تعتبر الرسائل الأدبيّة فنّا قديما، شأنها شأن فن الترسل، ولكن رغم تنوّع أصنافها وتعدد مواضيعها فإنّنا نجدها في عصرنا الراهن تظهر في شكل جديد لصيق بإفرازات العصر الحديث عقب الحرب العالمية الأولى..وقبل التطرّق للحديث عن بعض هذه الرسائل عند الأدباء المعاصرين سنستحضر نُتفاً من رسائل الماضي الجميل، رسائل يمكن أن نرجع أجودها - وبثقة - إلى العلّامة ابن حزم الظاهري في كتابه (طوق الحمامة في الألفة والألّاف) وهو كتاب صغير حجما ثري معنى ومغزى، وهو متوفّر في نسخ ورقيّة وأخرى رقميّة على شبكة الانترنات. وما تفرّدت به هذه الرسائل أنّ صاحبها ( ابن حزم ) قد حصرها بين المحبين فقط، وليس بين قطبين أوأكثر من أقطاب الأدب والشعر لذلك لن نقف عنده مطولاً لننتقي من العصر الأندلسي أجمل الرسائل التي طرزها الحب، وغمرها الشوق، وملأتها الدهشة، لعل من أهمها رسائل الشاعر ابن زيدون القرشي لولّادة بنت المستكفي، بغض النظر عما بدر منها حيث كان الأدباء يجتمعون لديها في صالون أدبي، ربما كان الأول من نوعه آنذاك على شاكلة القصور الملكية الفرنسية والبريطانية في العصور اللاحقة.
أحبت ولّادة ابن زيدون حبّا عجيبا، فدارت بينهما الرسائل الملغومة بالحب والأشعار.. إلّا أنّ هذا الحبّ كغيره من علاقات الحبّ في بلاد الأندلس قد ختم بظاهرة " السلوّ والهجر " أي ابتعاد الحبيبة عن محبوبها لسبب أو لآخر، فتزهّدت ولّادة في حبّها وقسى قلبها على محبوبها ومال قلبها إلى ابن عبدوس سعيا منها إلى إغاظة حبيبها السابق. ولم يكتف ابن عبدوس بحبها فقط بل سعى بدسائسه أن يلقي الشاعر العاشق في غياهب السجن بحج مختلفة أعظمها القيام بمؤامرة ضد الحاكم وقد نجح في تحقيق مراده. ومن داخل السجن اتجهت رسائل ابن زيدون إلى حاكم قرطبة (أبا الحزم ابن جهْور) فكتب (الرسالة الجدية) يستعطفه فيها الخروج من غياهب السجن والنسيان، رسالة كتب قبلها (الرسالة الهزلية) التي وجهها لابن عبدوس، والتي ربما كانت إحدى عوامل دخوله السجن وفيها سخرية من ابن عبدوس وجهله، إذ جعل منه أضحوكة على كل لسان والغريب أنّه أوردها على لسان ولادة حبيبته التي هجرته مستعملا أسلوبا بليغا هيمن عليه البديع من سجع وغيره من الأساليب الأخرى، وهذا بعض ما جاء فيها: ( أما بعد، أيها المصاب بعقله المورط بجهله، البيّن سقطه، الفاحش غلطه ، العاثر في ذيل اغتراره، الأعمى عن شمس نهاره ،الساقط سقوط الذباب على الشراب، المتهافت تهافت الفَرَاش في الشهاب...).
ويمكن لمن يرغب في الاطّلاع على الرسالة كاملة العودة إلى كتاب سرح العيون سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون لجمال الدين بن نباتة المصري وقراءتها كاملة. وما يشدّ في هذه الرسالة تشابهها إلى حد بعيد مع ( رسالة التربيع والتدوير) للجاحظ التي يسخر فيها من أحد معاصريه، المكنّى بأحمد بن عبد الوهاب، وكان الأخير كاتباً للخليفة الواثق، منافسا للجاحظ في التقرب من الوزير ابن الزيات، ما أجبر الجاحظ على هجائه شرّ هجاء. وسميت التربيع والتدوير لأنه يصف فيها خصمة من خلال شكله المربع والمدور في آن معاً، لأنه حسب زعم الجاحظ إنسان مفرط في القصر يدّعي أنه مفرط في الطول، ومفرط في البدانة ويدّعي أنه رشيق.. وفي هذا قمة السخرية فيقول طه حسين عن الرسالة في كتابه ('من حديث الشعر والنثر) "الرسالة من أولها إلى آخرها هجاء" ومما جاء فيها: ( أطال الله بقاءك، وأتم نعمته عليك وكرامته لك. قد علمت ــ حفظك الله ــ أنك لا تحسد على شيء حسدك على حسن القامة وضخم الهامة، وعلى حوَر العين، وجودة القدِّ، وعلى طيب الأحدوثة والصنعة المشكورة...) وهي لا تبتعد كثيرا عن رسالة الغفران التي سخر فيها من ابن القارح أو كما يسمّى عليّ بن منصور الحلبي..
