كتبت سابقاً تحت العنوان نفسه (نصوص ولصوص) ما يشبه التغريدة في فيس بوك لأنني فوجئت بشاعر رديء الذوق، عديم الإحساس قد سرق قصيدة لي وكتبها بطريقة مشوهة، ليس لأنها جميلة، ولكن لأنه لا يحسن كتابة الشعر ويريد أن يكون شاعراً، وقد نالت القصيدة إعجاب عدد كبير من أصدقائه الممسوخي الذوق مثله، وسألته أن يعرضها بشكل جيد على الأقل، أو أن يسرق من الفحول لا من الطبول، وحجتي في ذلك:
(إن سرقت اسرق جمل، وإن عشقت اعشق قمر)، وقلت في تغريدتي السابقة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لقطعت يد كل سارق لنص غيره، وامتنع عمر رضي الله عنه في عام الرمادة عن تطبيق حد السرقة، نظراً للمجاعة التي حلت بالناس، أما اليوم فالطفرة الثقافية كثيرة جداً، فما أحوج هذا ليسرق من هذا؟ انتهى.
وهذه التغريدة أثارت لدي الفضول لأقرأ ما كتب حول نحل الشعر(سرقته) فلعل أول من تطرق لها من المستشرقين مرجليوث فكتب عام1925 مقالة بعنوان(نشأة الشعر الجاهلي) ادعى فيها أن الشعر الجاهلي ليس من صنع الجاهليين إنما هو صنع من جاء بعدهم، والدليل أنه يسير على سوية واحدة، فكيف يتفق الشعراء على تلك السوية، واللغة والتراكيب مع أن أقاليمهم مختلفة، ورد عليه شوقي ضيف آنذاك بأن لغة القرآن العربية الفصحى لغة قريش هي التي كانت سائدة آنذاك فجمعت بينهم، كما ناقش القضية ذاتها طه حسين في كتابه(في الشعر الجاهلي) وتلقي الرد الكافي من تلميذه شوقي ضيف أيضاً، إضافة إلى مشيخة الأزهر، وقد أشرت إلى هذا في مقالة مستقلة، وقد ذكر ابن سلام الجمحي في (طبقات فحول الشعراء) أن الانتحال موجود، وأن خلف الأحمر، وحماد الراوية كانا أشهر من نحلا الشعر وقالا على ألسنة الشعراء الجاهليين ما لم يقولوا، ورد ابن سلام مشكلة الانتحال إلى أن بعض القبائل لم يكن لديها مآثر تفتخر بها، فأخذت من الأشعار ما يناسبها وأضافت عليه شعراً تفخر بنفسها من خلاله، ومن مآخذه على ابن إسحاق في السيرة أنه أورد شعراً موضوعاً لعاد وثمود وهؤلاء قال الله تعالى فيهم(فهل ترى لهم من باقية) الحاقّة/ 8.
وكتب في الشأن ذاته ابن طباطبا العلوي في (عيار الشعر) وابن رشيق القيرواني في (العمدة في محاسن الشعر وآدابه)، وهذا يدل على أن السرقة الشعرية والأدبية معروفة في تاريخ العرب منذ القديم.. فالتاريخ الشفوي للقصيدة لا يحميها بموجب صك الملكية الفكرية آنذاك.. قال بشار بن برد:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته = وفاز بالطيبات الفاتك اللهجُ
وجاء تلميذه سلم الخاسر فقال:
من راقب الناس مات هماً = وفاز باللذة الجسورُ
فأخذ الناس بيت التلميذ ونسوا بيت الأستاذ(بشار) فقال بشار: (ذهب ابن الفاعلة ببيتي) وقيل إنه استدعاه ورماه بأبشع التهم وأقذع العبارات لتجرئه على سرقة المعنى..
وفي العصر الحديث اتهم محمود درويش بسرقة قصائد الشاعر الإسباني(لوركا) ومن ذلك جملة في قصائده(تموت الأشجار وهي واقفة) مع تحوير طفيف، والاتهام ذاته لم يسلم منه نزار قباني في مجموعة (قصائد) عام 1956 ، ومنها قصيدة (مع جريدة) حيث اتهم بسرقتها من قصيدة الشاعر الفرنسي جاك بريفير (فطور الصباح) ويقول شوقي بغدادي الذي كانت تربطه بنزار صداقة قديمة عاتبته على ذلك فأقرّ معترفاً، وقال بلهجته الشامية – نزار-(سامحونا ..مرة في العمر ما راح نعيدها).
والتهمة نفسها استشفها ماهر شرف الدين من رواية (الحي اللاتيني) لسهيل إدريس صاحب وشريك نزار قباني في دار الآداب في بيروت، حيث حصل بينهما خلاف مادي ما دعا الأخير لكتابة رواية، وسرقت فتاة في الرواية قصيدة جاك بريفر (فطور الصباح)، ونسبتها لنفسها، ثم قامت بسرقة مال البطل أيضاً، فقال على لسان البطل على أية حال... إن من يسرق شعر رجل مثل جاك بريفير، لن يتورّع عن سرقة مال رجل مثلك” (خفة يد الغائيين: ماهر شرف الدين ،جريدة الرياض، ع/15326/ يونيو 2010).
وبعد اطلاعي على بعض النصوص المسروقة لا أجد أنها سرقة بالمعنى الحقيقي، وربما أجد لها فتوى أدبية طبعاً تندرج تحت (التناص) وهو ما كان يسمى سابقاً توارد الخواطر، ووقع الحافر على الحافر، مستمداً حكمي هذا من قول الجاحظ:
(المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي والبدوي والقروي والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ..) ما دام أن الشاعر أو الكاتب لم يكتب الكلام بحرفيته، وإنما أخذ الفكرة وألبسها لباساً من عنده، فلربما فاق من تقدمه، فالبارودي يناقض عنترة القائل:
هل غادر الشعراء من متردمِ = أم هل عرفت الدار بعد توهّمِ؟
بينما البارودي يقول:
كم غادر الشعراء من متردمَ = ولربّ تالٍ بذّ شأو مقدَّمِ
إلا أن النسج على هذا المنوال ربما يقتل الإبداع، ولا يشجع على كدّ القريحة، وإعمال الذهن لدى المتأخرين، وفي الحقيقة الفضل لله ثم للمتقدمين، لأننا كشعراء عالة عليهم، فكل شاعر يمتح من معين من سبقوه نتيجة لحفظه، وقراءاته، وقديماً قال الشاعر:
هل ترانا نقول إلا معاراً = أو معاداً من لفظنا مكرورا
وأنا لا أعول على سرقات شعرية كسرقة المتنبي حينما أثبت بعضهم أنه كان يحمل في خرج راحلته ديوان الطائيين(أبي تمام والبحتري) بخط يده، ولا أدري هل كان ينوي سرقتهما عملياً أم أدبياً كما تزعم الرواية.
ولا نزار ولا درويش، لسبب واحد وهو أنهم إن سرقوا فعلاً، فهم أحسنوا توظيف السرقات بشكل جيد، ومن ثم فهم شعراء يستطيعون وضع الكلمات في أماكنها الصحيحة، أما سارق اليوم وللأسف الشديد فهو كالتلميذ البليد الذي يسرق من الكتاب فيضع رقم الصفحة أيضاً للدلالة على سرقته وقلة حيلته، دون أن يدري.. والأدهى أن الجمهور المصفق لهم لم يكلف نفسه عناء البحث عن صاحب الأبيات، مع علمه بقلّة إمكانات الشاعر المدّعي.. فهو مستمر في تعزيزه من دون وعي.
وقد قرأت قصيدة كاملة لنزار قباني نشرها أحد المغفلين على صفحته، والناس من حوله تدندن بالثناء عليه، فكتبت تعليقاً على ما جاء، حفاظاً على حقوق الشاعر الأصلي(نزار) هذه قصيدة كذا لنزار قباني، لماذا أغفلت اسم الشاعر؟ فتجاهلني ولم يرد علي، بينما استمر طابور المادحين دون أن يعير تعليقي أي اهتمام.
وإنه لمن المؤسف حقاً أن تصبح سرقات الفكر والشعر والأدب أشبه بسرقات الكهرباء في سوريا، فأذكر أن فاتورة بيتنا كانت تتجاوز الألفي ليرة وليس عندنا سوى ثلاجة ومروحة سقف وتلفاز عادي، بينما فاتورة جارنا كانت تأتي أقل من مئتي ليرة، ولديه معمل ثلج واحد أيضاً.. أمثال هؤلاء اللصوص وقطّاع الطرق لو استطعت إقامة الحد عليهم لأقمته بلا أدنى تريّث.