والرمزية الطبيعية. لقد قام شارل بودلير بتقويض الحواس المألوفة. "فالحاسة السمعية والبصرية والذوقية ليست سوى سبيل للجهل والعقم".9 ولم يكتف بودلير بالهدم، بل أتى بالبديل حينما توصل إلى كون أن هناك حاسة نفسية داخلية تقوم بآلية المزج، والتآلف بين ما هو نغمي، ولوني، وشمي. إنه بشكل ما يقوم بتسفيه الواقع، فهو يتخطاه ويتجاوزه نافذا إلى ما ورائية الواقع، وإلى المافوقواقعية. إن الشاعر الرمزي بودليرمثله مثل الشاعر إدغار آلان بو وقفا على مبدأ من مباديء الرمزية وهو "دراسة المادة دراسة نفسية فيما يدرسها العلم دراسة حسية".10 إن هاته الدراسة النفسية ذات أبعاد صوفية، وروحية تعتمد على الحركة الداخلية التي تصغي لعمق الأشياء، وصوتها الخفي. لقد كان بودلير "يستغرق ويذهل في قلب المادة، وأنه كان ينفذ منها إلى أبعاد لا تتيسر للإنسان العادي الأليف المدجن على مفاهيمه وانفعالاته".11 فهو مثلا حينما يتحدث عن العطور في قصيدة(المراسلات) الشهيرة، نجده (بودلير) قد دخل قلب العطر، ولمس روحه المتجلية، وقد وجد هذا العطر ذا جسد طري كجسد الأطفال .. من هنا نجد أن الشاعر قد قوض حاسة الشم واستبدلها بحاسة اللمس. ثم ينتقل إلى نوع آخر من العطور حينما يقول أن هناك عطرا عذبا كالمزمار. فبودلير قد استمع بحسه الشعري إلى هذا النغم المنبعث من العطر... فكأنه يحقق ما يسمى عند الرمزيين بوحدة الحواس، وهي أيضا من المباديء الرمزية. وهو في الوقت نفسه يجد للعطر لونا، فيقول أنه أخضر كالمروج. هذه الماوراء/حسية. المافوقواقعية هي التي أتاحت للرمزية، أو بواسطتها "اخترقت جدار الحس، وشاهدت لون الاخضرار في العطر، وسمعت نغم المزمار، ولامسته في جسد الأطفال"12 إنه يعيد وحدة الحواس بواسطة رمزية الشعر... لقد أتاحت هذه الرمزية للإنسان كي يعانق المطلق، ويتلمس الآفاق دون أن تعوقه حدود. وإن كان الشاعر (شارل بودلير) يعتبر ممهدا الرمزية، فإنه يمثل أيضا مرحلة وسطى ما بين الرومنسية والرمزية. " وإن كان أصحاب هذه المذاهب كلها يدعونه، ويعترفون بأسبقيته، وأبوته الفنية لهم... البرناسيون يجدونه برناسيا في ديباجته الناصعة، وعبارته الصقيلة المنغمة، والرومانسيون ينتسبون إليه،أو ينسبونه إليهم في حسه التشاؤمي، والعدمي، وفي تلمسه للفاجعة عبر ملامح الوجود..." 13 ومهما قيل من انتماء بودلير إلى هذه المدرسة أوتلك، فشعر بودلير، وتوقه إلى المطلق كان ينبع من داخل ذاته، ومن عمق معاناته الإنسانية والنفسية، تلك النفس التي كانت تفيض بمثل هاته الهواجس المفعمة بميولات النفس، وتوجساتها. وقد عبر الشاعر (شارل بودلير) في مقدمة ديوان (أزهار الشر) عن هاجس السأم الذي يعانيه الشاعر، وهو "سأم وجودي من عجز الإنسان عن الخلق والابتكار، أو التجديد الفعلي".14 لقد كانت قصائد بودلير تمهيدا للرمزية، فهي قد سبقت الكثير من المحاولات دونما تخلص تام من آثار الرومانسية "وإن كانت قصائده أشد تثقيفا، وصفاء... ولعل (هيغو) أحس بذلك فقال:"لقد أولجت رعشة جديدة على الشعر الفرنسي".15 لقد زرع بودلير بذور الرمزية من خلال تجربته الصوفية الفريدة التي استطاعت أن تقولب مفاهيم سائدة .. للموضوع مراجع.
التدقيق اللغوي: خيرية الألمعي.