عندما نتحدث عن المقاهي تقفز إلى أذهاننا صور الكتاب والمسرحيين والفنانين وقد وصلوا المقهى بقبعات ولحىً طويلة، وشعورهم مرخاة على أكتافهم ويدخنون البايب، ويتأبط كلٌّ منهم كتابا ضخما وبيده الأخرى شمسيةً ورزمة أوراق بيضاء... يبحثون عن الدفء الذي يولد الأدب والثقافة..
وربما كانت المقاهي الأدبية امتدادا لحركة الصالونات الأدبية التي كان أول ظهور لها في القرنين السادس عشر والسابع عشر في فرنسا وإيطاليا، حيث كان الأثرياء وميسورو الأحوال يجتمعون ليحتسوا القهوة، ويتناقلوا الأخبار، في جنبات قصور أو ردهات الدور، وكان أول مقهى مستقل مقهى بروكوب في باريس وكان من رواده نابليون بونابرت، والأديب الفرنسي فولتير، حتى قيل إنه لما بيع المقهى فيما بعد؛ كانت طاولة وكرسي فولتير غاليتيْ الثمن، وفي التاريخ العربي كان أول ميلاد لصالون أدبي رفيع في بيت ولادة بنت المستكفي عشيقة الشاعر الجميل ابن زيدون، في الأندلس، حيث كان الأدباء والشعراء يجتمعون في بيتها، وفي المشرق العربي اجتمع الأدباء في القاهرة في صالون مي زيادة، حيث استقطبت النخب المثقفة من رجالات الفن والأدب والسياسة كالعقاد والرافعي والمازني...
أما مقاهي الشرق فكانت تعبيرا أمينا لنضوج سياسي واجتماعي وفكري واضح في الستينيات، ففي شارع الحمراء كان مقهى المودكا محفلاً للأدباء والكتاب ومنهم الكاتب عصام محفوظ،وكان الأخطل الصغير (بشارة الخوري) يجلس هناك مستمتعا بصوت عبد الوهاب وهو يغني: جفنه علّم الغزل = ومن العلم ما قتل
ولعل أقدم مقهى في القاهرة مقهى(ريش) الذي أسسه هنري بيري في أعقاب الحملة الفرنسية على مصر عام1908، فاحتضن أهل الفن والأدب والشعر والسياسة والفكر بشكل عام، وكان نجيب محفوظ يقيم فيها ندوة مساء كل جمعة بين السادسة والثامنة والنصف مساءً، كما ارتاد المقهى الشاعر أمل دنقل، والشاعر أحمد فؤاد نجم والرئيس جمال عبد الناصر، والرئيس صدام حسين أثناء دراسته القانون في القاهرة، وروز اليوسف (فاطمة اليوسف)، وفي الأربعينينات انضم لمقهى ريش طه حسين، ولويس عوض، والعقاد، وتوفيق الحكيم وفيما بعد الروائي إداورد الخراط، وجمال الغيطاني، ونجيب سرور... كما استقطب (كافيه ريش) وهكذا كان اسمه، أبرز رموز الفن كأم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، وغيرهم.
ومن المقاهي المصرية مقهى البوسته، حيث يجتمع الشيخ جمال الدين الأفغاني بتلامذته، ويدفع عنهم ثمن مشروباتهم وحوله من طلابه: الشيخ محمد عبده، والزعيم سعد زغلول، والشاعر محمود سامي البارودي...
كما كان هناك مقهى دار الكتب، بجانب دار الكتب التي عمل بها الشاعر أحمد رامي، فكان رامي وأصحابه يتسللون إلى المقهى بين العاشرة والحادية عشرة مساءً لشرب الشاي والدخان، كما كان حافظ إبراهيم يطلب من زبائن المقهى الصمت ليلقي قصائده على مسامع مجايليه كعبد العزيز البشري، وحفني ناصف...
وفي مقهى الحلمية انقسم روّاده بين مبايع لأحمد شوقي على إمارة الشعر، وبين معارض، وشهد الحلمية مناكفات بين جماعة أبوللو الرافضة للقديم، وجماعة شوقي المتمسكة بالتراث والكلاسيكية.
وفي دمشق ظهر مقهى البرازيلي، وكان يقدم لزبائنه القهوة فقط، وأدركت في منتصف التسعينيات مقهى عمر الخيام والهافانا، في قلب العاصمة دمشق، وكان الشاعر مظفر النواب يرتاد الهافانا كثيرا، وقد رأيته غير ما مرة.
وفي شارع الرشيد ببغداد عدد من المقاهي مثل مقهى الزهاوي الذي كان يجتمع فيها الشاعر جميل صدقي الزهاوي والشاعر معروف الرصافي، والكاتب علي الوردي، وفي مقهى حسين عجمي كان يجلس محمد مهدي الجواهري وينظم قصائده.
( مجلة القافلة، ع28/2007)
وفي الرياض كثير من المقاهي اليوم ولكنها تقتصر على المشروبات بالإضافة إلى الجراك والتنباك والمعسل، يهرع إليها صغار السن في غفلة من عيون الآباء، فيلعبون الورق(الكوتشينه)، ويشربون النراجيل(الأراكيل). مع قلة أدب أحيانا.
ومنذ سنتين تقريبا حضرت أمسية للشاعر الدكتور حسين الحسن ألقى بعضا من قصائده في مقهى ملاصق لمركز حمد الجاسر التاريخي، وألقيت في المقهى ذاته بعض قصائدي، في أمسية لاحقة ووجدت فيه بعض الحفاوة بالشعر والأدب.
وفي الخليج بشكل عام انتشرت (الديوانيات)، وهي جلسات خاصة لكبار الموظفين، ولوجهاء الأحياء، وللمرشيحن أيام الانتخابات المحلية، والبرلمانية ليعرض فيها المرشح خطته الانتخابية أمام منتخبيه، وبعضها ينحو منحى الأدب والشعر إلا أنه ما زال في نطاق ضيق.
إن المقاهي التي خرجت أدباء وشعراء وكتَابا كانت بمثابة دور نشر شعبية، تشهد حراكا ثقافيا واسعا، فالكتاب يقرؤون لبعضهم مخطوطات الكتب والقصائد قبل طباعتها، كما كانت وفق رأي الكاتب محمد مستجاب (مثل البكتريا منها النافع ومنها الضار)،( الشرق الأوسط، ع/8664/2002) فقد يفاجئ رجال الأمن كاتبا أو مفكرا كتب منشورا ضد الحكومة، أو محرضا على التمرد من وجهة نظرهم عند دخوله المقهى، ويقتاد إلى السجن..
ولعلي أختم بأبيات لنزار من قصيدته (في المقهى):
بجواري اتخذت مقعدها = كوعاء الورد في اطمئنانها
وكتاب ضارع في يدها= يحصد الفضلة من إيمانها
يثب الفنجان من لهفته= في يدي ، شوقا إلى فنجانها
هي من فنجانها شاربة = وأنا أشرب من أجفانها
كلما حدقت فيها ضحكت= وتعرى الثلج في أسنانها
إنني جارك يا سيدتي = والربى تسأل عن جيرانها
وتطلعت فلم ألمح سوى= طبعة الحمرة في فنجانها
·
التدقيق اللغوي: خيرية الألمعي.