ولا أقصد بها هنا ضرورات الشعر التي يلجأ إليها الشعراء، وإنما أقصد ضرائر جمع (ضرّة) وهي إحدى زوجتي الرجل أو زوجاته..( وضرة المرأة امرأة زوجها والضرتان امرأتا الرجل كل واحدة منهما ضرة لصاحبتها وهن الضرائر..) لسان العرب لابن منظور
قد يكون الشعر ابتلاءً للشاعر، واختباراً لصبره، وقدرته على تحمل المشاقَ، وقد يكون متنفساً للروح أمام مصاعب الحياة، وقد يكون معركة يخوضها الشاعر بالقلم لا بالسيف، وتخوضها المرأة بالدهاء والمكر، لا بالحكمة والتأني..
شعراء سطروا الملاحم، وخاضوا الملاحم، فزوجة الشاعر أو الأديب في حيرة من أمرها على الدوام، قريبة من جسده، بعيدة عن قلبه وتفكيره، تقاسمه المنزل والأبناء، ويستقل بنزعته الشعرية لاهثاً بين سطور الكتابة عن امرأة أخرى يتخيلها أو يكتب لها باستمرار، لمن يكتب، بمن يتغزل؟ وإلام يجلس على حاسوبه إلى منتصف الليل؟
الشاعر يبحث عن ملهمة، لا عن زوجة..هذه إجابات الشعراء وفلسفاتهم، والزوجة ترد قائلة: إن الشعر لا يطعم خبزاً، ولا يبني بيتاً، وووو
أمام هذا الشاعر تحديات كثيرة، فبدلاً من أن يطبع ديواناً يطعم إنساناً، يرفّه عن زوجته التي كرهت الشعر والأدب من ورائه، والتي تحملت ضيق منزلهما المليء بالكتب والكراريس.. عليه أقساط للمنزل، وفواتير الكهرباء والاتصالات، وأقساط المدارس، ومصاريف الجيب..فليبحث له عن عمل إضافي كيلا تموت عائلته من الجوع..
فمن يوفر للشاعر تلك الأجواء الحالمة التي يكتب فيها الشعر ليس منشغلاً إلا به..
يقول برتراند راسل- وهو فيلسوف وناقد اجتماعي بريطاني حاز على نوبل عام 1950- :(إن أسعد الزوجات زوجات العلماء، وإن أتعس الزوجات هن زوجات الأدباء والفنانين، لأن الأدباء والفنانين – برأي راسل – مزاجيون متقلّبون، ويعشقون النساء، وفوق ذلك هم مفلسون) وهنا مربط الفرس برأيي..(جريدة الرياض، ع/14901أبريل/2009 تحقيق صحفي لمريم الجابر)
ولو دققنا في الأمر جيدا لرأينا أن السبب الرئيس لذلك كله، الغيرة التي أودعها الله في قلب حواء.
وربما أدت الغيرة إلى القتل أحياناً، فاحذروا معشر الشعراء، فديك الجن قتل محبوبته حباً وغيرة واسمها ورد الحمصي وفي ذلك يقول:
يا طلعة طلع الحمام عليها = وجنى لها زهر الردى بيديها
روَّيتُ من دمها الثرى ولطالما = روَّى الهوى شفتيَّ من شفتيها
ما كان قتليها لأني لم أكن = أبكي إذا وقع الغبار عليها
لكن ضننتُ على الأنام بحسنها = وسئمت من نظر العيون إليها
وزوج الشاعرة الأفغانية ناديا إنجومن (22عاماً) قتلها، وهي زميلة دراسة في جامعة هرات، لأنها برأي جهاد فاضل كانت تقرأ شعر أدونيس، وربما ظن أن بعض قصائد الغزل لديها موجهة لغيره، وهي أسباب واهية بالطبع للإقدام على جريمة بحجم جريمة القتل(هل سيُقتل الشعراء العرب على أيدي زوجاتهم، جهاد فاضل/ جريدة الرياض ع3681، نوفمبر/2055)
فكيف تعيش زوجة الشاعر دور الزوجة والملهمة والمربية أمام هذا الكائن الغريب عن كل شيء إلا عن الشعر؟
تقول عائشة العسيري زوجة الشاعر أحمد التيهاني:( من الأشياء المهمة التي يجب أن تدركها زوجة الشاعر أن تتنازل عن نزعة التملك التي توجد بنفس كل زوجة...وتدرك أنها تسكن في كل قصيدة يكتبها حتى وإن لم يلمح الآخرون ذلك بشكل مباشر..)(جريدة الرياض ع14901/2009)
ولكن هل هذا الكلام ستقتنع به زوجة السياب أم غيلان..حينما داهم المرض الشاعر بدر شاكر السياب، وصعب علاجه في العراق أوفد إلى بيروت لينام في مستشفياتها على حساب الحكومة العراقية آنذاك، بعد حقبة من مطاردة عبد الكريم قاسم، وزبانيته للشاعر زجت به في السجن غير ما مرة..
جلس السياب على السرير الأبيض، تشرف عليه ممرضة اسمها ليلى ذات شعر أشقر منسدل، لازمته أيام مرضه في بيروت فقد منحته خصلات من شعرها الأشقر وبعض رسائل حب .. فكان يكتب في دفتر صغير بعض أبيات، وخبأ الدفتر تحت وسادته، إلى أن عثرت عليه أم غيلان إبان زيارتها لزوجها المريض، فغلت الدماء في عروقها، وأوشكت أن تلقي بالزوج الشاعر المريض من الطابق العلوي، فرمت الخصل الشقراء والرسائل من الشباك في البحر .. يقول بدر عنها في قصيدة ( رحل النهار ) عام 1962 :
(خصلات شعرك لم يصنها سندباد في البحار
شربت أجاج الماء حتى شاب أشقرها وغار
ورسائل الحب الكثار
مبتلة بالماء منغمس بها ألق الوعود)
ويقول السياب محاولاً التخفيف من وطأة هذا الطوفان القادم من جيكور إلى قلب العاصمة بيروت حيث الجمال الذي يملأ شوارعها ومستشفياتها وحدائقها، وإقبال تلح عليه بالعودة إلى العراق للحفاظ على ما تبقى من صحته وقلبه معاً..
لولا زوجتي ومزاجها الفوار لم تنهدّ أعصابي
ولم ترتدّ مثل الخيط رجلي دونما قوه ,
ولم يرتجّ ظهري فهو يسحبني إلى هوّه
ولافارقتُ أحبابي ....
ألاتباً لحب هذه الآلام من عقباه..
ولا ندري عم يبحث السياب في المرأة بشكل عام، وفي زوجته إقبال التي لم تعد ملهمة كما ذكرنا قبل قليل..
وأرسل رسالة إلى صديقه الشاعر مؤيد العبد الواحد التي فيها ما يفشي سر ابتعاد الزوجة عن عالم الشاعر ( يا مؤيد ، نصيحتي إذا ما إردت الإقدام على الزواج إن تكون رفيقة مستقبلك ذات ميل إلى الأدب على الأقل ، لكي تفهم مشاعرك وتشاركك إحساسك ) ثم يصرح عن إقبال بقوله (لم تفهمني ولم تحاول أن تشاركني أحاسيسي ومشاعري إنها تعيش غير العالم الذي أعيش فيه .. ) (بدر شاكر السياب: حياته وشعره/ عيسى بلاطه)
وتروي الشاعرة العراقية لميعة عباس نتفاً عن حب السياب للمرأة وبحثه عن المفقود دائماً، وقد كانا زميلي دراسة هي والسياب وهو مدرس لغة إنجليزية قبل أن يكون شاعراً، مما مكنه من قراءة الأدب الأمريكي والإنجليزي بشكل واسع، فأحب عن طريقه ولوج عالم الأساطير والخرافات، فقد قرأ كتاب (الغصن الذهبي ) لجيمس فريزر مبكراً، كما قرأ (الأرض اليباب) للشاعر ت. إس . إليوت..
ويروي الناقد الفلسطيني الأصل العراقي الجنسية جبرا إبراهيم جبرا كيف أطلّت وفيقة من الشباك على السياب بعد رحيلها، وقد كتب (شباك وفيقة) عام1961
" وفيقة تنظر في أسف
من قاع القبر وتنتظر
سيمر فيهمسه النهر" (كل النساء مستحيلات حتى زوجته/ علي الامارةhttp://www.alnoor.se/article.asp?id=65761 )
قد تعجبون بكثرة ما كتبت عن السياب، فلي معه رحلة طويلة تمتد إلى أيام الجامعة حيث كلفت بإعداد بحث عن السياب، والأسطورة في شعره، فأبحرت معه من (قطرة المطر) و(شناشيل ابنة الجلبي)و(القن والمجرة) و(المعبد الغريق) فدهشت من عالمه المليء بالأصداف والمرجان، والبخور..إنها الشعر الذي يولد من رحم العراق..
وما حديثي عن تأثير الزوجة عليه إلا غيض من فيض..

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية