مع تقدم العلوم الطبية في جميع مجالاتها، تزداد بوضوح أكثر المعركة الشرسة التي يخوضها جيش العلماء والباحثون في هذا المجال ضد الأمراض، حيث يحاولون في كل عام إحراز بعض التقدم في سبيل الوقاية ومنع انتشار وتفاقم الأمراض. وعلى الرغم من ذلك فما زالت الإنجازات البشرية بعيدة جدا عن تحقيق الانتصار في أي من الأمراض. صحيح أن هناك العديد من الأدوية والعلاجات التي نجحت في إنقاذ البشرية من الموت نتيجة أمراض خطيرة كبعض الأمراض الوبائية كالجدري والسل وشلل الأطفال والتيفوئيد، والأمراض الجسدية كالسكري وارتفاع ضغط الدم ، والأمراض النفسية كالفصام والاكتئاب.

إلا انه مع ظهور عوامل أخرى كالتلوث البيئي والإشعاعي، وانتشار أنواع وأجيال جديدة من الكائنات الدقيقة كالفيروسات، ومقاومة الجراثيم للمضادات الحيوية، والجهل الصحي، وانتشار الفقر، يواجه مصاعب أكثر في إيجاد الحلول لتلك المشاكل المتمثلة في انتشار المزيد من الأمراض وظهور أنواع جديدة، لم يكونوا يعلمون عنها شيء في السابق وليس لديهم معرفة في كيفية التعامل معها. إلا أنهم مع ذلك يحاولون إيقاد شمعة لتضيء بقعة في وسط هائج من الأمراض والعلل.

في كل عام يتمكن العلماء من اكتشاف عدد كبير من المواد الفعالة، إلا أن الحاجة لسنوات طويلة من البحث والدراسة يكون عائقا أمام ظهور مثل هذه الأدوية، إلا أن المستقبل يبشر بالموافقة على عدد كبير من هذه الأدوية، والتي يأمل أن يكون لها دور فعال في علاج العديد من الأمراض، وتؤكد إحدى الدراسات أن هناك أكثر من 2000 دواء حاليًا، لعلاج مايقارب 800 مرض، في المرحلة الثالثة من التجارب السريرية، وهي مرحلة متقدمة في عملية إنتاج الدواء.

وان هناك عدد كبير جدا من المواد الأخرى ما زالت في المراحل الأخرى للتجارب. علما انه في العام 2004 تم الموافقة على 38 دواء جديد لعلاج أنواع متعددة من الأمراض، كالسكري وأنواع من مرض السرطان والفشل الكلوي والأرق والشلل الرعاش (باركنسون) والاكتئاب ، بالإضافة إلى التطوير الحاصل على الأشكال الموجودة أصلا.

وما زال الطريق مفتوحًا، ومازالت المؤسسات العلمية وشركات الدواء تتسابق في إنتاج مثل هذه العقاقير في محاولة للتغلب على الأمراض ومساعدة البشرية. وهناك الكثير من التجارب التي تجري حاليا لإنتاج الأدوية، حيث يجرب حاليا أكثر من 158 دواء جديد للأطفال، تتعلق بأمراض مختلفة منها السرطان والربو والصرع والسكري والإيدز والأورام الجينية. كما أن هناك ما يقارب 400 دواء جديد قيد التطوير لعلاج الأمراض السرطانية المختلفة، وعدد مقارب لعلاج الأمراض الجرثومية، وخصوصا الأمراض التي تسببها الفيروسات.

ربما يأخذ البعض سبب تأخر ظهور مثل هذه الأدوية، على الرغم من هذا التطور الكبير في الدول المتقدمة، إلا أن هذا التأخر له سببه في كثير من الأحيان، فاكتشاف أي مادة جديدة أو عقار جديد لابد أن يمر بمراحل عديدة قد تستغرق خمسة عشر عامًا، في سبيل التأكد من فعالية وسلامة وحدود عمل الدواء والأمراض التي يشملها. فمثل هذه المواد قد تبقى م ايزيد عن عشر سنوات بين جدران المختبرات والمراكز البحثية والمستشفيات للبحث عن المادة الفعالة، وإجراء الآلاف التجارب المخبرية على الحيوانات والخلايا المعزولة، وعدد كبير آخر من التجارب على عدد قليل من المرضى، ثم تكبير عينة العدد، الأمر الذي يستغرق عشرات السنين حتى يتم التأكد من الدواء ويعترف به . مع متابعة مستمرة للدواء في السوق ، وقد يتم منع بيعه بعد اعوام بسبب اكتشاف اثر جانبي أو عكسي لم يسجل، كما حصل مع الكثير من الأدوية، وآخرها العلاج المعروف باسم سيليبركس.

سنحاول هنا النظر من منظار متفائل من خلال رؤية بعض الإنجازات الصيدلانية التي بدأ تسويقها أو سترى النور خلال الأشهر القادمة .


الصيدلة الجينية و الدواء الشخصي
تقنية جديدة ستدخل إلى عالم الصيدلة متمثلة بما يسمى بالنوكليوتيد المفرد متعدد الأشكال (“SNP” Single Nucleotide Polymorphisms)، التي تقوم على تميز الفروقات الجينية التي تميز الأفراد في استجابتهم للأدوية، والذي هو عبارة عن الاختلافات في سلسلة الحامض النووي (DNA)، التي تظهر نتيجة فقدان أو تغير موقع احد النيوكليوتيدات (آدنين A، أو سايتوسين C ، كوانين G ، تيراسين T) في السلسلة الجينية وبالتالي تكوين سلاسل مختلفة تؤدي إلى تغير في نوع البروتينات المصنعة داخل الخلايا، أو تؤدي إلى عدم إنتاج هذه البروتينات، التي تؤثر في الوظائف الحيوية للخلايا والمواد المنتجة كالإنزيمات.

سيكون لهذه التقنية الكثير من التطبيقات، منها المساعدة في الاختبارات الدوائية التي تجري لإثبات درجة فعالية وأمان الدواء، من خلال التعرف على الأشخاص الذين لديهم اختلاف جيني معين يؤدي إلى عدم استقلاب الدواء، مما يؤدي الى حدوث حالة من فرط الجرعة (Overdose)، أو استقلاب سريع يؤدي إلى نقص في فعالية الدواء.

إلا أن أهم هذه التطبيقات سيكون في تصميم الدواء الشخصي، من خلال تقنية النوكليوتيد المفرد متعدد الأشكال، حيث سيتم تحديد الأشكال الجينية المختلفة للأفراد من خلال تحليل جيناتهم، وبالتالي تصميم دواء يكون مناسبا لمثل هؤلاء المرضى.

يضاف إلى ذلك استخدام هذه التقنية في تحليل الإنزيمات المسؤولة عن استقلاب الكثير من الأدوية جينيًا، بحيث يتم التعرف على المرضى الذين ستحدث لديهم الآثار الجانبية أو العكسية نتيجة أخذهم للدواء، ومحاولة التقليل من الجرعة في حالة عدم وجود علاج آخر ، أو تغيير العلاج إذا كان ذلك متوفرا.


أدوية عنصرية
بدأت الآن مرحلة جديدة في عملية إنتاج الدواء، حيث رخصت إدارة التغذية والأدوية الأمريكية دواء جديدا لمعالجة أمراض القلب أثار جدلا لأنه مرخص بشكل رئيسي للمرضى السود. ويمثل هذا الدواء ظاهرة جديدة في عالم إنتاج الدواء لما يحمله من تقدم كبير في إنتاج الدواء المتخصص. حيث أثبتت الدراسات والأبحاث أن سبب زيادة إصابة السود بارتفاع ضغط الدم راجع بشكل كبير إلى الطبيعة أجسامهم والاختلاف البسيط في بعض العمليات الحيوية التي تجري فيها، على الرغم من تأكيد البعض أن لا وجود لمثل هذه الفوارق.
ويعالج الدواء الضعف في القلب الذي يؤثر على قدرته على ضخ ما يكفي من الدماء إلى أنحاء الجسد. ويعتبر دواء "بيديل" الأول، والذي تم ترخصيه مؤخرا و يحصر استعماله في مجموعة عرقية معينة، اتجاها جديدا لأدوية معدة للحاجات الخاصة حيث يساعد الدواء بعض المرضى وليس جميعهم . يذكر أن بيديل يجمع دوائين آخرين مستخدمين لمعالجة أمراض القلب وارتفاع ضغط الدم هما ايزو سوربيد داي نايتريت (isosorbide dinitrate) والهيدرالازين (hydralazine)، ولا يعرف الأطباء تماما كيف يعملان مجتمعين. ومع أن الترخيص أتى للسود فقط، فأن للطبيب الحق في وصف الدواء لأي مريض يعتقد أنه قد يستفيد منه.

