أشعل ابن مدينة الحديد الشاعر الجزائري ياسين عرعار الفضاء الإلكتروني والورقي بحواراته القيمة والعميقة، والزاخرة بأسئلتها الراقية الرشيقة؛ مع عدد من قامات الأدب والثقافة والفكر العربي، والحوارات التاريخية حول ثورة التحرير الجزائرية التي لفتت الأنظار إليه، وقد عكف على القصيدة الخليلية إبداعًا، فأصدر ديوانه الأول والثاني أوشك على الصدور حتى ذاع اسمه، فشارك في الملتقيات والمهرجانات الوطنية والعالمية، وغامر بدخول المسابقات الكثيرة المحلية التي حصد فيها الجوائز المتقدمة، فقد اختيرت قصيدته: "اللحن الأخير" من أجمل القصائد المهداة للمعلم، وقام الشاعر الجزائري عادل سلطاني بترجمة قصيدته: "أنا العربي"، وعانقت الموسيقى كلمات مقطوعته الشعرية: "ماذا سأجني؟" التي صدح بها المطرب الجزائري جمال الدين درباسي، كما ضمت اسمه الموسوعة الكبرى للشعراء العرب التي أعدتها الباحثة المغربية فاطمة بوهراكة، ثم حصل على الدكتوراه الفخرية من المجلس الأعلى للإعلام الفلسطيني تقديرًا لنشاطه الإبداعي والإعلامي الصحفي وكتاباته التي تخدم القضايا العربية.
غمس الشاعر ياسين عرعار يراعه في محبرة النقد حيث دبج الدراسات النقدية الشعرية المتنوعة لأعمال الشعراء الأقدمين والمحدثين من مختلف أنحاء الوطن العربي، انتهاءً بعمله كأستاذ للأدب العربي، وممارسة الصحافة بجريدة الحوار الجزائرية.
بعد هذا التطواف الذي يختزل محطات كثيرة في مشوار الإبداع لضيف الحوار الذي أحاول استثمار روافده الكثيرة في أسئلة تتناول القصيدة والنقد والسياسة والتعليم والرياضة والمرأة، فلنبدأ:
ـــ شاعرَنا الكبير ياسين عرعار، نزحْت من أسرة قدمت الشهيد والثائرات والثوار، فَلِمَ لَمْ تسكن الثورة مفردات قصائدك؟
أولًا: أقدم تحياتي الخالصة إلى شخصكم النبيل أخي الأستاذ السيد إبراهيم أحمد، مُعبرًا عن سعادتي بهذا اللقاء الفكري الجديد بيننا لأكون ضيف حوارك، لك مني فائق الاحترام والتقدير، وتحية مضرجة بالحب ومعطرة بنسائم الأوراس الأشم، ومسقية ورودها بدماء الشهداء.
وثانيًا: هي الثورة الخالدة التي ورثناها تاريخًا حافلًا بالأمجاد، ثورة المليون ونصف المليون شهيد، هي التي سكنت دماءنا فتلونت مفردات قصائدنا بلونها، تمجد البطولة وتعانق الفخر في سجل الشعراء الذين خلدوا التاريخ في كتاباتهم وآثارهم مسلمين مشعل الوطن الحر الأبي إلى الأجيال.
إن الشهيد (رمضان عرعار) الذي عانق الاستشهاد دفاعًا عن الوطن ولينال الجنة عند الله لقول الله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)، قرأنا عن الثورة، وحكى لنا الآباء عن الثورة التحريرية وجرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، فحملونا على حب الوطن والاحتفاظ بأمجاده، فكانت الثورة روح كتاباتنا، ومفرداتنا بدمائها. ولعل تجربتي الأولى في البحث التاريخي كانت في كتابي المنشور إلكترونيا (الشهيد رمضان عرعار رجل من ذاكرة الجزائر).
إن شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكرياء رحمه الله كتب التاريخ شعرا، في أعظم ملحمة شعرية (إلياذة الجزائر) التي ضمت ألف بيت شعري. ترك للجزائر خصوصًا والعالم العربي عمومًا مرجعًا تاريخيًا ثقافيًا وأنموذجًا في تدوين التاريخ شعرًا.
أما نحن الجيل الجديد فنغرف من الذاكرة الشفوية، والصور الحية الشاهدة على ويلات الاستعمار الفرنسي لنكتب أوجاعنا وحبنا للوطن.
