حتى لا نصبح عالة على الأدب الشعر علينا أن نحصل على إجازة فيه مثله مثل أي إجازة في دراسة فرع من فروع المعرفة، فنحن نحرص على الحصول على إجازة نعمل بموجبها ونأكل (عيشاً)، ولكننا لا نحرص على حصولنا على الإجازة نفسها عندما نمارس الكتابة نثراً أو شعراً، فيصبح الشعر والأدب عامة لدينا مثل العمل التطوعي بمفهومنا نحن طبعاً، إن فعلته فخير على خير وإن لم تفعله فليس هناك مقابل مادي أصلاً، وما قدمته كثير حتى لو كان قليلاً، وهذا مفهوم خاطئ للعمل التطوعي وممارسة شنيعة بحق الأدب أيضاً، فإما أن تهب له النفيس من الوقت والجهد، وإما أن تنصرف عنه وتتركه لسواك ..فلذلك ترد نماذج كثيرة هي أحوج ما تكون إلى التنقيح والمراجعة والتعديل، وأحوج ما يكون أصحابها إلى الدربة والمراس، وليس ذلك تقليلاً من شأنهم فالناس إما عالم أو متعلم، وأما الصنف الثالث فلا مصلحة لنا بذكره هنا، ومن أراد الاستزادة من ذلك فعليه مراجعة ما نسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه من القول في هذا الباب.
قرأت سير كثير من الشعراء والأدباء والنقاد وقد عملوا في مهن عدة، فرأيت منهم من لمع نجمه وبرق اسمه في سماء الأدب والشعر حتى تخطى حدود بلاده، وذلك لأنه لم يكتف بشهادة نالها في الأدب، ولا محاضرة سمعها في هذا المجال، ولا ديوان شعر قرأه ذات يوم ثم نسيه، بل بقي يتمرّن على الكتابة الشعرية ويقرأ للفحول وينقد ويصحح ويراجع ويدقق ما يكتب ويناقشه ويقيس ما كتبه بالنسبة للآخرين الذين سبقوه في هذا المجال.. ورأيت منهم المقل الذي لا يكتب إلا النزر اليسير ذلك لأنه لم يُعنَ بمنتجه العناية الكاملة، فجاء خديجاً طرياً لا يستطيع مواجهة عوامل الزمن وتغيرات الحياة، فلفظه الشعر خارج منظومته، وبقي مجهولاً لا يُقرأ له، ذلك لأنه لم يعتنِ بمنتجه الأدبي(الشعر)، ولم يعطه من الوقت ما يكفي، ولم يمارسه باستمرار، وقد ينقطع الشاعر لشهور أو سنوات ولا يكتب ولكنه يبقى على صلة بما يكتب كي لا يدخل في عالم النسيان. فقد توقف الجواهري فترة من الزمن عن الكتابة تأثراً برحيل زوجه أم فرات في ريعان شبابها، فلاموه وسألوه عن السبب فانهار سد صمته وانفجر ينبوع الكلام على لسانه بأبيات تنفطر لها القلوب وتذوب لها الأكباد فمما جاء فيها:
برمت بقول اللائمين وقولهم: أأنت إلى تغريدة غيرُ راجعِ
أأنت تركتَ الشعر غير محاولٍ أم الشعر إذ حاولت غير مطاوعِ
وهْل نضَبتْ تلك العواطفُ ثَرَّةً لِطافاً مجاريها ، غِرارَ المنابعِ
أجبْ أيّها القلبُ الذي لستُ ناطقاً إذا لم أُشاورْهُ ، ولستُ بسامعِ
وَحدِّثْ فإنَّ القومَ يَدْرُونَ ظاهراً وتخفى عليهمْ خافياتُ الدوافِعِ
يظُنّونَ أنّ الشِّعْرَ قبسةُ قابسٍ متى ما أرادُوه وسِلعةُ بائعِ
والجواهري وإن صمت فهو على تواصل واطلاع، ولكم رأيته بأم عيني خارجاً من مكتبة الأسد في دمشق وهو ابن ثمانين كأنه طالب مدرسة يحضر دروسه.
ثم إذا كان الجاهلي يغضب للشعر عندما يتجرأ عليه من لا يحسنه، فما بالنا نعطي الشعر أقل القليل من وقتنا ومعرفتنا؟ ونغضب إذا ما انتقدنا ناقد ناصح أمين.
كان زهير بن أبي سلمى ينظم القصيدة في أربعة أشهر ويهذبها في أربعة أُخَر، ويعرضها على الشعراء الفحول أربعة أخر أيضاً، فتلك سنة كاملة، لذا سميت قصائده الحوليّات أي في كل حول وهو العام، ويُروى أن ابنه كعباً أراد أن ينظم الشعر في حداثته فردعه أبوه مخافة أن يتسفّل(أي ينحدر مستواه نحو الأسفل وينحطّ) ويأتي بالضعيف فيشوّه مجد الأسرة، وما زال يهذب لسان ابنه ويجهز شاعريته برواية الجيد من الشعر حتى استقام له الوزن.
قال حماد الرواية:
تحرك كعبٌ وهو يتكلم بالشعر فكان زهير ينهاه مخافة أن يكون لم يستحكم شعره، فيروى له ما لا خير فيه، فكان يَضرِبه في ذلك. فكلما ضربه تزيّد فيه، فطال عليه ذلك فأخذه فحبسه فقال: والذي أحلف به، لا تتكلم ببيت شعرٍ إلا ضربتك ضرباً ينكّلك عن ذلك، فمكث محبوساً عدّة أيام. ثم أخبر أنه يتكلم به. فدعاه فضربه ضرباً شديداً ثم أطلقه وسرّحه في بهمه وهو غُلَيِّم صغير. فانطلق فرعى، ثم راح عشيةً وهو يرتجز:
كأنما أحدو ببهمي عِيرا من القرى موقرة شعيرا
فخرج إليه زهير وهو غضبان. فدعا بناقته فكفلها بكسائه، ثم قعد عليها حتى انتهى إلى ابنه كعب. فأخذ بيده فأردفه خلفه. فقال زهير حين برز إلى الحي:
إني لتعديني على الهمِّ جَسرةٌ تَخُبُّ بوصَّالٍ صرُومٍ وتُعنِقُ
ثم ضرب كعباً وقال له: أجز يا لُكَعُ. فقال كعب:
كبُنيانَةِ القَرئِيِّ موضِعُ رَحلها وآثارُ نِسعيها من الدَفِّ أبلَقُ
فأخذ زهير بيد ابنه كعب ثم قال له: قد أذنت لك في الشعر يا بني.
عندها حصل كعب على الإجازة في قول الشعر بعد أن تمكن من النظم جيداً على يدي والده زهير.
وكعب هو صاحب الاعتذارية الجميلة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(بانت سعاد) التي أنجته من القتل بعد أن هُدر دمه..
ولا عجب في ذلك فكعب شاعر وأخوه بجير شاعر أيضاً وأبوهما زهير شاعر، ، وزوج أم زهير أوس بن حجر شاعر صنّفه ابن سلّام الجمحي في الطبقات من شعراء الطبقة الثانية، فيحق لزهير أن يخاف على مجد تلك الأسرة الشاعرة من شاعر مبتدئ لم يشب عن الطوق بعد مثل كعب.. سؤالي لو كان زهير بيننا اليوم ماذا سيقول عنا نحن الشعراء؟