وهذا النموذج يواجه مأزقا عميقا لأنه ناتج عن سمة أساسية في نمط الحياة الغربي . فالمجتمعات الغربية على أعتاب القرن العشرين ليست المجتمعات الغربية التي أدارت " آلة الترانسفير " الضخمة ، وأهم التغيرات التي اعترتها أنها ما زالت مجتمعات فتية اقتصاديا وعسكريا ولكنها هرمة سكانيا . وقد جاءت حالة الاحتجاج التي اجتاحت فرنسا مؤخرا متمثلة في إضراب موظفي الخدمات وتظاهرهم كأول استحقاقات هذه الشيخوخة ، وسبب الاحتجاجات نظام جديد للمعاشات سيجبر المواطنين على العمل لسنوات أطول قبل أن يتمكنوا من التقاعد .
حيث تريد الحكومة الفرنسية من موظفيها ، الذي يشكلون نحو ربع القوى العاملة في فرنسا ، أن يعملوا لفترة إضافية تمتد إلى سنتين ونصف السنة لكي يحق لهم الحصول على معاش كامل . ويهدف النظام الجديد إلى مواجهة العجز المالي في نظام معاشات التقاعد الفرنسي حاليا ، وينتظر أن يبلغ نحو خمسين مليار يورو بحلول عام 2020. وقد حذر رئيس الوزراء جان بيير رافران في خطاب وجهه للشعب الفرنسي من انخفاض المعاشات الحالية إلى النصف خلال عشرين عاما إذا لم يتم اتخاذ إجراءات فعالة لمواجهة مشكلة شيخوخة السكان
وكانت منظمة الأمم المتحدة قد أطلقت تحذيرا للدول الأوروبية واليابان في نهاية القرن الماضي ( الشرق الأوسط اللندنية 8 - 1 - 2000 ) إذ أعلنت أن عليها الاقتداء بنموذج أميركا الشمالية واستراليا لتشجيع الهجرة على نطاق واسع بهدف حل مشكلة شعوبهما الآيلة إلى الأفول والهرم . وحسب دائرة " السكان " بالأمم المتحدة فإن " تغييرا كبيرا يحصل حاليا في الجغرافيا السياسية " . وهو " لن يحصل خلال 200 عام وإنما يحصل حاليا " . وأطلقت دائرة السكان على هذه التغيرات " النظام العالمي الجديد للسكان " . وأظهرت التوقعات التي نشرتها الأمم المتحدة أن عدد سكان الأرض الذي بلغ ستة مليارات نسمة سيصل إلى 8.9 مليار نسمة في 2050.
وفي الوقت نفسه سيواصل عدد السكان في غالبية الدول المتطورة تراجعه وبطريقة خطرة جدا في بعض هذه الدول . وسيتراجع عدد السكان في ألمانيا ، الدولة الأكثر اكتظاظا بالسكان بين دول الاتحاد الأوروبي الخمس عشرة ، من 82.2 مليون نسمة إلى 72.1 مليونا وفي إيطاليا من 57.3 مليون نسمة إلى 41.2 مليونا واليابان من 126.5 مليون نسمة إلى 104.9 ملايين . أما في بريطانيا فسيتراجع عدد السكان من 58.7 مليون نسمة إلى 56.7 مليونا فيما ستشهد فرنسا ارتفاعا طفيفا في عدد السكان من 58.9 ملايين نسمة إلى 59.9 مليونا . وسيتقدم سكان هذه الدول بالسن وهو ما سيلقي ثقلا إضافيا على أنظمة الضمان الاجتماعي التي يأتي مصدر تمويلها بشكل أساسي من السكان العاملين لصالح المتقاعدين . ففي ألمانيا يعمل حوالي 4.5 من الأشخاص المؤهلين للعمل من أجل متقاعد واحد وفي العام 2050 سيصبح هذا المعدل ، شخصين عاملين لكل متقاعد .
وتشير توقعات مماثلة إلى أن هذه الحالة تنطبق أيضاً على غالبية الدول الأوروبية في حين يحتمل أن تزيد نسبة الأشخاص الذين تتخطى أعمارهم 65 عاما في اليابان من 15 % حاليا إلى 32 % عام 2050 . وفي المقابل فان الولايات المتحدة التي يبلغ فيها معدل الأشخاص العاملين ثلاثة للمتقاعد الواحد تتوقع ارتفاع عدد سكانها من 276.2 مليون نسمة إلى 349.3 مليونا بفضل التدفق المستمر للمهاجرين . وفي حال أرادت ألمانيا مثلا المحافظة على نسبة سكانها الحالية فعليها قبول 18 مليون مهاجر في أراضيها في السنوات الخمسين المقبلة .
وسيكون من الضروري وجود حوالي 25 مليون مهاجر للحفاظ على استقرار عدد الأشخاص العاملين ، علما بأن المهاجرين من الجيل الأول سيحاولون هم أيضاً إلى التقاعد وان استقبال مهاجرين جددا وأكثر شبابا سيكون بالتالي ضروريا ، لكن إذا أرادت ألمانيا الإبقاء على المعدل الحالي للأشخاص العاملين فستكون بحاجة إلى 188 مليون مهاجر !!