ــ تسكن مدينة الونزة قلب باريس بحديدها الذي يشكل برج إيفل، وتسكن فرنسا الونزة التي أنشأتها في بدايات القرن العشرين، ويسكن جزائريون كثر مدن فرنسا.. نريد توضيحا لتلك الجدلية في العلاقة بين فرنسا والجزائر؟
العلاقة بين فرنسا والجزائر.... قائمة منذ الأمد البعيد تمتد صفحات روايتها عبر الزمن وتختلف من مشهد إلى آخر ولكن ضغينة الاستعمار تبقى قائمة مهما تغيرت فصول الرواية، أما عن (برج إيفيل) الذي يفتخر به الفرنسيون فقد صُنِعَ من أطنان الحديد المستخرج بالكامل من منجم مدينة الونزة بولاية تبسة ــ حاليًاــ بالشرق الجزائري، سرقته فرنسا من الجزائر عام 1889م أي حوالي 30 سنة بعد الاحتلال. ما يفوق حوالي 10000 طن من الحديد الجزائري الذي تحول إلى 18000 قطعة حديدية وكل معدات ربط القطع بعضها ببعض.
"برج إيفل" الذي بنته شركة "إلكسندر غوستاف إيفل" بعد 59 سنة من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي للجزائر بمناسبة الذكرى المئوية للثورة الفرنسية. استنزفت فرنسا عرق الجزائريين لتبني عظمتها على كواهل جزائرية.
أما عن الجزائريين الذين يسكنون فرنسا، فحالهم كحال كل العرب الذين استوطنوا في كل دول العالم مهما اختلفت الأسباب والأهداف، وتبقى أرض الله واسعة وليست ملكًا لأحد لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
ــ كونك صحفيًا قديرًا، هل تتناول مقالاتك هذا الحراك من أنات ساكن الونزة مما يلاقيه من المعاناة والسلبيات، والدعاوى التي تطالب بتحويل "الونزة" إلى ولاية؟
بصراحة لم تتناول مقالاتي شيئًا مما ورد في سؤالكم، لأن اتجاهي الصحفي كان مُنصبًا على الثقافة والإبداع بعيدًا عن كل القضايا الأخرى، وهذا تبعًا لميولي الصحفية وطبيعة المهمة المسندة لي بجريدة الحوار الجزائرية.
ولكن هذا المشروع الذي أشرت له أنت، هو حلم كل واحد من سكان مدينة (ونزة) التي قدمت الكثير للاقتصاد الجزائري، فهي العمود الفقري في الثروات، فالمدينة حاضرة بثرواتها ودورها الكبير في تحقيق الميزان التجاري الرابح بعد ثروة البترول الذي يمثل الركيزة الأساس في الاقتصاد الجزائري، إن مدينة (ونزة) حاضرة بقوة في الاقتصاد الوطني والدولي بفضل منتوج الحديد، أما الدعاوى التي تطالب بحقها في التنمية وتحويلها إلى ولاية فهي قائمة كأي دعاوى قائمة في مدن جزائرية أخرى، ترى لنفسها أسبقية الترقية الإدارية، ومع ذلك تبقى هذه الترقية خاضعة لمقاييس تحددها السلطة التشريعية في البلاد، ومن هذه المقاييس (طبيعة الموقع الجغرافي وامتيازاته ــ عدد السكان ــ الثروات الطبيعية).
ــ درستم في بواكير دراستكم الجامعية: "قانون العلاقات الاقتصادية الدولية"، لماذا تظل المدينة الأغنى في دولتها متدنية اجتماعيًا عن غيرها، كمدينتي السويس في مصر، والونزة مدينتكم في الجزائر.. أنموذجًا؟
ــ من وجهة نظري يبقى سوء التخطيط الاقتصادي هو السبب الرئيس في هذا التدني الذي يهضم حقوق المدن رغم امتيازاتها الاقتصادية وحراكها الاقتصادي العالمي. الذي يساهم في ازدهار التنمية الرائدة في جميع الميادين. ومع ذلك فموضوع سؤالك يا صاحبي لا يعد مقياسًا حقيقيًا أو حقيقة مطلقة بل ربما وجهة نظرك صحيحة صادرة عن قناعتك الشخصية فقط بمقاييس يمكن أن تتواجد في العالم العربي. ولكن لا يمكن أن نُعمِّم هذا الأنموذج من موضوع سؤالكم على كل العلاقات الاقتصادية الدولية لأن السياسات الاقتصادية تتغير من بلد إلى آخر رغم اشتراك العالم كله في المقياس الاقتصادي كمحور تعامل بين الدول وفق علاقات تبادلية تجارية نفعية .