بالإضافة إلى عدة أدوية تتم عليها التجارب حاليا ، منها دواء لعلاج مرض الإيدز، أثبتت الأبحاث والتجارب الجارية عليه انه أكثر فعالية في معالجة أصحاب البشرة السمراء والآسيويين. حيث وصل نسبة نجاحه لدى السود إلى 78 %، بينما لدى المرضى من العرق الآسيوي إلى 67 % . وبمعدلات اقل بكثير لدى الأعراق الأخرى.


الأنسولين عن طريق الشم
مثل التخلي عن الحقن، والاتجاه إلى طريق غير مؤلم في إعطاء الأنسولين حلم راود العديد من العلماء والأطباء، وأمل انتظره المصابين بمرض السكري، والذين يعتمدون على الأنسولين في حياتهم، والذي يعتبر الأكثر فعالية في علاج السكري. وقد قارب هذا الأمل على التحقق، فلن يطول الزمن حتى يتم إنتاج وتسويق الأنسولين عن طريق بخاخ (Inhaler) ، لشم الأنسولين بدل من حقنه.

كانت المشكلة الرئيسية التي تواجه إعطاء الأنسولين عن غير طريق الحقن، هو تحطمه في الجهاز الهضمي نتيجة الحامض المعدة والإنزيمات الهاضمة لو اخذ عن طريق الفم، أو مشاكل تتعلق بقلة امتصاصه أو تحطمه لو اخذ عن طريق الشم، او بشكل لصقات على الجلد، إلا ان مشكلة إنتاجه بشكل قابل للشم كان أقل هذه الطرق صعوبة، وكانت تمثل نقلة نوعية في طريقة تناوله.

وبدأ فعلا العمل على مثل هذا المشروع وهو في مراحله الأخيره، وسيسهل نجاح الأنسولين عن طريق الشم على ملايين المصابين بمرض السكري، تناول هذا الدواء الحيوي بالنسبة لهم. إلا انه مع ذلك فستستمر المحاولات لإيجاد طرق أخرى، علمًا أن من المشاكل المطروحه والتي ستستمر الشركة المنتجة في دراساتها حتى بعد انتاج هذا الدواء، هي تأثيرات الأنسولين على الرئتين، والمشاكل التي يمكن ان تحصل نتيجة ذلك، وتأثيراته على الأطفال والمدخنين. كما تواجه مشكلة تناوله من قبل مرضى الجهاز التنفسي كالمصابين بمرض الربو، والالتهاب الرئوي المزمن.


القرص المعجزة
حلم يأمل العديد من الأطباء والعلماء الوصول إليه، فتتم حاليا الدراسات النهائية على العديد من التجارب التي تتضمن إنتاج قرص دوائي لعلاج عدة أمراض، بحيث يمكن للمريض استعمال قرص واحد لعلاج عدة امراض بدلا من استعمال قرص او اكثر لكل مرض.

وأول خطوات هذا المشروع جاءت من تطوير قرص يأمل العلماء في استخدامه للوقاية من العديد من الأمراض وعلى رأسها الأزمات القلبية والسكتات الدماغية وضغط الدم. وهذه الأمراض عادة تصيب وبشكل مجتمع الكثير ممن هم في العقد الخامس من العمر. سيقلل مثل هذا العلاج من التكاليف والآثار الجانبية للأدوية، كما سيسهل على المريض تناول الدواء. ويمكن أن يخفض مثل هذا القرص من الإصابة بالكثير من الأمراض السابقة بنسبة تزيد عن 80%. ومكونات القرص هي الأسبرين الذي يخفض من لزوجة الدم، ومخفض للكولسترول، وثلاثة أنواع أخرى من العقاقير المخفضة للضغط بالإضافة إلى حمض الفوليك، وحامض ب 12. وتقول التقديرات إن واحدا من بين ثلاثة أشخاص قد يعيشون لمدة تزيد على 20 عاما دون الإصابة بأزمة قلبية أو سكتة دماغية خلال فترة تعاطيهم للقرص . ويقول الباحثون إنه بإمكان مرضى ضغط الدم العالي والقلب والسكري أن يتعاطوا هذا القرص لتفادي تفاقم حالاتهم. ويمكن لهذا القرص أن يساعد في تقليل ضغط الدم ومستوى الكوليسترول. كما يمكنه أيضا أن يقلل من مستويات مادة كيماوية في الدم تعرف باسم (هوموسيستين) يمكن أن تنشأ في مجرى الدم ، وتلعب دورا في حدوث مشاكل تتعلق بأمراض القلب .



أدوية جديدة توجه صفعة للإدمان
من المرجح أن يكون سلاح المستقبل في مجال الحرب على المخدرات هو المخدرات نفسها ، فالباحثون متفائلون بشأن مجموعة من الأدوية الجديدة التي تستهدف الدورة الكيماوية للإدمان. وبعضها تمنع اللذة والبهجة المكثفة التي تجعل مخدرات مثل الهيروين مغرية بينما يهدأ البعض الآخر من التأثيرات التي تحصل في الدماغ خلال انسحاب المخدر واستعادة التوازن. وستكافح هذه الأدوية واحدة من اكبر المشاكل في العلاج، وهي أن المدمنين للمخدرات غالبا ما يرفضون تعاطي أو تناول أي شيء يمنع عنهم الشعور بالمعنويات العالية والبهجة. بالإضافة إلى أفكار أخرى يعمل عليها مجموعة من الباحثون باختبار أمصال تعلم الجسد ان يتعامل مع المخدرات المحظورة كميكروبات غازية .

ويقول خبراء علاج الإدمان أن التقدم في علوم الدماغ ـ وخصوصا تصوير الدماغ ـ قد أدى إلى اختبار أدوية واعدة أكثر من ذي قبل. وعلاوة على ذلك، فان هذه المعرفة العلمية البازغة تكشف عن مزيد من الأهداف لأدوية المستقبل. تعمل هذه العقاقير بشكل مباشر على تقليل الآثار الحاصلة نتيجة الامتناع عن المخدرات او الكحول، والحاصلة نتيجة خلل في النواقل الكيميائية والمستقبلات في الدماغ، والتي لها علاقة مباشرة بالإدمان.

وكل هذه الجوانب والنواحي للإدمان تشير او تنبئ عن أهداف ممكنة للعقاقير المضادة للإدمان. ويولي الباحثون أيضًا مزيدا من الاهتمام بالموروثات (الجينات) فليس كل من يجرب عقارا لعلاج الإدمان يصبح معتمدا عليه، وهذا يرجع جزئيا إلى العامل الوراثي. وحتى المدمنين يمكن أن يكونوا مختلفين تمامًا. وسيمكن هذا الأطباء في المستقبل من معرفة العلاج المطلوب بناءا على معطيات المريض.


حرب في مواجهة السرطان
يسعى العلماء لاستعمال وسائل جديدة لمحاربة مرض السرطان، وبدؤوا باعتبار هذا المرض هو العدو الأكبر للبشرية، فأخذوا باستخدام أسماء المعدات العسكرية لمحاربة مثل هذا المرض، فمن الرصاص السحرية، والقنابل الذكية.

من آخر النجاحات التي تمكن العلماء من الوصول إليها، هي تطوير كبسولات صغيرة خاصة توضع داخلها المادة الفعالة لقتل الخلايا السرطانية، وتتكون من جسيمات ذهبية دقيقة مرتبطة بأجسام مضادة خاصة بالورم السرطاني، وتتم عملية تفجير الكبسولات لدى تجمعها بشكل كافي عند خلايا الورم السرطاني، عن طريق توجيه نبضات من شعاع الليزر يولد حرارة كافية لإذابة الذهب، مسببا تدميرا للخلايا السرطانية من دون إلحاق أذى بالأنسجة والخلايا السليمة، مما يقلل من الأخطار والآثار الجانبية لمثل هذه الأدوية.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية