عام مضى على سقوط بغداد ,والأمريكان الذين دخلوا بدباباتهم إليهاكما يزعمون محررين بدوا في الذكرى الأولى في صورة المحتل الشرس الذي لا يتورع عن الفتك بالمدنيين والتنكيل بهم بشتى صور الترويع والتدمير,ففي الفلوجة وحدها سقط أربعمائة وخمسون شهيدا واكثر من ألف جريح خلال أسبوع من الحصار والقصف,وكان استعمال القنابل العنقودية-ذات السمعة الكريهة – المسمار الأخير في نعش أكذوبة المحرر التي لم تعد تنطلي حتى على الشعب الأمريكي نفسه باستثناء المستر بوش وجوقته!. يكشف هذا العام المنصرم عن التخبط المفضوح للإدارة الأميركية في تعاملها مع الوضع الشائك المعقد في بلاد الرافدين ,ويبدو أن الاجتياح العسكري السريع كان الحلقة الأسهل في مسلسل احتواء الوضع هناك ,ولا تدع القرارت الارتجالية الأخيرة للحاكم المدني بريمر مجالا للشك في أن الإدارة تنقض غزلها أنكاثا برعونة وبلاهة غريبتين تثيران دهشة أقرب حلفائها,فلقد اجتهدت الإدارة المذكورة في تثبيت قواعد مجلس الحكم ودعم قراراته ومحاولة إسباغ الشرعية عليه ما أوتيت إلى ذلك سبيلا لكنها نتيجة لتخبطها ذهبت في أسبوع واحد بما اجتهدت في تحقيقه حولا كاملا! فهي بانفرادها دون المجلس باتخاذ قرار المواجهة العسكرية الشاملة لحركات التمرد الشعبي في غرب العراق ووسطه وجنوبه قد أثارت حفيظة أعضاء المجلس أنفسهم الذين رأوا في مثل هذا التصرف ما يكشف عن ضآلة دورهم في إدارة شؤون العراق حين ظهروا في صورة (المحلل) الذي يسبغ على قرارات بريمر سربالا رقيقا من الشرعية الواهية ,وهو ما دفع ببعضهم إلى الاستقالة أو تعليق عضويته في المجلس,ولعل أوضح مثال على ارتجالية القرار ما جرى من تعيين وزيري الداخلية والدفاع من الطائفة الشيعية ثم الاكتشاف المتأخر للحاكم بريمر أن في ذلك ما يخل بالتوازن الطائفي في توزيع وزارات السيادة ومن ثم فقد طلب بكل لباقة (!)من أحد الوزيرين التبرع بالاستقالة لتصحيح الوضع! وتمت إقالة وزير الداخلية في خطوة مسرحية مضحكة أثارت كثيرا من اللغط والحرج وذهبت بالبقية الباقية من هيبة (مجلس الحكم ) المغلوب على أمره!.
وتبدو عقلية (الكاوبوي) الغالبة على التعامل العسكري مع الأحداث حيث الغرور بالقوة المفرطة, وكأن العراقيين ليسوا سوى قبيلة من قبائل الهنود الحمر التي لن يلقى الرجل الأبيض عنتا في ترويضها وتطويعها,وكان من جراء ذلك أن دخلت الإدارة الأميركية –بمزاجها!- في صراع دامٍ مع الطائفتين السنية والشيعية ,حين تصدت بعنف مفرط لأتباع مقتدى الصدر في مدينة الصدر ببغداد ومدن الجنوب,وشنت غارات عنيفة على مدينتي الفلوجة والرمادي في الغرب في الوقت نفسه معتقدة أنها قادرة على احتواء (مزدوج) لثوار الطائفتين معا, وهو ما اكتشفت خطأه لاحقا حين أعلن وزير الخارجية باول أن الإدارة قد فوجئت بصلابة مقاتلي ميلشيا الطائفتين!!.
وفي ظل هذه الفوضى العارمة ومسلسل استقالات مجلس الحكم ووزرائه واحتدام جذوة مقاومة الاحتلال فإن الموعد المضروب لتسليم السلطة المدنية لمجلس الحكم (30 من حزيران) يبدو كمواعيد عرقوب التي لن تتحقق,فهل تتمكن أميركا خلال 75 يوما من إنجاز ما عجزت عن تحقيقه في عام ,لقد كتبت قبل عام (22/4) مقالة بعنوان (حسن التخلص) أشرت فيها إلى المأزق الذي ستواجهه أميركا عند محاولتها التخلص من مستنقع (الهور) الموحل,وأراني سأعيد التساؤل نفسه الذي ختمته به تلك المقالة (كيف سيتمكن الأميركيون من الخروج من المأزق السياسي العراقي بطريقة تحقق مصالحهم بأقل الخسائر والأضرار مع أن تجاربهم الكثيرة ناطقة بأنهم أجهل خلق الله في فنّ حسن التخلص؟).