ــ كتبت العديد من الدراسات النقدية حول أعمال شعرية صاغها شعراء من القدامى والمحدثين، ولكن لماذا لم يتناول النقد أعمالك حتى الآن؟
ــ ساقتني شاعريتي لأتصفح القصائد العربية بعيدا عن جغرافيا الشعر أو خارطة الانتماء، قرأت واستمتعت بالفكر المغاربي والفكر المشرقي، وقمت بدراسات نقدية لقصائد بعض الشعراء: قراءة نقدية بعنوان "لغة الطبيعة وصراع الألوان في شعر ابن خفاجة الأندلسي"، وقراءة نقدية في قصيدة "كأس من الشعر" للشاعرة السورية زاهية بنت البحر، ودراسة سيميو فيزيولوجية في قصيدة "كقطع من الليل" للشاعر الجزائري محمد الصالح شرفية"، ودراسة سيميو نفسية في قصيدة "غدًا تعرفين" للشاعر الفلسطيني طلعت سقيرق، وقراءة تأملية في ديوان "آخر السفن" للشاعر الجزائري محمد الصالح شرفية، وقراءة تأملية في ديوان "قناديل منسية" للشاعر الجزائري بغداد سايح، ومقاربة نقدية في قصيدة "شوقي إليك" للشاعر السوري حكمت خولي، الحس الرمزي في قصيدة "غابة التيه" للشاعر السوري حكمت خولي.
كما تبادلت المناقشات مع الكثير من الشعراء من خلال الصفحات الأدبية حتى وإن كان نقدًا عابرًا من الإعجاب والتعليق، فهو حافز لي على المواصلة والإبداع. ولا أشاطرك الرأي في أن النقد لم يتناول أعمالي الشعرية لأن الدراسة النقدية التي قام بها الأستاذ الدكتور الجزائري عز الدين ذويب، وهو أستاذ بجامعة تبسة، الذي أشرف سنة 2010م على دراسة ديواني (مهر ليلى) في رسالة ليسانس بعنوان "مظاهر التقليد و التجديد في الشعر الجزائري المعاصرــ ياسين عرعار ــ أنموذجًا" في تخصص (تحليل الخطاب) نظام (ل ــ م ــ د)، من إعداد الطالبتين (صبح حراث ــ لموشي سماح)، كانت دراسة عميقة اكتشفت من خلالها ذاتي الشاعرة وتجربتي الإبداعية في مختلف المستويات الفنية .
كما قام الأديب الجزائري السعيد مرابطي بقراءة نقدية منشورة في صحيفة المثقف الإلكترونية بعنوان "حول ديوان مهر ليلى للشاعر ياسين عرعار"؛ حيث تضمنت هذه القراءة النقدية جزأين أولهما: التجربة الإبداعية التي انطبعت بالعشرية السوداء التي مرت بها الجزائر، وثانيهما سيميائية الغلاف "اللوحة المنتخبة والخط وعنوان الديوان".
كما تطرق الشاعر الجزائري بغداد سايح إلى ديواني الشعري في قراءة بعنوان "مهر ليلى، قبس من إبداع الشاعر ياسين عرعار" منشورة بمجلة أصوات الشمال الإلكترونية؛ حيث تطرق الشاعر بغداد سايح إلى استقراء ما يلي: "دلالة عنوان الديوان ــ المفردة الشعرية ــ الإبحار الشعريّ مع ياسين ــ غنائيّة الشعر عند ياسين ــ ثلاثية ياسين: الكتابة- الأنا – الآخر.
كذلك المقدمة التي وضعها الأستاذ الباحث الناقد الدكتور لزهر فارس، وهو أستاذ النقد بجامعة تبسة، للطبعة الثانية من ديواني (مهر ليلى) سنة 2013م والتي نشرتها في طبعة إلكترونية، كانت قراءة نقدية متميزة.
ــ صدر لك ديوان: "مهر ليلى" عن وزارة الثقافة سنة 2008، وتنتظر المجموعة الشعرية: "أشرعة الحب" الإذن بالصدور، ألا ترى أن الفترة طويلة على الرغم من غزارة إنتاجكم وجودته؟
ــ موضوع الطباعة يا صاحبي ... لم أربط به شاعريتي يوم نزف اليراع وألقيت بقصائدي إلى القارئ ليسمع دقات قلبي، على مدار 12 سنة تقريبا أي من سنة 1992م إلى 2004م، كنت أكتب فقط لتصل قصائدي عبر الجرائد الورقية الوطنية، لقد كانت أجمل فترة في حياتي، وهي مرحلة اكتشاف الذات الإبداعية والشاعر الذي يسكنني، كنت أرى أن الطباعة أمر صعب ليس من حيث تكاليف ومصاريف الطباعة لأن حالي كانت ميسورة آنذاك لأطبع على نفقتي الخاصة. لكن القدر هو الذي مكنني من الطباعة بعد مشاركتي في الملتقى الوطني للشعر وتحصلت فيه على الجائزة الأولى في الشعر العربي (بمدينة تيزي وزو ــ ديسمبر سنة 2003م) لأحظى بتكريم من مدير الثقافة لولاية تبسة السيد "أحمد ذباح" وهو أن يسهر على طباعة ديوان، فرحبت بالفكرة وجمعت 14 قصيدة من بين قصائدي في ديوان عنونته "مهر ليلى" في خمس نسخ وفق النظام المعتمد في الطباعة مرورًا بلجنة القراءة ثم القبول والطباعة، ومع ذلك كان التأخر في الطباعة بسبب الأمور الإدارية ليصدر الديوان سنة 2008م بدعم من وزارة الثقافة في إطار الصندوق الوطني لترقية الفنون وآدابها وتطويرها. ليتوج الديوان المطبوع بـ 2000 نسخة ورقية.
كان صدورًا جميلا رغم الأخطاء المطبعية لأنني حظيت بفرصة ناجحة في حياتي الإبداعية، ولم أتوقف عن الإبداع بل أخذت فترة أنتظر فيها النقد والذي من خلاله أبني عليه تجربتي الإبداعية ومواصلة مشواري الأدبي.
أما عن مجموعتي الشعرية الثانية "أشرعة الحب" وغيرها من المجموعات فهي لا تزال قيد الورق ولم تخرج إلى الطباعة رغم الجهود التي أبذلها.. حاولت أن أطبعها على نفقتي الخاصة ولكن لم أستطع بسبب المصاريف الباهظة في الطباعة، فأصبحت بين خيارين أحلاهما مر، وهما الاحتفاظ بأعمالي أو الاستسلام للعقود الاستغلالية التي تمنحك 10 بالمائة وتستثمر كل طاقتك الفكرية أو تأخذ منك مبالغ باهظة للطباعة فقط دون التوزيع.
ولعل الحل الأفضل هو النشر الإلكتروني الذي سمح للكثير من الأدباء والكتاب والباحثين بالحفاظ على ممتلكاتهم الفكرية وتوزيعها للقارئ مجانا وهذا أفضل بكثير. وهذا ما فعلته في إعادة إصدار ديوان (مهر ليلى) إلكترونيا ليسهل توزيعه مجانا للقارئ العربي. وفعلا نجحت في الأمر وأعتبره مكسبًا كبيرًا.
أما عن تأخري في إصدار المجموعة الثانية (أشرعة الحب) فأنا أشرت إلي، (مشكلة الطباعة وعقودها المبرمة)، وأنا موظف لا يستطيع المغامرة بأجرته الشهرية وأسرتي أحق بالرعاية المالية وبمرتبي الشهري المتواضع.
ومازالت معي قصائد كثيرة أخرى منها المنشورة إلكترونيا وأخرى لا تزال في مكتبي، سأجمعها لتكون مشاريع دواوين أخرى إن شاء الله. كما أنني لا أعد أيام إبداعي وسنوات تجربتي الإبداعية بطباعة الكتب. هذا من وجهة نظري، فأنا كاتب ككل المبدعين ولكل مبدع حظوظه في النشر والتوزيع.
ــ برأيكم .. ما مستقبل القصيدة العربية في ظل التحولات السياسية الراهنة؟
ــ القصيدة العربية تنتفض من حين إلى آخر تبعًا للأحداث السياسية وغيرها، ولكن تبقى محل دراسة في جميع مستوياتها الإبداعية، لأن الشاعر قد تكون ذائقته عالية ورؤيته واسعة، فيصور الحدث في أبلغ صورة أدبية شعرية راقية تخلد العصر وتطبع الشعر في سجل ذهبي، لأن الشعر ديوان العرب .
كما أن العولمة التي اتسعت مجالاتها كانت لها تأثيراتها الإيجابية والسلبية فالأدب كائن معنوي يسكن الإنسان، الذي قد يتأثر سلبًا بالعولمة بحكم المستوى الفكري في التعامل مع تبعاتها، فيتراجع ويتخلف عن القيم الحضارية التي يصنعها الأدب، وقد يتأثر إيجابًا فتكون الحداثة حداثة حقيقية على المستوى القيمي والأخلاقي والحضاري.
ولا يمكن أن نحكم على القصيدة العربية من منظور سياسي فقط، لأننا بذلك نكون قد حاصرناها وضيقنا عليها الحيز وقتلنا أبعادها وأعدمنا مسؤولياتها المتعددة. وعلى الرغم من ذلك أرى أن القصيدة العربية تساير الحياة كلها وليست الأحداث السياسية فقط، لذا فهي تشق طريقها نحو الأفضل محاولة احتواء قضايا العصر والتعبير عن متطلبات الإنسانية.
ــ تئنّ العربية من إهمال أولادها لها على مساحة الوطن العربي من مغربه لمشرقه، بوصفكم أستاذًا للأدب العربي: كيف ترصد هذه الظاهرة في واقعكم الجزائري وفي متابعتكم للواقع العربي، وما هو العلاج من وجهة نظركم؟
ــ اللغة العربية هي هويتنا وجزء لا يتجزأ منا.. فهي لغة القرآن الكريم والحديث الشريف ولغة الشعر العربي وهي البحر الغني بالمفردات؛ كما قال الشاعر المصري حافظ إبراهيم:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟
أخي الرائع المحاور الفذ السيد إبراهيم أحمد، لعل الإجابة موجودة في الشطر الثاني من البيت الشعري (فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟). فأي غواص يقصده الشاعر قد يخرج لنا صدفات اللغة من هذا البحر العظيم؟
فعلًا أنت طرحت قضية جديرة بالاهتمام لأن العربية ما زالت تعاني الإهمال من أولادها بالإضافة إلى محاولات التشويه القائلة بأنها لغة لا تنجب العلم، هذه المحاولات التي استحوذت على عقول الكثير من الأشخاص فراحوا يروجون لإضعافها و تغريبها وتحطيمها.
ثم إن الخطر الثاني هو وليد بيئتنا العربية لأن اللهجات العامية في العالم العربي تنافس اللغة العربية وربما نجد أن اللهجات هي الأكثر حظًا في الظهور على الساحة، وباتت العربية دروسًا في المدارس والجامعات إلا القليل من يتحدثون بها. فالعربية نجدها تواجه تيارين هما وجهان لعملة واحدة في اندثار عربيتنا، فالأول تيار العامية والثاني تيار اللغات الأجنبية، ولعل التيار الأول أجده أكثر تدميرًا لهذه اللغة الجميلة التي أصبحت تعاني من الدخيل عليها من لهجاتنا العامية.
أما الخطر الثاني من وجهة نظري فهو العولمة الإلكترونية، التي باتت فضاءً لترسيخ اللغات الأجنبية أكثر من العربية، فالأمة العربية تستهلك البرامج المروجة للغات الأجنبية أكثر لأنها لم تجد الإنتاج الوفير الذي يخدم العربية أكثر من غيرها، وهذا الإنتاج لا يتأتى إلا بجهود أبنائها. وتجدر بي الملاحظة هنا أن العامية أصبحت رائجة بكثرة على مواقعنا الإلكترونية الأدبية والفكرية، فهل العربية صعبة على أبنائها إلى هذا الحد؟
إن الحكومات تضع برامج للحفاظ على مكانة لغاتها محاولة استقطاب العالم والسيطرة الفكرية والعلمية لتسويق منتجاتها وأفكارها وهذا أكبر غزو في عصرنا الحديث. لذلك أصبح من الواجب علينا وضع مخططات قوية للنهوض بلغتنا الجميلة على الصعيد العربي ابتداءً من المناهج التعليمية الدراسية التي ترفع من لغتنا بعيدًا عن التشويه والإحساس بالضعف، ثم إحداث المنافسة على مستوى العولمة بلغتنا العربية، فالأمة العربية تمتلك الكفاءات القادرة على هدم هذا العجز.
ــ أقمت الكثير من الحوارات الثرية والذكية مع الكثير من قامات الأدب والفكر العربي، لماذا لم تضمها وتصدرها في كتب ينتفع بها القارئ العربي والمؤسسات الثقافية المختلفة؟
ــ تجربتي الثقافية الصحفية فتحت عوالمي المعرفية أكثر لأن الحوارات التي أقمتها كصحفي بجريدة الحوار الجزائرية أو كناشط ثقافي مبدع في الكثير من المواقع الأدبية الثقافية؛ مكنتني من الحوار الفكري المتجاوب مع الأدباء المثقفين من كل البلدان العربية، وربما كانت التجربة الإلكترونية أوسع وأسهل في هذه الحوارات، ومن بين هذه الحوارات على سبيل الذكر لا الحصر: حوار مع الشاعرة الإماراتية أسماء صقر القاسمي، ومع الشاعرة المغربية فاطمة بوهراكة، ومع الشاعر الفلسطيني لطفي الياسيني، ومع الشاعر العراقي هلال الفارع، ومع المفكر السوري محمود عباس مسعود، ومع المفكر الموسوعي المصري محمد حسن كامل، ومع الأديب المصري السيد إبراهيم أحمد، ومع الشاعر الجزائري عادل سلطاني، ومع الشاعرة السورية زاهية بنت البحر (مريم يمق)، ومع الأديب الفلسطيني وهيب نديم وهبه، ومع الأديب العراقي فالح الحجية الكيلاني، وغيرها من الحوارات التي أجريتها في منتدى (نورالأدب) تحت عنوان (شرفة ياسين عرعار للمؤانسة والحوار) والتي أجريتها أيضًا في منتدى صدانا تحت عنوان (مسافات للبوح وفضاءات للحوار)، ومن الحوارات الإلكترونية أيضا ما تم نقله إلى جريدة الحوار الجزائرية الورقية، وهذا من سنة 2011م ــ 2013م.
فأنت مشكور أخي السيد إبراهيم أحمد لإشارتك لي بطبع هذه الحوارات وإصدارها في كتاب ينتفع به القارئ العربي والمؤسسات الثقافية المختلفة... فعلًا هي فكرة رائعة لضمان الحفاظ على هذا النتاج الفكري المشترك بين الأقلام العربية... سأحاول بإذن الله جمعها ومراجعتها ونشرها إلكترونيًا في كتاب على أجزاء لأن الحوارات كثيرة. ويمكن للمؤسسات الثقافية نشرها أيضًا.
ــ هل يرى شاعرنا الكبير أن البنية الثقافية العربية ما زالت تمتلك مقومات النهضة على كافة الأصعدة الإبداعية في عالم إبداع اليوم بالتزامن مع الحدثين الأخيرين اللذين أحدثهما العرب على أرض فرنسا؟
ــ البنية الثقافية العربية ستظل تمتلك كل مقومات النهضة على كافة الأصعدة في عالم إبداع اليوم، وستستمر خاصة وأن كل الضروريات المتعلقة بالإعلام موجودة بالمقارنة مع الزمن الماضي، ولن تتأثر البنية الثقافية العربية من حيث كيانها المستقل بذاته، رغم كل محاولات التدخل الأجنبي من أجل زعزعة استقرارها، وتشتيت قوتها ووحدتها لأن ما يسمى بـ (الربيع العربي) ما هو إلا فكرة غربية تغلغلت إلى الأوساط العربية محاولة هدم الشخصية العربية وتركها تتخبط في مشاكل عويصة، ومع ذلك وجدت هذه الفكرة الصهيونية طريقها لتتسلل إلى المجتمع العربي محدثة ارتجاجًا كبيرًا في بعض الدول، وقد تزامن هذا الارتجاج مع سلبيات الأنظمة العربية التي ظهر عليها الفساد، فكانت الأرض خصبة ليزرع الأجانب أفكارهم، ومع ذلك مازال المثقف العربي على وعي كبير بالمخططات الصهيونية المدمرة يواجه خطر الإبادة محاولا استرجاع الاستقرار والأمن رغم الدماء والحروب والخسائر الكبيرة.
ــ كانت لكم تجربة طيبة من خلال عناق الموسيقى لأبياتك الرائعة، ومع نجاح تلك التجربة فلم تكرروها.. لماذا؟
ــ نعم، هي تجربة جميلة ناجحة جاءت مصادفة، امتزجت فيها الموسيقى بالشعر حيث قام الأستاذ المطرب الجزائري (جمال الدين درباسي) بتلحين وغناء مقطوعتي الشعرية (ماذا سأجني؟) حيث ظهرت في حلة فنية أنيقة بازدواجية العمل الفني (شعر وموسيقى). شخصيًا لم أتعامل مع عشاق الموسيقى ولم أعرض عليهم أن يلحنوا أو يغنوا، فشعري ليس ملكي فبمجرد أن أنشره يصير ملكًا للقارئ بمختلف مستوياته الفنية، ولكل قارئ ذائقته في التفاعل مع إبداعي الشعري.
ــ القارئ العربي على العموم يستعذب سماع الشعر ويبتعد عن القراءة بمَ تفسرون هذا الاندثار الجزئي للقراءة الشعرية؟
ــ أوافقك الرأي لأنها حقيقة جديرة بالعرض وإعادة النظر في تراجع المقروئية الشعرية، لأن المتلقي ربما صار ميالًا للراحة بفضل تِقانة العصر التي وفرت له متعة الاستماع، فاستغنى عن حاسة العين لتصير الأذن أكثر نشاطا، ومع ذلك تبقى القراءة الشعرية ضرورية فللسمع نكهته وللقراءة أيضا نكهتها وما أحوج النقاد إلى إعادة القراءة في الكثير من المرات للوقوف على مادة النص وتحليلها وإصدار الأحكام المتعلقة بالنقد البناء.
وأحيانًا لا يمكننا في حال من الأحوال أن نستغني عن صوت الشاعر الذي يسرق السمع ويهز النفوس والمشاعر أثناء القراءة فيعطي نفسًا مميزًا لقصيدته. فكم من شاعر اهتز الجمهور لصوته وتفاعل القراء مع كلماته وشاعريته المتدفقة ولغته الراقية. وحتى يكون الاتزان فلا إفراط ولا تفريط، ولنجعل لحواسنا ذائقة مميزة تقتضي ضرورة التوافق بين الاستماع والقراءة . لذلك نجد أن الكثير من المسابقات الشعرية اليوم تعتمد في مقاييس انتقائها على صوت الشاعر وعلى القصيدة المكتوبة أيضًا. خاصة في زمن تطورت فيه تقانة الاتصال والتواصل.
ــ من خلال إجابتكم شاعرنا عرعار، لو خيروك بين سماع الشعر وقراءته أيهما تفضل؟ ولماذا؟
ــ هما خياران جميلان ولو تحتم الأمر أميل إلى القراءة لأنها أكثر جاذبية وأفضل تأملًا واستغراقًا في الفكر، كما أنها تسمح لنا بالتدقيق والمراجعة والتفاعل الذاتي بعيدًا عن العاطفة التي يفرزها إلقاء الشاعر لقصيدته، فلربما يؤثر فينا بصوته أكثر من كلماته مع الاعتراف له بمستوى الكتابة الراقية وليس الإلقاء إنقاصًا من إبداعه. أنا بصراحة أحب أن أقرأ القصيدة لأنها هي التي تفجر الإحساس بداخلي لا أن يؤثر إلقاء الشاعر لقصيدته في مشاعري.
ــ ماذا أعطتكم الطبيعة إنسانيًا؟ وإلى أي مدى ساهمت في إبداعكم؟
ــ الإنسان مفطور على حب الجمال، أما الشاعر فهو يرسم بالكلمات ذلك الجمال، ولتصير الطبيعة مدرسة لتربية الذوق والحس، وتصير الحياة أجمل إن كنا نواجهها بالعطاء الراقي، ويصير الإبداع أسمى إن كنا أكثر قابلية وانسجاما مع كل القيم الجمالية والفنية التي تمنحها لنا الطبيعة.
ــ كانت لكم تجربة رائدة على صفحات اتحاد الكتاب والمثقفين العرب بدعوة من رئيسه الدكتور محمد حسن كامل، في تدشين "الكتاب الذهبي الأول" في فن الحوار والذي لم يصدر بعد، ويقام الحوار الثاني الذي سيصدر في عدة كتب بعدة لغات، لكنك لم تساهم فيه.. نرجو توضيحًا لموقفكم؟
ــ تجربة ثمينة وضعتُ فيها كل جهودي الفكرية محاولًا الوصول بالطرف الثاني إلى الحوار الحقيقي بعيدًا عن الذات، مع احترام وجهات النظر التي تعبر عن صاحبها، وفعلًا كان حوارًا طويلًا يعبق بجواهر الفكر لأن ضيف الحوار هو حبر اتحاد الكتاب والمثقفين العرب، أقصد شخصكم الكريم أخي الأستاذ السيد إبراهيم أحمد لأنني شخصيًا أعتبرك كنزًا من كنوز المكتبة العربية، حيث تناولنا فيه الكثير من الجوانب السياسية والثقافية والفكرية المرتبطة بالمجتمع العربي في ظل التحولات السياسية الأخيرة. لقد كان حوارًا ثريًا رائعًا باستجابتكم وإجاباتكم الغنية بالفكر والعميقة في طرحها الموضوعي للكثير من القضايا المتعلقة بمستقبل المثقف العربي، مع الشكر الجزيل للدكتور محمد حسن كامل الذي وفر كل الجهود لنجاح التجربة وتلاقح الأفكار بمشاركاته ومداخلاته، ولم يكتف بذلك بل وضع ملخصًا سمعيًا بصريًا لهذا الحوار في (يوتوب) رائع للغاية.
ــ لحظة الكتابة هل تخصص للقارئ مساحة معينة في النص الإبداعي بخطاب معين أم تترك للانطباع أو الرمز المهمة في إيصال الرسالة الإبداعية له؟ كيف؟
ــ الكتابة الإبداعية تختلف من فن إلى آخر، فالشعر من وجهة نظري فن مبني على الانفلات الفلسفي ولعلي أوافق ميول الفكر الأفلاطوني الذي انحاز إلى الفلسفة حين جسد الصراع القائم بين الشعر والفلسفة، لذا فالخطاب هو ذلك السؤال الضمني الخفي الذي يجعل القارئ في بحث مستمر من خلال تفاعله الفكري مع النص الشعري، محاولا الوصول إلى أعلى مراتب الاستقراء الذهني الذي يحقق الشعور بالمتعة أثناء القراءة.
أنا لا أخصص مساحة معينة للقارئ في النص الإبداعي الشعري، بل أترك القارئ يحجز لنفسه مكانا داخل النص الإبداعي، لأن المساحة يكتشفها مع ذلك الطرح الفكري الفلسفي عبر مسامات النص الشعري محاولًا مطابقتها بواقعه وتجارب حياته.
ولعل القصة أو الرواية هما الفضاء الشاسع الذي يجعل القارئ يعيش الأحداث منذ بداية النص الإبداعي، وهنا أجد الكاتب هو المتحكم في إيصال الرسالة الإبداعية لأنه ينقل الأحداث في أسلوب مشوق خلاق للمساحة عند المتلقي للنص الإبداعي. أما عن القارئ في حد ذاته فإن الذائقة تختلف من شخص إلى آخر.
ــ أخي الشاعر ياسين عرعار، ما أسعدُ اللحظات في حياتك؟
ــ أسعد لحظة عشتها يوم 25 مايو 2016م يوم رزقني الله بابنتي (سجى إيمان) فهي أجمل قصيدة في حياتي، بصراحة سرقت مني قلبي وموهبة الإبداع لتتربع على عرش القصيدة بطفولتها الرائعة.
ــ حفظها الله، من المؤكد أنه يوجد في سجل ذكرياتك شاعرنا لحظة حزن عشتها؟ ما هي؟
ــ كانت لحظة محزنة ولا تزال مرارتها تعصر قلبي، يوم فقدت والدتي ذاكرتها، كان ذلك منذ خمس سنوات واكتسبت وثيقة جديدة (مرض الزهايمر)، لأنني كلما نظرت إلى والدتي أحس بالتعب والأسف الشديد لحالتها الصحية، وأسأل الله أن يشفيها، آمين.
ــ وأتمنى معك أن يمن الله عليها بالشفاء. بإيجاز.. ماذا تعني لك الكلمات الآتية: (الأم ــ القصيدة ــ الكتابة ــ آسيا جبار ــ الربيع العربي ــ الوطن العربي ــ الدكتور محمد حسن كامل ــ الشاعر لطفي الياسيني)؟
ــ الأم: مصدر السعادة والحنان، القصيدة: حبيبة أعشقها، الكتابة: إبداع وحرية، آسيا جبار: أديبة كبيرة من عباقرة العصر، الربيع العربي: بحر من الدماء، الوطن العربي: مازال في غربة، الدكتور محمد حسن كامل: كاتب موسوعي ومفكر موهوب، الشاعر لطفي الياسيني: المجاهد البطل وفارس الشعراء.
ــ شاعرنا الكبير كلمتك الأخيرة عقب هذا الحوار؟
ــ جزيل الشكر لك أخي السيد إبراهيم أحمد، لأنك زرت قلبي بصدقك الكبير وخاطبت فكري بأسئلتك الراقية... إنها صفحة جميلة من صفحات عمري أهديها لك ولكل أديب.. خالص تحياتي وتقديري.