وأما العنوان فهو مثل أطلقته ابنة الزباء ملكة الجزيرة وقنسرين لما وقعت في أيدي قصير وعمرو وكان لها خاتم فيه سم فمصته مفضلة أن تقتل نفسها قبل أن يقتلها عمرو. هكذا يخبرنا صاحب فرائد الأدب في الأمثال والأقوال السائرة عند العرب.
وأما عمرو الذي نعنيه هنا في هذا المقال فهو القضاء أو القدر ويكون المثل بعد التحوير بيدي لا بيدك أيها القضاء ، وهكذا ينجلي المعنى ويتضح المقصد أي ظاهرة انتحار بعض أدبائنا وهي ظاهرة تستحق الإلتفات إليها والكتابة عنها لأن الأديب أو المفكر هو صوت الأمة ولسانها وضميرها وعقلها وذهابه خسارة تصيب الأدب والفكر.
كان ميشال فوكو معنيا بالوضعيات الصعبة كالجنون وقد استمعنا إليه في حديث خاص مسجل عبر الفيديو وهو من أرشيف المركز الثقافي جورج بومبيدو في باريس يركز على هذه الوضعيات الصعبة لفهم العقل الإنساني وآلية تصرفه في خضم الحياة الإجتماعية والسياسية المعقدة. وكان أستاذنا الكبير الدكتور عبد الرحمن بدوي الذي رحل عن دنيانا منذ عهد قريب معنيا بهذه المآزق والوضعيات الحرجة فكتب " شخصيات قلقة" و" من تاريخ الإلحاد في الإسلام" إسهاما منه في كشف وتجلية المواقف الصعبة والحرجة بل والشاذة في تاريخ الفكر إنصافا للحق وأمانة في ذمة التاريخ.
أما ظاهرة الإنتحار عند أدباء الغرب فهي ظاهرة مألوفة يعرفها قارئ العربية جيدا وليس في حاجة إلى أن أذكره بانتحار كوستلر ، وهمنغواي، ويسنين و مايا كوفسكي، وكاواباتا، وفرجينيا وولف ، وجاك لندن وغيرهم، إنما تجدر الإشارة إلى انتحار الأدباء اليابانيين ذي الطقوس المعروفة بـ"الهاراكيري" ولقد نقل التلفزيون الياباني في السبعينات على المباشر انتحار الأديب مشيما بأن غرس السيف في صدره بينما تولى شخص أخر قطع رأسه والعجيب أن ذلك كان على المباشر وقد كتب عن هذا الحدث في إحدى مقالاته الأستاذ أحمد بهاء الدين الذي تصادفت زيارته إلى اليابان مع حدث الإنتحار هذا.
وللإنتحار أسبابه والسبل المؤدية إليه ، فقد يكون الداء وأوجاعه واستحالة البرء منه ذريعة للعبور إلى ضفة العدم، ولكن الشائع في الإنتحار عند الأدباء هو رفض المجتمع وقيمه واستحالة التكيف مع نواميسه فيلغي الأديب ذاته ويشطب نفسه من قائمة الأحياء بعد أن يدب اليأس إلى قلبه ويسكن في سراديب روحه وتلافيف مخه ، وعند بعض الأدباء والمفكرين حالة خاصة تصل بهم إلى الإعتقاد بعبثية الوجود الإنساني وبعماء الكون وانتفاء القصدية في الطبيعة والبشر وهذا يستلزم الوحدة والكآبة وتخلخل التوازن الذهني والنفسي يعجل بصاحبه إلى قعر الهاوية.
على أن الفشل والخيبة وعدم إدراك النجاح المتوخى والشهرة الكاسحة بعد عمل أو عملين أدبيين أو فنيين يصيب صاحبه باليأس وينتهي به إلى الموت الإرادي وهذا ماحدث بالتحديد للأديب الألماني هينرش فون كلا يست الذي عاش في زمن غوته ففشل مسرحيته " الإبريق المكسور" عجل به إلى الموت الإرادي .
