تعيش الجزائر هذه الإيّام مخاضا حقيقيّا سيفضي إلى إنبلاج حالة سياسية مغايرة تماما لما كان عليه المشهد السياسي الجزائري على مدى العشر سنوات الماضيّة , ولأول مرّة سيكون هذا المخاض إيجابيّا وفي الإتجّاه الصحيح وذلك بعد نمو مجموعة من الشروط السياسية التي أفضت إلى وضع الجزائر في الإتجّاه الصحيح . صحيح أنّ الجزائر فقدت سابقا الكثير من قدراتها و مقوماتها و طاقتها البشرية ومواردها وأستنزفت بشكل كبير في تفاصيل حالتها العامة لكنّ كل ذلك ساهم في إنضاج الشروط السياسية المذكورة آنفا والتي ستعصم الجزائر مستقبلا من السقوط ثانية في مستنقع الفتنة الداخلية و التي ستمدّها بالمناعة اللازمة في عالم مقبل على تطورات مذهلة على المدى القريب والمتوسّط .
و قد ساهمت الإنتخابات الرئاسية التي جرت في الجزائر والتي فاز فيها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في تدشين السكّة الصحيحة التي ستبدأ الجزائر السير فيها بإتجاه التقويم السياسي والإقتصادي و الإجتماعي وحتى الثقافي والفكري .
و لم يكن لهذه الحالة السياسية الجزائرية السليمة أن تتبلور لولا تآزر مجموعة شروط منها إيفاء المؤسسّة العسكرية الجزائرية بوعدها بأنّها ستقف على الحياّد و تفكير صنّاع إستراتيجيتها جديّا في ترك الساحة السياسية و التفرغ للمهام الدستورية و هي الحفاظ على الوحدة الترابية و الحدود الجزائرية التي صاغتها دماء شهداء ثورة نوفمبر المقدسّة و هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الضبّاط الشباب من جيل الإستقلال الذين بدأوا يتبوأون مناصب رفيعة في سلك المؤسسّة العسكرية والأجهزة الأمنية يتمتعّون بثقافة عالية و تكوين عالي وإدراك واسع للمتغيرات الدولية و يتمتعون بحبّ واسع وغير محدود للجزائر وجزء منهم هو الذي قاد المفاوضات مع الجيش الإسلامي للإنقاذ و الجماعة السلفيّة للدعوة والقتال والتي أفضت إلى ترك معظم عناصر هذين التنظيمين الجبال وهي خطوة صحيحة ويجب أن تدعم بل يجب إقناع كافة العناصر المسلحّة بأن تبادر إلى إلقاء السلاح والإنخراط في المجتمع المدني لأنّ العنف لا يؤدي إلى أي نتيجة غير تدمير الجزائر و نخرها في الصميم , وإغلاق ملف المجموعات المسلحّة سيجعل الفعل السياسي أكثر حضورا وفعاليّة من الفعل الأمني الذي يضرّ أكثر مما ينفع .
وفي هذا السيّاق يشار إلى أنّ الذين نجحوا في إغلاق هذا الملف سواء مع الجيش الإسلامي للإنقاذ أو الجماعة السلفية للدعوة والقتال عليهم أن يحاولوا جاهدين مع بقية الجماعات المسلحّة لتتخلى إلى الأبد عن العمل المسلّح لأنّ السنوات الأخيرة أثبتت عدم جدواه ناهيك عن أنّ الجدار الوطني التهرّئ كثيرا ما يكون مساعدا للإرادات الدولية على العبث بالوضع الداخلي والتدخل فيه بالسياسة تارة وبالعسكرة تارات أخرى .
وبالإضافة إلى ذلك فإنّ مفهوم المصالحة الوطنية بات قناعة للرسميين وغير الرسميين , فالرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ومن خلال حنكته السياسيّة العريقة بحكم كونه أحد مؤسسّي الديبلوماسية الجزائرية و أحد بناة سمعة الجزائر الدولية في الستينيات و السبعينيّات أسقط الكثير من تجاربه السابقة على راهن الحالة السياسيّة في الجزائر و نجح كما يقول محبوه وخصومه في أن يلعب اللعبة السياسيّة بأصولها وقواعدها وهو الأمر الذي جعله يضيف دما جديدا إلى الجسد الجزائري داخليا وخارجيّا .
وإذا كتب له أن يحقن دماء الجزائريين ويجمع شملهم ويوحدّ صفوفهم تحت سقف الوطن الجزائري فلا شكّ أنّه سينال ما لم ينله سابقوه من إحترام و توقير وخصوصا إذا نجح في تسليم الراية للطاقات والكفاءات الهائلة من جيل الإستقلال .
و الإيجابي في مساعي بوتفليقة كما تشير معلومات دقيقة من مقربيه أنّه لا يناور ولا ينافق فالرجل مؤمن بفكر المصالحة الوطنية وهي عنده إستراتيجية و ليست تكتيكا ويؤمن بنشر الإخاء والتصافي و المودة بين الجزائريين كافة .
ولا شكّ في أنّ الطبقة السياسيّة الجزائرية بمختلف مشاربها نضجت بما فيه الكفاية وباتت ترى في المصالحة الوطنية شرطا أساسيّا لإخراج الجزائر من أزمتها وهي تطالب بتفعيل مشروع المصالحة كإستراتيجية وليس كمناورة سياسية .
وفوق هذا وذاك فإنّ الذين صعدوا إلى الجبال لظروف قاهرة ولأسباب معروفة للجميع إكتشفوا خطأ هذا النهج الذي يراكم الأوجاع ولا يحقق المراد الذي يمكن تحقيقه عبر النضال السياسي المدروس والعقلاني والذي يأخذ بعين الإعتبار ظروف الجزائر داخليا وإقليميا ودوليّا كما أنهم شرعوا في العودة إلى أحضان المجتمع الجزائري وأحضان عوائلهم أيضا .
وقبل كل هذه العوامل وبعد كل هذه العوامل هو تأكيد الشعب الجزائري بمختلف شرائحه على إيمانه بالمصالحة الوطنية الشاملة و ذلك من خلال مشاركته في الإستفتاء على قانون الوئام سابقا و من خلال مشاركته في الإنتخابات الرئاسية وميله لطروحات المصالحة الوطنية و مشروع حقن الدماء و إعادة الجزائر إلى سالف عزتها وقوتها السياسية والديبلوماسيّة وربما هذا أبرز عامل أدّى إلى أن ينضج فعليا خيّار المصالحة الوطنية و جعلها خيارا لا رجعة عنه .
ولا يختلف في هذا الشارع الإسلامي عن الشارع القبائلي عن الشارع الديموقراطي والعلماني فالكل عازم على إنهاء الأزمة الجزائريّة وفي أقرب وقت لتنصرف الجزائر بعد ذلك إلى تقوية دورها السياسي و الديبلوماسي والإقتصادي وهي تملك كل الشروط المركزية والثانوية للقيام بهذا الدور وبجدارة , ولعلّ الشيئ الذي أفضى إلى بداية سير الجزائر في الإتجاه الصحيح هو تلاقي خيّار الراعي وهي السلطة بخيّار الرعيّة و هي هنا الشعب الجزائري وخيار الإثنين هو المصالحة الوطنية الشاملة التي ستضع حدّا لسنيّ الدماء والدموع , و هذا لا يعني أنّ هناك من يتربّص بالجزائر داخليّا وخارجيا و يريد وقف سيرها في الإتجاه الصحيح لكنّ التجارب السابقة وإستحضار العبر سيكون كفيلا بعصمة الجزائر من كل الموبقات .
وإذا إستكملت الجزائر هذه المرحلة ستكون قد أنهت فصلا أسودا من تاريخها و تنطلق في المرحة الثانية وهي إعادة البناء السياسي والإقتصادي وهذا يتطلب إشراك كل القدرات الجزائرية و الكفاءات و أصحاب الطاقة الذهنية لتقديم عصارة ما لديهم لصقل بناء الجزائر وإنتاج جزائر جديدة قوية في عالم يأكل فيه الكبار الصغار !!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية