لا أجد عنوانا يصلح لوصف مشهدنا السياسي والثقافي الفلسطيني أفضل تعبيرا واختصارا من هذا العنوان المؤلم حتى النخاع ولكن هي الحقيقة الظاهرة دونما حاجة لكثير من مهارة في تشخيصها ، وليس غريبا أن نضيف هذا الحال إلى ما تناولناه عن المفاهيم المنقلبة مؤخرا ، فلقد انقلبت أيضا مفاهيم الثقافة وانقلبت حالها بانقلاب المنقلبين الذين لم يدّخروا جهدا في تسويغ انقلاباتهم هذه المرة ثقافيا بتدبير المؤامرات لاغتيال الذاكرة الفلسطينية والتي هي عصب الصمود الحقيقي وشرط الحفاظ على مستقبلية البقاء والوجود خاصتها معا. وصلنا بيان الشاعرالفلسطيني عزالدين المناصرة والروائي الفلسطيني رشاد أبو شاور حول مؤتمر القاهرة المقام بمبادرة ودعوة المجلس الأعلى للثقافة ووزارة الثقافة في حكومة السلطة الوطنية الفلسطينية ، وكان طبيعيا أن يحمل "المشروع الثقافي الفلسطيني واستراتيجية المستقبل " في نظر من دعا ومن موَّل ومن قبل أو سيقبل تاليا العضوية في هكذا مشروع وهكذا استراتيجية سمة ونتيجة جملة الانقلابات القائمة هذه الأيام وبإصرار عجيب من قبل قادة هذه الانقلابات ومن قبل من يقبل أن يكون أداة تنفيذ لها على المستوى الثقافي .
ودونما عناء كبير فإن طبيعة هذا المشروع هي طبيعة فكر من لا زال يعبد أوسلو وقد مات أسلو ومات عابدوه معه ، ولكن موتهم الروحي لم يمنع حركتهم الشبحية والظلالية حتى تتم دورة العبادة الشيطانية هذه ، ومن نافل القول أن النصح والنصيحة ما عادت تجدي أثرا ولا تعيد رشدا ولا تقيم أودا ، فلقد استمرأ القوم ما يفعلون وطربوا لما ينتقدون عليه فشاكل حالهم حال من حولهم في دورة متبوئي السلطة في بلدان الشرق بعامة ، بل لقد أدمنوا على سماع ذلك بحيث كسروا قاعدة إذا أردت أن تذكر فافعل المنكر وهي قطعا قاعدة شيطانية وقدموا قاعدة جديدة تقول هل من مزيد فالوحل لا قاع له .
ليس المهم وجود هذا أو ذاك في مؤتمر أو في مشروع من مثقفي وأدباء وكتاب وفناني فلسطين وهم مد البصر ومليء السمع عددا وفكرا ولكنَّ المهم قطعا هو طبيعة هذا المشروع أيضا وطبيعة أهدافه وما لفَّ ظروف عقده وظروف إخراجه تاليا وما انتهى إليه ، وربما أمكن أن تؤكد هذه جميعا حقيقة أن شروط وأركان عقده ذاتها حملت تباشير ما سيخرج عنه تاليا ومن هنا وافق المقال المقام وجاءت النتيجة ضمن منطوق المقدمات والنتائج .
سأبدأ مبكّرا القول بأن إعلان موقف واضح وصريح مما جرى اليوم ومما سيجري غدا بدأناه منذ بداية العام هذا بإصدار مانفستو شعري اخترنا له اسم "لا " مبكّرا لأنا توقعنا شيئا مثل هذا وأشياء أخر ربما أخّر نفاذها إلى السطح بعض مما يحسن القول بأنه متروك لظرفه حينما تتهيأ زاوية الإنحدار والسقوط أكثر قليلا في ظن رعاته والقائمين عليه ، فالسقوط طردي ومعادلة أشيائه ليست وليدة اللحظة بل هي منذ البداية تسير بوضوح وجلاء وبيانية ، وجاءت قصيدة محمود درويش " ملك الاحتضار " تحمل ذات التحذير وذات الإشارة إلى ما سيجري وما سيتم فلا يمكن القول أن عنصر المفاجأة كان حقيقيا فيما وصلت إليه الأمور وفيما بلغته عبر مؤتمر القاهرة الأخير هذا .
الثقافة الفلسطينية التي تدعي وزارة الثقافة في السلطة تمثيلا لها لا تنأى عن أن تكون ثقافة مواكبة لمشروع السلطة ذاتها وهذا ليس غريبا ولن يكون كذلك ، والثقافة التي يدّعي المجلس الأعلى للثقافة رعايتها ستكون ثقافة مهيئة لبقاء عاشقي كراسي المجلس هذا على كراسيّهم ليس أكثر ، ومجموع هاتين معا يعني أن الثقافة المدعاة هي ثقافة إنكار الذاكرة الفلسطينية والحق الفلسطيني والمعاناة الفلسطينية ورهن المستقبل الفلسطيني بما سلمته أوسلو للكيان الغاصب، وبما أعلنته حكومة عباس في مؤتمر البحر الأحمر ومن قبلها أمام المجلس التشريعي ، وبما تقود إليه جملة تنازلات هذه الحكومة والتيارات المتسلقة الفاسدة التي رعتها وسترعى بديلاتها عند احتراق أوراقها عاجلا أم آجلا.
والوزارة التي عنوان وجودها ما تقدمه فضائية فلسطين - مع علمنا أنها تتبع وزارة الإعلام في التنفيذ فمعينها المفترض هو وزارة الثقافة في المادة والفكر- سيكون واضحا بما لا يدع مجالا للشك أي وزارة هذه لأن فضائية فلسطين هي فضائية الواق الواق مع ظلال فلسطينية بل هي باختصار فضيحة فلسطينية على الهواء مباشرة ، وليس الأمر هكذا مرة أخرى بسبب الافتقار إلى الميزانيات والموازنات وهي المنهوبة عيانا بيانا إن وصلت إلى هذه المؤسسات أو حتى قبل توزيعها ووصولها ، وليس السبب أيضا انقراض الكفاءات الثقافية والإعلامية الفلسطينية والمستعدة للنهوض بكل ما يلزم طوعا لإنجاز صورة مشرّفة عن هذا الشعب وقدراته ورسالته ، بل السبب كل السبب يكمن في أن المطلوب هو هذه الصورة الظاهرة وليس غير وسيكون تاليا مطلوبا الانحدار بها كلما انحدرت زاوية السقوط تلك.
كانت الضفة الفلسطينية وقطاع غزة رهن احتلال صهيوني غاشم لا زال مستمرا بأغطية أوسلو وما تبعها ومع ذلك أنتجت ثقافة حقيقية مشرّفة وأدّت دورا حقيقيا في الحفاظ على صمود الشعب الفلسطيني تحت أبغض وأشرس احتلال واغتصاب عرفه الكوكب ، وعملت على تحشيد جماهير هذا الشعب خلف رسالته الوطنية دون كلل أو ملل وبأقل من خمسة في المائة من الميزانيات المعلنة هذه الأيام على أنها موازانات للثقافة والإعلام ، وهذا يشكّل ردا حقيقيا على من سيخرج علينا غدا متذرّعا بالميزانيات والموازنات وكأن الثقافة أصبحت مادة سلعية تخضع لقوانين السوق واشتراطاته وسماسرته وشركاته متعددة الجنسية ومتعددة الأهواء .
قدّمت جامعة مثل جامعة بيرزيت تحت الاحتلال وفي الثمانينيات فرقا مسرحية فلسطينية جابت المعمورة مؤدية دورا ثقافيا عجزت عنه وزارة ثقافة السلطة ومجلسها الأعلى حتى الساعة ، رغم مطابعها ومسارحها وفضائيتها ومجموعة صحفها ، وأنتجت الحركة الأسيرة الفلسطينية شعراء وكتّاب ومبدعين وصلت رسالتهم الحضارية والإنسانية آفاق الأرضين واستقبلتها الحركات الثقافية العربية والدولية استقبال أرقى الإبداعات الثقافية ، وجاهد عدد من نوابغ الفنانيين والرسامين والتشكيليين الفلسطينيين للوصول إلى أروع المراتب جهادا ذاتيا ، وكل ذلك دون أن تكون هناك ميزانيات ولا أشباح الكراسي هؤلاء الذين يمدون اليوم أياديهم غير النقية لاغتيال الثقافة الفلسطينية والذاكرة الفلسطينية وشطب هذه المنجزات جميعا تحت مسميات مهزوزة ومفضوحة في ذات الوقت .
ولا مانع من هذه الحكاية التي ستقول شيئا عن التغيير العملي ففي يوم من أيام الثمانينيات وصلنا يوم كنا في معترك النضال النقابي الوطني الفلسطيني ضمن حركة الطلاب والطلبة الفلسطينيين أن صحيفة فلسطينية هي صحيفة الفجر تقف على شفا حفرة من الانزلاق نحو هاوية جريمة وطنية وثقافية من خلال مجموعة إرهاصات أكدت ذلك ، وفيما بعد اتضح أن جملة ذلك كان عبارة عن سوء في الاجتهاد وليس اجتهادا على قاعدة السقوط ، يومها انتقلنا إلى موقع هذه الصحيفة الوطنية ونفذنا النصيحة دون بيان بل كان بياننا هو وجودنا بأنفسنا هناك ، وللحقيقة والتاريخ أعيد اليوم شكر فلسطيني صحفي ومهني موضوعي ووطني أيضا تفهّم ذلك تماما وأعاد الأمور إلى نصابها وقد كان يقف على رأس تحرير هذه الصحيفة هو الأخ د. بشارة بحبح .
الثقافة المطلوبة - "سلطسلويا" بالنسبة إلى السلطة المزوِّرة وأسلو الميّت معا- والتي توفّر لها الميزانيات والكادرات هي الثقافة التي تسمح بتمرير المواد المؤدية إلى تشكيل ذاكرة مهشمة ووعي مهمش ورؤية ملتبسة مشوّهة ، ومثل هذه الثقافة ومثل هذه الميزانيات ومثل هذه الكادرات أشبه ما تكون بقضية مسجد الضرار لمن لم يعرف عنه وقد هدمه الرسول الكريم على رؤوس بانييه ورؤوس مرتاديه معا ، وهي ذات الأبواق المشروخة التي سبق وأن حرصت كل إدارة احتلالية وطئت أرضا أن يكون لها مثلها سواء مكتوبة أم منظورة أم مسموعة ، ولكنَّ الأخطر في أمر هذه في الحالة الفلسطينية أن تدعي التمثيل للثقافة الفلسطينية وأن تصادر ما كان في غير لونها وأن تحرِّض على غيرها تحت مسميات ودعاوى لن تعدم لها شعارات ومبررات دنيئة مشمولة حتى الثمالة بأسبابها الذاتية والأنانية والعوراء العمشاء معا ، وتكون الخطورة مضاعفة عندما لا تصادر الماضي والحاضر فقط بل تبشِّر بمستقبل تفرضه هي وحيدا أبترا مسخا وكاذبا .
أعيد على السمع ما ذهب إليه بعض الأخوة فقط للتذكير أن النماذج الرائعة في ثقافتنا الوطنية الفلسطينية من المبدعين لم يكونوا أصحاب مجالس ولا أصحاب كراسي ، ولا كان مشروعهم الثقافي الوطني إلا مشروعا واحدا وحيدا لم يحتج منهم لا مؤتمرا في فنادق ولا تغطية صحفية وإعلامية كي يشرحوه ويقولوا لجماهير شعبهم وأمتهم ما هو مشروعهم ، وكان مشروعهم أيضا ناطقا بضاد واحدة وحيدة مفهومة لم تحتج أيضا لا مترجما ولا مفسِّرا كي يخرجوه إلى العيان مشفوعا بكثير من هوايتهم المفضّلة في رتق ورق التوت الساقط عن العورات منذ أسلو القبيح ، وأيضا كانت استراتيجيتهم هي التي يحيون ويتنفسون بين ظهراني شعبهم المرابط الأبي وليس تلك التي تحتاج الفنادق الفارهة والصالونات المرفّهة للهو بالكلمات بين سراديبها ومن ثم تعليق ناتجها على أستار المفضوح أصلا ولا ساتر له ولا جدار سوى جدار شارون مثلما علَّق بعض من سلف قريش وثيقة استراتيجية مقاطعتهم يوما ما .
لم يكن غسان كنفاني ولا كان ناجي العلي ولا معين بسيسو ولا ماجد أبو شرار ولا غيرهم من العلامات النابضة في ثقافتنا الفلسطينية وذاكرتنا الفلسطينية أشباح كراسي وما كان لهم أن يكونوا كذلك ، ولا سافروا لفنادق هنا وهناك كي ينتجوا لنا مشروعا ثقافيا واستراتيجية ثقافية ، بل سافروا إلى مخيمات شعبهم وإلى متاريس المواجهة وانتقلوا عبر جراح هذا الشعب ودفعوا ثمن مشروعهم بالدم النقي الطاهر قبل أن يقفز متسلقو الثقافة على أجساد مشروعهم النابض ليعلنوا أنه ما عاد نابضا على طريقتهم الصفراء في كل ثورة وفي كل مقاومة ، خاطبت غسان وخاطبت ناجي وبقي اليوم أن أخاطب من لا زال حيا من أخوتهم حتى لا يأخذ الخطاب بعده الاستراتيجي وليس فقط بعده الإنساني .
هذه الثقافة وهذه الوزارات والمجالس قد انتهى أمرها ورمينا طوبتها كما يقول الأخوة المصريون الذين شهدوا في قاهرة معزِّهم هذه المسرحية الخبيثة ، وليس رمي طوبتها هو الرد عليها عبر بيان أو مانفستو أدبي وشعري وروائي وانتهى الأمر عند هذا وتبقى الأمور على حالها ولا قضاء يلجأ له المتضررون ، بل يكون عبر تشكيل جبهة ثقافية فلسطينية عريضة تشمل كل الشعراء والأدباء والكتاب والصحفيين والفنانين الفلسطينيين تكون جبهة للذاكرة الفلسطينية النقية ولا نريد لها ميزانيات ولا نريد لها كراسي ، بل نريد لها مشروعها الوطني والقومي الذي يبقي هذه الذاكرة حية ويفك الرههن عن البندقية الفلسطينية التي كفلت دوما لهذه الذاكرة ولهذه الثقافة الوجود المشرّف والمستقبل العزيز الكريم .