وكان المعري كعادته في طرق المسكوت عنه والإفصاح عن المكبوت قد تناول ظاهرة الإنتحار في لزومياته ورأى بأنها حيلة الأنا في إنقاذ نفسها من تصاريف الحياة لولا الخوف من المجهول وهو خوف لا شعوري ، يقول المعري:
لولم تكن طرق هذا الموت موحشة مخشية لاعتراها الناس أفواجا
وكل من ألــقت الدنيا علــــــيه أذى يؤمها تاركا لــلعيــش أمــواجا
كأس المنية أولى بي وأروح لــــي من أن أعالج إثــراء وإحواجــا
وأغرب حادثة انتحار في أدبنا الحديث مارواه الأديب الأستاذ إداورد الخراط عن الشاعر الشاب المصري منير رمزي وهو من جيل الأستاذ الخراط وكان حينها أي في الأربعينيات طالبا جامعيا، رهيف الحس، رحب الخيال ، سيال القلم ، آنس من نفسه القدرة على كتابة الشعر فاستجاب لمواهبه فنظم الشعر ولا شك أنه كان شعرا رومانسيا ، يصف خفقات القلوب ولواعج الهوى وألم السهاد والبعاد، وكان ذلك عهد صعود "أبولو" وشعراء الرومنطيقية الكبار رامي وناجي وصالح جودت وأبي شادي وغيرهم وكان منهم منير رمزي الذي أحب فتاة جامعية ونظم فيها الشعر ولما كان حييا خجولا لم يجد القدرة على الحديث معها حتى شجعه الأصدقاء ولعل الأستاذ الخراط واحد منهم فلما لم تأبه الفتاة لكلامه ولا وضعت لحبه اعتبارا ولا لشعره قيمة قضى على نفسه ومات في ميعة الصبا.
أما الشاعر أنور عاصي وأحسب أن مجلة الفيصل السعودية وفي عدد من أعدادها الصادرة في الثمانينات تناولت قصة حياته وتفاصيل موته منتحرا.
وكان أنور عاصي كئيب النفس يحمل في وجدانه معاناة الوجود واليأس من الحياة وتباريحها، ولربما لم يحقق أنور عاصي ما طمح إليه من شهرة كاسحة ودوي يخترق الآذان، خاصة والإنسان في حياته الأولى وفي صدر شبابه يتعشق الشهرة تعشق الفراش للنور ويسعى لشيوع الذكر سعيا غير كليل ، فلربما كان ذلك سببا لاختيار الشاعر الموت مختنقا ، فقد اكترى غرفة في أحد الفنادق وفي ليلة الرحيل تناول مخدرا أو منوما بعد أن فتح أنبوب الغاز يتسرب بهدوء وهكذا مات هذا الشاعر الشاب مختنقا بالغاز.
ويقص علينا الأستاذ صالح جودت في كتابه الصادر عن دار المعارف في سلسلة " إقرأ" وأذكر أن عنوان الكتيب هو " بلابل من الشرق" والأستاذ صالح جودت شاعر معروف كان من جماعة "أبولو" وكان صديقا لناجي وعلي محمود طه أقول يقص علينا قصة الشاعر صالح الشرنوبي(1924/1951)
وكان شاعرا نزح من قرية من قرى مصر إلى القاهرة ، وعرف هذا الشاعر بليونته وتسامحه حتى أنه كان يتأبط ذراع راهب من رهبان الكنيسة وهما يمشيان سويا في شوارع القاهرة وهو القائل :
غدا يا خيالي تنتهي ضحكاتنا وآمالنا تــفنى وتــفنى المـشاعــر
وتسلمنا أيدي الحياة إلى البلى ويحكم فينا الموت والموت قادر
وقد كان شاعرا يائسا من الحياة ، يحمل هم الوجود وتصاريف الفكر وأعبائه فضل إنهاء حياته بإلقاء نفسه تحت عجلة القطار على طريقة الشاعر التشيكي جوزيف أتيلا بعد أن ترك في جيبه ورقة كتبها إلى أهله أوصاهم فيها بطبع ديوانه الشعري، هكذا يخبرنا صديقه الشاعر صالح جودت في كتابه الآنف الذكر.
أماالكاتب إسماعيل أحمد أدهم(1911/1940) فهو حالة خاصة درس الرياضيات العليا في روسيا وجاء إلى مصر وهو من أصول تركية يعلم بالجامعة ويكتب في الأدب وعرف بخصومته الشديدة لعميدالأدب العربي الدكتور طه حسين ، ولربما أراد الشهرة لنفسه بافتعال الخصام ومعارضة النابهين والمشهورين، غير أن إسماعيل أدهم كان مضطرب الفكر متقلب النفس، ميالاإلى الإلحاد ولربما كان إلحاده انتقاما من الله بنفي وجوده وانتهاك محرماته أكثر مما هو جدل عقلي واستدلال منطقي وهو ماندعوه بالإلحاد النفسي، وقد كتب كتابا بعنوان " لماذا أنا ملحد؟"،وحاول النيل من طه حسين بالتشهير به وتسفيه آرائه في الشعر الجاهلي واتخاذه مطية للصعود، أضف الى ذلك كله مرضه بالربو ومعاناته من هذا الداء العضال كل هذه الأسباب اجتمعت فأقنعته بالتخلص من حياته فأغرق نفسه في البحر في مدينة الإسكندرية.
ولازال قراء العربية وأنصار الشعر الحديث والمتحمسون للشاعر الأردني تيسير سبول وهو من رواد الشعر الحديث في الأردن أقول لازالوا يذكرون انتحاره يأسا من الحياة العربية وإخفاقات الواقع ونكد السياسة وعربدة إسرائيل بعد نكسة حزيران 67 واحتلال الجولان والضفة الغربية وسيناء وهو الشاعر القومي الطموح المتغني بأمجاد قومه، المتوثب لنهضة عربية تعيد بهاء صورة الأمس ، وإلى حرب تستأصل فيها الصهيونية ، ولكن الطموح الكامن في روح الشاعر لم يجد الواقع الذي يتجسد فيه هذا الطموح ، فرحل تيسير سبول بيده لا بيد القضاء. ويأتي في قائمة المنتحرين الشاعر اللبناني الكبير خليل حاوي (1925/1982) الشاعر والأستاذ الجامعي ، صاحب السمعة الذائعة والشهرة المدوية وهو شاعر كبير من رواد الشعر الحديث استملك أدواته وأتقن فنه فصار من الكبار من فئة صلاح عبد الصبور وأمل دنقل والسياب والملائكة والبياتي، واللافت في هذا الشاعر خريج الجامعة الإنجليزية والمتمكن من الثقافة العربية ميله إلى الوحدة والكآبة في سني عمره الأخيرة وكأنه استشعر راحة اليأس واستلذ مرارة الكآبة بعد عمر حافل خفق فيه القلب للأمجاد القومية، وتوثبت الروح للنهضة المنشودة واستشرف الشاعر قيام طائر العنقاء من رماده صحيحا معافى،مبشرا بعصر الخصوبة والربيع ونهاية الكابوس باندحار العدو – إسرائيل- ولكن الأيام أظهرت للشاعر غير الذي تمثله في خاطره، وتمناه في حلمه، فانطوى على نفسه وكان آخر دواوينه الشعرية يومئ بهذه الكآبة والإخفاق واليأس الوجودي ولا أدل على ذلك من عنوان الديوان ذاته " نهر الرماد" وهو عنوان يوحي بالخيبة والعقم بعد أن تحولت الجذوة الملتهبة نورا ونارا رمادا واقرأ هذا المقطع من هذا الديوان لتستشعر اليأس وتعرف الكآبة وتقدر الإخفاق:
خلنــي للبــحـــر لــلــريـــح لــموت
ينشـر الأكـــفــان زرقـــا للــغـريــق
مبحر ماتت بعينيه منارات الطريق
مات ذاك الضوء في عينيــه مــات
لا البطولات تنجيه ولاذل الصــلاة
واحص مفردات الكآبة واليأس والخيبة والقرف من الوجود في هذا المقطع من مثل : ( موت ، الأكفان، الغريق ، ماتت …) وأدرك هذا اليأس الذي سكن في روع الشاعر، بعد أن بدأ المشوار حاملا صليبه إلى ذروة الجلجلة ، أو بدأ كأبطال السير الشعبية وانتهى كأبطال التراجيديا اليونانية إنه كملاح صلاح عبد الصبور في " الظل والصليب"
ياشجر الصفصاف إن ألف غصن من غصونك الكثيفة
تنبت في الصحراء لوسكبت دمعتين
تصلبني ياشجرالصفصاف لو فكرت
تصلبني ياشجر الصفصاف لو ذكرت
تصلبني يا شجر الصفصاف لو حملت ظلي فوق كتفي ، وانطلقت
ومن الواضح الجلي أن دلالة الصفصاف هنا هي الخصاء الذهني والعقم النفسي .
انتهى خليل حاوي كملاح عبد الصبور وهوى إلى قاع العدم ولكن ملاح عبدالصبور مات من غير جرح من غير دم بينما مات حاوي منتحرا ببندقيته بعد أن ملأت الدماء غرفته .وهكذا أسدل الستار على حياة شاعر كبير مشى إلى النهاية بيديه وتحدى الموت الذي كان يدب نحوه بأن حث هو الخطى إليه
وفي الواقع فإن القائمة لا تتسع للكثيرين من الأدباء الذين أنهوا حياتهم بإرادتهم ويضيق المقام كما لايتسع المقال لذكر الجميع من شعرائنا وكتابنا الذين رحلوا بأيديهم لابيد عمرو.