يبدو في العصر الحديث تراجع العقل الذي تقوده الرغبة في المعرفة؛ أو الفضول العلمي، إذ يعتقد البعض أنه ‏بوسعهم أن يحققوا التقدم من خلال التركيز على مجالات أبحاث بعينها، وكأن بوسعهم أن يتنبؤوا بالمستقبل وبأهمية ‏تلك المجالات فيه، وأعتقد أن أسلوب التفكير هذا بمثابة «سوء فهم» يؤثّر على ماهية المعرفة.‏

يظن الكثير من الناس أن "العلم المنهجي" و"الابتكار" هما مجالان متوافقان يسيران على وتيرة واحدة؛ لكن ‏هذه ليست الحقيقة؛ والسبب هو أنّ المبتكرين التقنيين والعلماء الأكاديميين ليسوا متشابهين في ‏طريقة التفكير، فالعلماء هم نظريون على الأغلب، أما المبدعون التقنيون فهم مهندسون ميدانيون؛ أي ‏أنهم عمليون أكثر، فالعلماء يضعون النظريات بالاعتماد على المنهج العلمي الرسمي ويحاولون ‏تطبيقها بالاعتماد على المسلمات العلمية المنهجية، أما المبدعون التقنيون فهم يبنون الأشياء ‏ويراقبون ما يمكن أن تفعله هذه الأشياء؛ وقليلاً ما يلتزمون بالقواعد والنظريات السابقة الصنع، ‏فيمكن للمبدعين أن يتقدموا على العلماء بأجيال عديدة من الناحية التكنولوجية. ‏

‏ فالتقدّم التكنولوجي الذي نتمتع به اليوم قد تم إحرازه بفضل المبدعين التقنيين الذين لا يلتزمون ‏بالمسلمات العلمية التقليدية، وهناك أمثلة كثيرة على وجود تقنيين ومخترعين مميزين لم يتقدموا ‏كثيرًا في الدراسة الأكاديمية لكنهم غيروا مجرى التاريخ العلمي بفضل إنجازاتهم الثورية التي قلبت ‏الكثير من العلوم التقليدية رأسًا على عقب .

في حين أنّ 99% من التصريحات الصادرة من الأوساط العلميّة غير التقليدية (غير ا‏لرسمية) تبدو زائفة ‏للوهلة الأولى، فإنّنا لا نستطيع أن ننبذ أيًّا منها بدون تحريّات، وإذا فعلنا ذلك ‏فإنّنا بالتأكيد نأخذ مكانًا لنا بين الساخرين ‏الذين استبعدوا أو حتى اعترضوا على عدد كبير من ‏الاكتشافات العمليّة الرائدة عبر التاريخ، تذكر أن العديد من ‏التقنيات العصرية التي نألفها اليوم مثل ‏الطيران وفكرة القارّات الأرضية المنجرفة؛ تبدو عادية ومقبولة بالنسبة لنا؛ ‏لكنها بدت خاطئة ‏بشكل جازم خلال فترة اكتشافها لأوّل مرّة.‏

مثلاً ريتشارد فينمان؛ العالم الشهير الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء؛ حول ورقة علمية عن بصريات الكم ‏‏‏«‏quantum optics‏»، وهذه الورقة العلمية فتحت أبوابًا كثيرة في عدة مجالات بما فيها إمكانية التأثير والتحكم ‏في ‏التفاعل بين الليزر والمادة.‏

‎‎ووقتها قال فينمان أنه لم يكن يعرف التأثير الكبير لهذا البحث؛ وإن كل ما كان يشغله هو الفضول عن المفارقة ‏في ‏التأثير الليزري من جهة والمجال المغناطيسي من جهة أخرى على المادة نفسها، وأنه عندما انتهى من المعالجة ‏‏النظرية؛ وجد العلماء تطبيقات متعددة وكثيرة.‏

‏ السيّد "وليام بيرس"؛ رئيس المهندسين في مكتب البريد البريطاني؛ نُسِب إليه أكثر التعليقات غباءً ‏في التاريخ حول ‏اختراعات توماس أديسون، فقال في إحدى المناسبات أن مصباح أديسون ‏الكهربائي هو عبارة عن فكرة حمقاء تمامًا! ‏

‏ ‏ والعديد من البروفيسورات المرموقين الذين عرفوا أديسون؛ بما فيهم البروفيسور البارز "هنري ‏مورتون"؛ علّقوا على ‏فكرة المصباح الكهربائي قبل استعراضه أمام الناس بقليل؛ قائلين: ".. باسم ‏العلم؛ نصرّح بأن تجارب أديسون هي ‏عملية احتيال تهدف لخداع الجماهير.."!‏

 

‏ وعلّق علماء من الأكاديمية الفرنسية للعلوم؛ على آلة أديسون الصوتية (الغرامافون) بعد سماعها ‏تطلق الأصوات؛ ‏قائلين: ‏".. إنها عملية خداع واضحة! فلا يمكن للآلة أن تتكلّم! لا بد من أن الأصوات تخرج من فمه (أي ‏أديسون) بطريقة ‏بارعة لا يمكن ملاحظتها.."‏

وفي العام 1903م؛ تجاهلت الصحف الرئيسية ذلك الحدث التاريخي الذي يتمثّل بتحليق أوّل ‏طائرة صنعها الأخوين ‏رايت؛ وعلّقت إحدى المجلات العلمية المحترمة (ساينتيفك أمريكان) على ‏هذا الإنجاز بأنه خدعة وهمية! وهذا كان ‏موقف الصحف الأخرى مثل النييورك تايمز والنيويورك ‏هيرالد وغيرها! بالإضافة إلى قيادة الجيش الأمريكي؛ ‏والأكاديميات والجامعات المختلفة؛ ورجال ‏العلم البارزين؛ بما فيهم البروفيسور في علم الرياضيات والفضاء السيد ‏‏"سيمون نيوكمب" وغيره ‏من العلماء؛ جميعهم سخروا من الأخوين رايت وقللوا من شأن هذا الحدث العظيم؛ جميعهم ‏علّقوا ‏بصوت واحد: "... إنه من المستحيل علميًّا للمحركات الثقيلة أن تطير"، و لمدّة خمس سنوات ‏كاملة؛ رفض ‏المسؤولون في البيت الأبيض تصديق أن آلة ميكانيكية أثقل من الهواء استطاعت ‏الطيران.‏

إذن كيف يمكننا أن نشجع مثل هذا الشكل من الأبحاث المبنية على الفضول؟ الأبحاث التي يحركها الفضول ‏تحتاج مبدئيًا إلى علماء مبدعين يعملون في بيئة تشجع على التعاون بين الباحثين وتؤلف بين المجالات المختلفة.

 

وبالتالي لابد أن نسأل: هل هناك معادلة معينة لإدارة صناعة الاكتشافات والاختراعات؟ وتكمن الإجابة في ‏الاقتناع بثلاثة مبادئ:‏

‎‎ الأول -والأكثر أهمية- هو البشر أنفسهم، فمنح الأهمية الملائمة لتأسيس وتشجيع التعليم المُلهم في العلم ‏والتكنولوجيا والرياضيات والهندسة ضروري، حيث يجب أن تستقطب مجالات الأبحاث أفضل العقول الشابة؛ ‏فالمباني الضخمة والتمويل الغزير لن ينتجا الكثير ي ظل عدم وجود الأشخاص المناسبين.‏

‎ ثانيا: إن خلق مناخ من التبادل المعرفي يعد من أهم الأساسيات لبلورة الأفكار بشكل واضح، فإنهاك الباحثين أو تحويلهم لإداريين هو بمثابة بداية ‏النهاية للتقدم.‏

‎‎‎‎ ثالثا: من دون الموارد فإنه لا يمكن تحقيق الكثير، فمهما كانت العقول مبدعة فإن التمويل ضروري لتصنيع ‏الأدوات اللازمة للابتكار ولتوظيف الأطقم المساعدة للباحث المبدع، فالدول والمؤسسات التي تقدم البنية التحتية ‏الملائمة وتمول تنفيذ الأفكار الإبداعية ستكون موطنًا للابتكارات، ولكن هذا البناء والتمويل يجب أن يأتي بعد ‏الحصول على الباحثين الخلاقين.

 

التدقيق اللغوي: ريم المطيري

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية