ليس جديداً أن يضع الأدباء السلاح جانباً، وتتطور المعركة على أيديهم لمناوشات باللسان والقلم في آنٍ معاً، وهذا الأمر تمتد جذوره إلى الجاهلية، إلا أنه كان أشرس وأعنف، فكان بالسنان لا باللسان، وبالسيف لا بالقلم.. حيث تنافس الشعراء والأمراء والملوك والفرسان، وربما وصل الأمر إلى حرب ضروسٍ اشتعلت جراء قافية، أو بيت من الشعر، أو سباق تافه بين الحصان (داحس) والفرس(الغبراء) فعمرو بن كلثوم حينما غضب على عمرو بن هند لأن أمه أرادت إهانة أم عمرو بن كلثوم حينما طلبت منها أن تناولها طبقاً أو كأساً، فأجابت أم عمرو:(وا ذلّاه..يا لتغلب) وكان الأمر لا يحتمل هذه الضجة الكبيرة، ولكن كما تقول سعاد الصباح في رائعتها "كن صديقي".

"..غير أن العربي لا يرضى بدور غير أدوار البطولة.."

 

فجاءت على لسانه قافية حمراء تقطر دماً:

ألا هبي بصحنك واصبحينا = ولا تبقي خمور الأندرينا

إذا بلغ الفطام لنا صبيٌ = تخر له الجبابر ساجدينا

بأي مشيئة عمرو بن هندٍ = تطيع بنا الوشاة وتزدرينا

وقتل عمرو عمراً..

وفي العصر الأموي أتاح خلفاء بني أمية المجال للشعراء كي يتسابقوا في مديحهم والثناء عليهم وقرع أبوابهم وجيوبهم، ولم يكتفوا بذلك بل عملوا بدهاء على إتاحة المجال للمناظرات الأدبية، والمساجلات والمطارحات الشعرية التي كانت تسمى (النقائض)، ولعل أبرز من استشرفها الشاعران جرير والفرزدق، فتناولا بعضهما بسهام النقد وخناجر التجريح حتى أدميا هما ومن حولهما، ودخل بينهما الأخطل التغلبي، والراعي النميري، الذي كان له حصة الأسد من جرير بقصيدة بائية عصماء مازالت تنضح بالعار والشنار، وكلما أراد أحد أن يهجو الآخر انتقى منها أبشع ما فيها وقذف بها صاحبه.

لاشك أن هذه النقائض كانت تستهوي الخلفاء، لأمر مهم وهو إبعاد الناس عن سدة الحكم، أوالتفكير في السلطة مطلقاً، وهذا ديدن سار على منواله كثير من الملوك والحكام اليوم، بإشغال الناس فيما بينهم، وهو ذكاء بالدرجة الأولى، وأنا مع إشغال الناس على أن توفر لهم لقمة الخبز، لا أن تشغلهم بقتل أنفسهم دون أن تؤمن لهم أدنى مستوى عيش كريم فتكون بذلك الضريبة أكبر من الثمن المقرر لها..

وفي بداية استقلال الدول العربية وصحوتها من الاستعمار، انهمك عدد من مفكريها وكتابها وشعرائها وأدبائها وفلاسفتها بمعارك أدبية طاحنة كالتي دارت بين العقاد والرافعي، وبين العقاد وأحمد شوقي، وبينه وبين محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس حول وحدة القصيدة العضوية، أو كالتي نشبت بينه وبين صديقه عبد الرحمن شكري الذي ساهم مع العقاد والمازني في تأسيس مدرسة الديوان النقدية، كما طالت المعارك الأدبية قامات أدبية سامقة مثل أحمد شوقي، وطه حسين، وزكي مبارك، ومصطفى جواد، وبنت الشاطئ(عائشة عبد الرحمن)، ولم يسلم من العقاد كذلك الشاعر جميل صدقي الزهاوي، حيث تبادلا الاتهامات عبر جريدتي البلاغ والسياسة، في نقد بعضهما بأسلوب حاد، وكان العقاد حاد الأسلوب في نقده، فقد هاجم الرافعي بنقد كتابه(إعجاز القرآن) في مقالة مفصلة، فرد عليه الرافعي في مقالات منشورة بأسلوب أكثر حدة جمعها فيما بعد في كتاب سماه(على السَّفود)، والسفود: حديدة ذات شُعَب تستخدم للشواء. وتناول الرافعي في كتابه(تحت راية القرآن) طه حسين رداً على كتابه (في الشعر الجاهلي) الذي تحول فيما بعد إلى اسم آخر هو (في الأدب الجاهلي) بعد أن اتهم حسين الشعراء الجاهلين بنحل الشعر وسرقته، وهوجم من مشيخة الأزهر وفُصلَ من عمله في الجامعة، ولا ننسى ماجرى بين طه حسين وبين محمود شاكر حيث ألف الأخير كتاب(المتنبي..رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) رداً على طه حسين، وألف شاكر أيضاً كتاب(أباطيل وأسمار) رداً على لويس عوض حينما طالب بالكتابة باللهجة المصرية، كما تناول أحمد أمين الشعراء العرب بتجاهلهم ما يحدث في بلادهم واتكائهم على أوزان لم تكن لدى الجاهليين فانبرى له عبد الوهاب عزام وفند آراءه في كتاب مفصل.

وإياً يكن حجم تلك المعارك أو شدتها أو شراستها إلا أنها نقلت لنا حقبة أدبية رائدة إن في الشعر أو في النثر، فنقائض الفرزدق وجرير أوصلت إلينا شعراً كثيراً، ربما ما كان سيصلنا لولا تلك المشاحنات، والمشادّات ومعارك العقاد والرافعي تمخّضت عن عدد من الكتب الأدبية الرائعة.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية