أرضية المسرح خالية، بلا ستائر تغلقها، مظلمة، إلا من بقعة ضوء دائرية تتوسط المكان، لا توجد موسيقي ولا أي شيء يوحي بأن هناك عرضًا مسرحيًّا يوشك على البدء، الصمت والسكون يسيطران على كامل الأجواء.

يظهر من جانبي المسرح شخصان متقابلان يمشي كل منهما باتجاه الآخر بآلية في طريق مستقيم لبقعة الضوء التي تقع بينهما، يتوقفان عن السير فجأة، وينحنيان، ولكن ليس في مواجهة المشاهدين أمامهما، بل كل واحد منهما في اتجاه الآخر.

القادم من اليمين يرتدي ملابس بيضاء تمامًا حتي قبعته وقفازاته بيضاء اللون، وجهه فقط هو الذي يظهر بالكاد بلونه الطبيعي وملامحه العادية، أما الآخر القادم من اليسار فمثله تمامًا، مع اختلاف أنه يرتدي السواد.

يكملان السير ويقفان مباشرة عند حدود بقعة الضوء الدائرية، كل منهما في مواجهة الآخر، تحجب قبعتاهما سقوط الضوء المباشر علي وجهيهما، فلا يلاحظ من ملامحهما إلا بقع ضوء غير مباشرة وظلال معتمة، ليزداد موقفهما غموضًا!

الأبيض: أهلا بك .

الأسود: (محتجًّا) لماذا بدأت أنت الحديث أولا؟!

 

الأبيض: (ببرود)، لأني سبـقـتـك.

الأسود: كان من الممكن أن أسبقك وألـقي بالتحية أو السلام فور ظهوري على هذا السطح.

الأبيض: لا تحية ولا سلاما إلا في النور.

الأسود: إنك تميل إلى لونك، فلماذا لا أتحيّـز أنا وأقول "لا تحية ولا سلاما إلا في الظلام"؟!

الأبيض: قل ما يحلو لك، والصحيح هو الذي يستمر.

الأسود: يبدو أن الحياد ليس من طبعك، إننا سنختلف قبل أن نبدأ!

الأبيض: الحياد له أصوله، أما من حيث البداية، فلـقد بدأنا فعلا.

الأسود: بدأنا واختلفنا.

الأبيض: كلا، لم نختلف، كل واحد منا يقول ما في داخله، حتى يعرفه الآخر.

الأسود: لماذا يعرف كل منا ما بداخل الآخر؟! ما غرضك؟!

الأبيض: الاتفاق شيء جميل، تماما مثلما اتفقنا علي الوقوف بين النور والظلام.

الأسود: لقد وقفنا هنا حتى لا نختلف.

الأبيض: (غاضبًا) من فضلك، هل لك في استخدام كلمة غير (الاختلاف)؟ لقد مللتها.

الأسود: حسنًا، لنتفق على كلمة (لا اتفاق).

الأبيض: اتفقنا.

(تسقط بيضة نيئة من أعلى لتتهشم في وسط بقعة الضوء، فينظر الاثنان لها ببرود)

الأسود: (متعجًبًا) إنها بيضة!

الأبيض: أعلم أنها بيضة، المهم، من قذف بها؟

الأسود: أعتقد أنه أحد أنصارك، فهي بيضاء اللون.

الأبيض: ولماذا لا تقول إنه أحد أنصارك؟ ليلطخ بقعة الضوء البيضاء!

الأسود: ربما أراد قاذفها الإساءة لنا معًا.

الأبيض: ربما.

الأسود: أرى أننا اتفقنا في نقطة.

الأبيض: اتفقنا فقط في الكلمة، كلمة (ربما) وهذه الكلمة لا تؤكد الاتفاق ذاته!

الأسود: أرى أنك تدقق في الألفاظ دون مبرر، وهذا يؤدي الي عدم اتفاقنا.

الأبيض: وأنت أيضا تدقق، بدليل أنك لم تذكر كلمة (اختلاف) كما اتفقنا!

الأسود: لقد وعدتك.

الأبيض: هل دائما تعطي وعدك لمن لا تعرفه؟

الأسود: ولكني أعرفك إذا كنت تقصد هذا!

الأبيض: (متعجبًا) تعرفني! حسنًا، قل لي من أنا؟

الأسود: أنت الأبيض.

الأبيض: هذا لوني، وليست كينونتي.

الأسود: لونك يدل علي كينونتك، وليس اسمك إذا كنت تقصد هذا.

الأبيض: قل لي هل إذا اختفت بقعة الضوء هذه، وأظلم المكان، فهل أنا أسود مثلك؟

الأسود: (يصمت للحظات) لا أعتقد.

الأبيض: لا تعتقد! (ضاحكًا) هه... حسناً.

(يخرج الأبيض من جيبه مسدسًا ويصوبه نحو مصدر بقعة الضوء، ويطلق النار، فيسود الظلام، ثم نسمع صوتًا غريبًا يصيح: "ضعوا مصباحًا آخر" وبعد قليل تعود بقعة الضوء كما كانت، ولكن نلحظ أن الشخص الأبيض أصبح على يسارنا، والأسود علي يميننا)

الأبيض: (رافعًا يديه مستعرضًا) والآن، أريد معرفة شيء مهم، هل بدّلنا أماكننا أو ملابسنا؟!

الأسود: (بآلية) بدّلنا أماكننا، فأرضية هذا المسرح دوّارة.

الأبيض: هل أنت متأكد؟

الأسود: نعم، فأنا أسود، وسأظل أسودًا للأبد.

الأبيض: ربما كنت أبيضًا واتسخت ملابسك!

الأسود: لا.

الأبيض: ربما كنت أبيضا ولكن اختصك الظلام بسواده!

الأسود: (بعناد) لا.

الأبيض: ما الفارق بيني وبينك؟

الأسود: أنت أبيض، وأنا أسود.

الأبيض: من الخارج أم من الداخل؟

الأسود: من الخارج، هذا ما نعرفه الآن، أو ما نريد معرفته الآن.

الأبيض: اتركني أنا، أنت؟ ألا تعرف ما لونك من الداخل؟

الأسود: (محتدًّا) لا شأن لك بداخلي، واهتم بما تراه بعينك.

الأبيض: ولكن رؤيا القلب أقوى وأصدق.

الأسود: ما أسهل خداع القلب في زماننا هذا.

الأبيض: أتعتقد هذا؟

الأسود: أرى أنك في موقف المهاجم الآن بعد أن كنت مدافعًا.

الأبيض : (متهكًمًا) أدركت هذا متأخرًا.

الأسود: لا يهم، كل ما يهمني الآن هو أن أنشد النهاية.

الأبيض: أية نهاية؟!

الأسود: نهاية نقاشنا، حيث أرى في الأفق أننا لن نلتقي، كل واحد منا متمسك باتجاهه.

الأبيض: تقصد متمسكا بلونه.

الأسود: لونه يدل علي اتجاهه.

الأبيض: هل تعلم أن لونك الأسود لا يدل على شيء جيد؟

الأسود: لكل لون إيحاءاته الإيجابية والسلبية.

الأبيض: الأسود لا يدل إلا على الحقد والشر والظلام والمجهول.

الأسود: ولماذا لا ترى به القوة والسيطرة والعمق والتحدي.

الأبيض: لونك يخيف الناس ويقبض قلوبهم.

الأسود: الضعاف منهم فقط، أو من لا يفهمون، كالأطفال مثلا.

الأبيض: الأبيض رمز الخير، والأسود رمز الشر.

الأسود: الخير والشر أفعال لا رموزا وألوانا.

الأبيض: ولكنك منذ قليل قلت إن اللون يدل علي الاتجاه!

الأسود: الاتجاه يمكن أن يتغير، ولكن الخير والشر من الثوابت.

الأبيض: من كلامك أفهم انه إذا تغير الاتجاه تغير اللون، أهذا ممكن؟!

الأسود: ممكن.

الأبيض: إذن يمكنك أن تتحول أنت إلى الأبيض.

الأسود: (بغضب) لا، فالأسود والأبيض الحقيقيان من الثوابت، أما باقي الألوان فممكن.

الأبيض: أرى أننا لن نتفق أبدا.