نتيجة لهذه الرسالة ( أي الرسالة الهزليّة ) سجن ابن زيدون فقضّى من الزمن ما قضّى لكن لم يشفع ذلك في زوال التهمة التي بقيت تلاحقه وتسير معه إلى أن قتل ولقي مصرعه فيما بعد.
أمّا رسائل العصر الحديث فنسرد ما دار بين غادة السمان وغسان كنفاني.. حيث كان كنفاني يحب غادة، ويطرز لها الرسائل الكثيرة، التي جمعتها غادة ونشرتها في وقت لاحق، مكتفية بالرسائل التي أرسلها هو ولم تنشر قصائدها التي كتبتها هي لغسان..وقد أثارت ضجة كبرى إبان نشرها عام 1993.
وفي أوروبا كان جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار الفرنسيان قد نشرا ما دار بينهما من الرسائل، وما زال المتحف الوطني في باريس يحتفظ بنسخة منها..فقد كان سارتر يروي لها كل ما يصادفه في يومه..وقد بدأ الحب بينهما بإعجاب في الأفكار وتخرجا من السوربون سوياً، فعملا في التدريس، كل في مكان فكانت المكاتيب لغة التواصل بينهما إلى أن التقيا..
وأما الأديبة مي زيادة فكانت رسائلها أدبية موجهة لعدة أطراف منها القريب كالعقاد الذي يقول (لو أنني اكتشفت عواطف مي في وقت مبكر لتغيرت حياتي) ولا أدري هل يقصد الزواج منها، وقد كان أعزب لم يتزوج سوى (سارة) في روايته وسارة فتاة يهودية يقال إن العقاد أحبها، وترجم حبها في رواية أدبية جميلة..ومنهم أحمد لطفي السيد الذي ما كان يسافر إلى أي مكان دون أن يمر للسلام على مي، وكانت تكتب له من ألمانيا حيث تقيم، ويكتب لها من القاهرة، وترافقه كدليل سياحي في قلبه وفي تنقلاته.. فقد كتب السيد في إحدى رسائله إليها حين كان رئيس تحرير (الجريدة) " ولست بحاجة إلى ندائك من بعيد أو قريب فأنت من نفسي أقرب من أن تناديك..."
وقد تأخذ الرسائل الأدبية منحىً آخر كالتي كانت بين جبران ومي، حيث تبادلا الرسائل لأكثر من عشرين عاماً دون أن يتقابلا فكانت مي التي أحبت جبران وأحبها على البعد تقول: (ذاك هو مصيبتي)، وفي كتاب (رسائل جبران التائهة) التي جمعها رياض حنين عام 1983 في بيروت قرابة مئتي رسالة بين جبران وآخرين وأخريات منها 19 رسالة لم تنشر قبل ولادة الكتاب.. تبادلها جبران مع شخصيات أدبية وسياسية عرباً وأجانب، بالعربية والإنجليزية ذيّلت بتوقيعه وإشاراته وكلماته للعرب باللهجة اللبنانية المحلية أحياناً..ومنها رسائله مع مي التي نشرتها مجلة أكتوبر في العدد214عام 1980 تحت عنوان (الشعلة الزرقاء) وقد قال عنها توفيق الحكيم بعد قراءتها: "إنها مكتوبة بندى الحب السماوي" ومنها رسائله إلى ماري هاسكل وهي أمريكية كانت تساعده في أعماله ورسوماته، كذا رسائله إلى ماري عزيز أرملة عيسى الخوري الثرية، وقد كانت تقدم له الدعم المادي في المهجر، وكانت تحبه في الوقت نفسه، وقد أقامت في بيتها صالوناً أدبياً لأدباء المهجر في البرازيل (رسائل جبران التائهة). ومنها كذلك رسائل جمعته من خلال السطور والكلمات بالشاعر المعاصر ميخائيل نعيمة، وغيره..
ومن رسائل الأدب الملتزم (الثوري في مواجهة الاستعمار) ما كان يدور بين سميح القاسم ومحمود درويش حيث كتبا عن الحب والمنفى والغربة والوطن السليب..وهي كثيرة وطويلة لمن شاء الرجوع إليها وهي في الحقيقة قصائد شعر لا رسائل فحسب..
وفي سياق الرسائل بين الأدباء لا يمكن أن نغفل أهمية رسائل أعضاء مجلة شعر فيما بينهم وهم شعراء ونقاد كأمثال: يوسف الخال، وأدونيس والسياب، ونذير العظمة، وسلمى الخضراء الجيوسي، وجبرا إبراهيم جبرا، وأسعد رزق، وجورج صيدح وأدفيك شيبوب..
إذ كان السياب يرسل قصائده لأستاذه أدونيس لنشرها والتعديل عليها فمن ذلك رسالته في الستينيات يقول فيها: ( أرسلت لك بالبريد جريدة الحرية فيها قصيدة جديدة لي بعنوان "نبوءة" بودي لو أمكن نشرها في لبنان، إن كانت تستحق النشر في مجلة (شعر) أو (الآداب) فهل لك أن تحقق ذلك؟ وهناك غلطة مطبعية أرجو تصحيحها ففي البيت التاسع عشر منها جاء: "هل يحيا في البلاد " والصواب " في بغداد"..ثم يختم بقوله : بلغ سلامي للأخ يوسف الخال، وللأخ نذير العظمة، وللأستاذ ماجد فخري، والأستاذة سلمى الجيوسي وللآنسة نازك الملائكة، وللأخ رفيق الدرب رفيق معلوف، ..) وفي رسالة أخرى أيضاً يهتم السياب بالسلام على رفاق الحرف والكفاح أمثال: حليم بركات، وأسعد رزق وجورج صيدح..والسيدة أدفيك شيبوب..ويختم رسالته بالتوقيع (بدر) وأحياناً (السياب).
وما تلك الرسائل ببعيدة عما كانت عليه رسائل الجاحظ وابن زيدون في الزمن الماضي، فهذه نازك الملائكة تكتب إلى عيسى الناعوري رئيس تحرير مجلة القلم الجديد الأدبية، تشكو بدر شاكر السياب الذي ينسب إلى نفسه أنه مكتشف الشعر الحر (قصيدة التفعيلة) والملائكة ترى أنها أحق بتلك النسبة فهي مكتفشتها من خلال ديوانها (شظايا ورماد) 1949 وقصيدة (الكوليرا) 1947التي كتبتها تعاطفاً مع الشعب المصري إثر تفشي الكوليرا بين أبنائه، حيث حصدت أرواح الناس بالمئات آنذاك..وتعيب على السياب أنه في ديوانه (أزهار ذابلة) يدّعي ما ليس له به حق، بينما الاكتشاف يعود إليها قبل صدور ديوانه في أواخر الأربعينيات، وإن كانت تنشر في الصحف والمجلات قبل أن تجمع أشعارها في دواوين فتقول في إحدى رسائلها: ( من الممكن طبعاً أن أكتب إلى مجلة الآداب أو الأديب لأعلن رأيي في القضية إلا أنني في الواقع لا أجد شيئا أتفه ولا أقبح من أن أثير ضجة حول قضية تافهة مثل: من صاحب الحق في الشعر الحر؟ نازك الملائكة أم بدر شاكر السياب؟ ). والحق يقال إن كتاب نازك الملائكة (قضايا الشعر العربي المعاصر) لَكِتابُ قيِّمُ اشتمل على التفعيلات والبحور والأوزان فحريٌّ بأي شاعر أن يقرأه، دون التحيز لجهة على حساب أخرى..
طبعاً ما يزال الأدب العربي زاخراً بالمكاتبات والإخوانيات، والرسائل التي لم تكتشف بعد، فهي بمثابة كنوز أدبية ذات قيمة، وما يمنع الأدباء من نشرها الخشية من إثارة البلبلة والزوابع، فتبقى حبيسة الأدراج، أو مودعة في مكان أمين كما أودعت غادة السمان كثيراً من أعمالها ورسائلها في المصرف السويسري، فمن حق عشّاق الأدب وطلاب المعرفة الاطلاع عليها، فتلك الرسائل إنما تؤرخ لحقبة تاريخية وأدبية وسياسية أيضاً، ومن الأهمية الإحاطة بظروف كتابتها، فهي تحمل متغيرات وسمات أدبية لذلك العصر بطريقة أو بأخرى، وتعالج قضايا بأسلوب يتأرجح بين الجدّ والهزل، والظاهر والباطن في كثير من الأحيان.
التدقيق اللّغوي : أحمد اللطيّف.