وما يواجهه الغرب الآن أحد ثمرات نمط الحياة الغربية الذي غذى في أبناء هذه المجتمعات النزوع الفردي على نحو متطرف ، وتبنى علم الاجتماع الغربي مقولات معادية للكيانات الوسيطة بين الفرد والدولة واعتبرها أشكالا متخلفة للتنظيم الاجتماعي كالأسرة الممتدة التي اختفت تماما وحلت محلها الأسرة النووية التي تتكون من جيل واحد وتنحل دون أن تمتد . ومن السنن الكونية التي لا تتبدل أن إعلاء قيمة اللذة في مجتمع تشكل الفردية أهم قيمه يؤدي حتما للعزوف عن الزواج لتختفي الأسرة النووية نفسها ، وهو ما حدث بالفعل . فحسب دراسة لمكتب الإحصاء الأوروبي ( 2002 ) فإن عدد الزيجات انخفض بنسبة 15 % في الاتحاد الأوروبي في العقد الأخير ـ ما عدا في الدنمارك حيث استقر نسبة الزيجات بـ 6,6 لكل ألف شخص ـ في الوقت الذي ارتفع فيه معدل الطلاق بشكل كبير إلى 40 في المائة كان أعلاها في عام 2001 بلجيكا وكانت 9,2 بين كل ألف .
وحلت أشكال الارتباط غير الشرعي محل الزواج وأصبح الإنجاب ينظر إليه كقيد على الحية الفردية والقدرة على الاستزادة من المتع الحسية ، وحسب التقرير الأوروبي نفسه فإن معدل المواليد خارج إطار الزواج وصل إلى 55 % في السويد وإلى ما يزيد على 40 % في الدنمارك وفرنسا وفنلندا والمملكة المتحدة .
وقد وصلت الأزمة إلى حد عجز بعض المجتمعات الغربية عن تجديد نفسها سكانيا بعد أن أصبح معدل المواليد فيها يقل كثيرا عن معدل الوفيات ما يعني أنها انتقلت من حالة الثبات السكاني لحالة التناقص المطرد ، أعلى معدل نمو سكاني طبيعي تم تسجيله في أيرلندا بـ 3,7 مولود من كل ألف وتليها فرنسا بـ 2,4 مولود في مقابل ألمانيا والسويد واليونان التي كانت معدلات النمو بهم سلبية حيث تراجعت في ألمانيا إلى -1,1 والسويد إلى -0,3 واليونان إلى -1,0 في المائة وذلك لتراجع معدل تدفق المهاجرين بشكل سلبي . بل إن المعدل السنوي للزيادة المسجلة في دول الاتحاد كلها في بداية العام 2002 يصل إلى 0,4 % ترجع ثلاثة أرباعها إلى الهجرة والثلث الباقي (375 ألف شخص ) إلى النمو السكاني الطبيعي !! بينما الهند مثلا تتزايد بمتوسط 16 مليون نسمة سنويا . وهو يؤكد دور الهجرة في إحداث توازن ديموغرافي بأوروبا ، ومما ضاعف الأزمة أن المجتمعات الغربية تكن احتقارا ملموسا لعمل اليدوي وهو ما جعله في حاجة دائمة للمهاجرين ليملأوا فراغا دائما ي قاعدة هرم العمل .
على هذا النحو تضافرت هذه العوامل لتخلق وضعا شاذا كانت نتائجه تزداد تراكما وقف الغرب أمامه عاجزا ، فهناك دائما أيدي عاملة تتدفق من الجنوب للعمل في المهن الدنيا وطوابير من المواطنين الغربيين يعانون البطالة . ولم يكن الوافدون مجرد قوة عمل محايدة بل جاءوا يحملون أديانا وثقافات ولغات مغايرة كرست الإحساس بأن الغرب يكاد يفقد سماته المميزة ويصبح هجينا ، كما أنه كرس المخاوف من استمرار ازدياد الفجوة السكانية ومردوداته المختلفة . وهو ما ساعد بدور كبير في ظهور التيارات المتطرفة المعادية للأجانب كالنازيين الجدد وغيرهم ، ولعل من الإحصاءات التي تعكس هذه الحقيقة بوضوح أن نصف مواليد ألماني في النصف الثاني من التسعينات كانوا من الأتراك !! .
وقد كان من بين الاستحقاقات الحتمية أن تختل التوازن بين نسبة الشباب ونسبة العجائز ، وبما كان مما ساعد على عجز الغرب عن وقف مسار التداعيات أن خيار التحديث بالنسبة للغرب لا رجعة فيه أيا كان ثمنه ، كما أن التقنية شديدة التقدم التي مكنته من الحفاظ على أمنه القومي بمعناه العسكري المحض دون الحاجة إلى تغيير نمط التطور السكاني أو إعادة النظر بالقيم الفردية الحاكمة للنموذج ، وهذه التقنية هي نفسها التي رفعت متوسط عمر الإنسان وزادت نسبة المسنين في المجتمع ، ورغم ذلك أغره نجاحه بأن يتصور بإمكانها أن تحل له هذه مشكلة اختلال التوازن بين نسبة الشباب والمسنين في المجتمع وهو ما لم يحدث ، وعجزه عن إدراك الفروق الجوهرية بين المادي والإنساني هو أحد أخطر عورات الفكر التحديثي العلماني الرأسمالي الترشيدي العقلاني.