الأسود: هذا ما شعرت به منذ البداية، وقلته لك.

(تسقط من أعلى - كما سقطت البيضة قبل ذلك- وسادة وثيرة، رمادية اللون، وذلك أمام أعينهما وسط البقعة المضيئة، لم تكن نظراتهما باردة كما نظرا للبيضة، بل كانت نظرات اهـتمام)

الأبيض: إنها وسادة.

الأسود: هذا لا يحتاج إلى ذكاء، ولكن، من الذي قذفها؟

الأبيض: لن نعرف من قذفها، فنحن لا نرى الآن إلا أنفسنا، المهم ما غرضه؟

الأسود: مهلا، بالإضافة إلى عدم معرفتنا بالشخص الذي قذفها، فلن نعرف غرضه أيضًا!

الأبيض: لماذا؟!

الأسود: لأن تفسير كل واحد منا يشير إلى الآخر بالاتهام، وهذه كلها افتراضات!

الأبيض: ولكن ألا ترى أن معضلة هذه الوسادة أكبر من معضلة البيضة؟

الأسود: لماذا؟!

الأبيض: (مشيرًا للوسادة) ألا ترى لونها؟! إنه رمادي، فمن المقصود؟! أنا أم أنت؟!

الأسود: ربما لنا نحن الاثنين.

الأبيض: لا أفهمك.

الأسود: أعتقد أن قاذفها يريد الصلح فيما بيننا.

الأبيض: أنت تعقد الأمر كثيرًا، فمن أدراك بأن قاذفها ليس إلا طفلاً لا يقصد غير المزاح؟

الأسود: إن لونها خليط بين الأسود والأبيض.

الأبيض: أنا أراه أبيضا غير نظيف.

الأسود: ولن أخفي عليك أنني أراه أسودًا باهتًا ضعيف الشخصية.

الأبيض: (منبهًا) هل رأيت؟ لقد أدى هذا اللون الي عدم اتفاقنا أكثر!

الأسود: أنت الذي انعطفت بالحوار الي نتيجته تلك.

الأبيض: عندي رأي سيريحنا.

الأسود: ما هو؟

الأبيض: (يلتفت بسرعة للجمهور) نستطلع رأي هؤلاء الناس الذين يروننا الآن.

الأسود: ومن قال لك بأنهم سيريحوننا؟ إنهم يتلذذون بمشاهدة خلافاتنا.

الأبيض: (غاضبًا) أنت لا تثق بأي أحد.

الأسود: (ببرود) وأنت تثق بالناس ثقة عمياء.

الأبيض: (يرفع كفه بالاكتفاء في وجه الأسود) مهلًا، لنتوقف بخلافاتنا غير المعقولة حتى هذا الحد.

الأسود: أتريد أن تذهب؟

الأبيض: نعم، ولكني متعب الآن جدًّا، وأريد الاسترخاء قليلا علي هذه الوسادة.

الأسود: (معترضًا) ومن قال لك أني غـير مجهـد؟ أنا أريد أيضا أن أستلقي عليها قليلا.

الأبيض: أنا من قال أولًا، ثم أنسيت أن لونها في رأيك أسود باهـت منعـدم الشخصية؟!

الأسود: وهل نسيت أنت أيضًا أن لونها في نظرك أبيض قذر؟!

الأبيض: (محتدًّا) أنا لم أقل إنه لون منعـدم الشخصية.

الأسود: (صارخًا) وأنا لم أقل أنه لون قـذر.

الأبيض: (مهدئًا) حسنًا لنتفـق، إنها وسادة كبيرة، لنستخدمها نحن الاثنين معًا.

الأسود: اتفقنا.

(يسقط الاثنان معًا بركبتيهما على الوسادة، لينفك رباط جزء من جانبها، فيتطاير بعض الريش الذي كان بداخلها، ويستلقيان بجانب بعضهما، ويغطّان في نوم عميق، وتبدأ أرضية المسرح في الدوران الواضح حتى تصل لسرعة كبيرة لا ندرك بعدها الأبيض من الأسود بعد أن ساد اللون الرمادي)

( لا ستار لعدم وجوده أصلًا! )

التدقيق اللغوي: سماح الوهيبي.

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية