الحلم حالة من التمرد على الواقع والتحليق خارج قيوده ، وكلما كان هذا الواقع أكثر بؤسا كان الحلم أثر إغراقا في الخيال وكانت الرغبة فيه أقوى ، ففيه يبني الإنسان عالمه الخاص أو يحلم بغده دون الهروب إلى عالم خاص ، هكذا نعرف الحلم . وعندما يكون الواقع مرا فلا حاجة لأحد إلى أن يحلم بما هو أمر وإلا كان كابوسا أو مؤشرا على اختلال نفسي عميق . وعلى أعتاب القرن الحادي والعشرين يستوقف كل عاقل أن يرى مثقفين عرب يحلمون بحاكم أكثر استبداد ويبكون عليه إن زال ملكه ، وبعد الحرب على العراق تحفل وسائل الإعلام العربية بالكثير من هجائيات الحريات عموما ( حتى لو انصبت اعتراضات أصحابها على الديموقراطية الليبرالية كمفهوم نظري أو دعوة سياسية غربية ) ، وهي تجعلنا نبدو كما لو كنا لا نستطيع العيش إلا في ظل " القائد الضرورة " ، ذلك الملهم الذي يستطيع بحكمته أن يدخل أمته عصر " المقابر الجماعية " من أوسع أبوابه !! .
وقد استوقفني بل صدمني أن فريقا من المثقفين العرب كان قد منح عراق صدام حسين - على سبيل التكريم طبعا - لقب " بروسيا العرب " ، والحلم البروسي لا يختلف كثيرا عن الحلم الكوري الشمالي الذي تاق إليه الكثير من المثقفين كعرض من أعراض الحرب على العراق وهي أعرض نفسية ربما كانت أجدر باهتمامنا من أعراض " مرض حرب الخليج " . والحلمان الكوري الشمالي والبروسي كلاهما من أعراض الرغبة في تدمير الذات وإن أمكن تدمير العالم كله ، وقد كان الأب الروحي لمجد بروسيا أتو فون بسمارك يقول :
" إن قيام دولة بولندا في أي شكل هو بمنزلة قيام حليف محتمل لأي عدو يريد أن يهاجمنا ، وبالتالي يجب على بروسيا أن تسحق البولنديين إلى أن يفقدوا أي أمل ويسلموا بالهزيمة . أنني متعاطف للغاية مع وضعهم ولكن إذا كنا نريد البقاء فلا خيار أمامنا سوى إزالتهم "
وهذا المنهج البروسي " الشجاع " نجد ملامحه في سلوكيات النظام العراقي المقبور الذي صنف الكثيرين في الخانة نفسها التي صنفت فيها بولندا ، فاعتبر صدام أن إيران هي بولندا ، ثم اجتهد فمنح هذا الشرف للكويت ثم قام بثورة تصحيحية عندما اكتشف أن بولندا التي تهدد أمن بروسيا هي الشعب العراقي نفسه . والفارق الوحيد بين بسمارك وصدام أن الأول كان يشفق على أعدائه وهو يبطش بهم أما الثاني فكان أكثر بروسية من البروسيين أنفسهم ، والمحصلة النهائية للمسلكين كانت دمارا . فما دلالة أن يكون أفق حلم بعض مثقفينا أكثر بؤسا من الواقع وإلى أي درك يكون المشروع النهضوي العربي قد انحدر عندما تصبح غاية آمال الحالمين به بروسيا أو كوريا الشمالية ؟